انتهجت "إسرائيل"، بعد انتهاء حرب تموز/يوليو 2006، استراتيجية الإشغال الداخلي مع حزب الله، والتي كان لحلفائها، وخصوصاً الأميركيين وأدواتهم في المنطقة، دورٌ في محاولة تفجير أزمات داخلية كبرى بين حزب الله والداخل اللبناني، سواء داخل الحكومة أو حتى محاولة إيقاع خلاف مع الجيش اللبناني، حتى وصل الأمر إلى ما عُرف بأحداث السابع من أيار/مايو 2008، الأمر الذي زاد في تعقيدات معادلة الاشتباك بين "إسرائيل" وحزب الله، الذي حاول تكريس أولوياته في تلك الفترة تجاه ترتيب البيت اللبناني الداخلي. لذلك، اختار الردَّ المدروس تجاه "إسرائيل"، من دون الذهاب إلى عمليات عسكرية مفتوحة عند الحدود، من شأنها أن تؤدي إلى حرب.
نعتبر أن تفجير الأزمة السورية في عام 2011 يصبّ، في أحد أبعاده، في استمرار استراتيجية الإشغال الداخلي لحزب الله، بحيث كانت "إسرائيل" تراهن على أن من يدخل مستنقع القتال السوري لن يخرج منه، وسيتمّ إنهاكه ذاتياً. لذا، كانت تحاول، من خلال أدواتها في الإقليم، أن تُطِيل أمد الأزمة السورية مع محافظتها على خطوط حُمر تتعلق بمنع نقل أسلحة كاسرة للتوازن إلى حزب الله.
لكنّ المعضلة الإسرائيلية تجلّت في أن الأزمة السورية انتهت بعيداً عن توقّعاتها وتطلّعاتها التي خطّطت لها منذ البداية، وعاد حزب الله إلى لبنان أقوى من السابق، وأكثر التحاماً بالداخل والجيش اللبناني، بحيث أكّدت الأزمة السورية أن حزب الله حمى لبنان من أتون الجماعات الإرهابية التكفيرية. أمّا في المقلب الإسرائيلي، فإن المشهدَين السياسي والعسكري يسودهما اضطرابٌ منذ عام 2019 ، خصوصاً في معركة الجهوزية العسكرية التي بدأت منذ خطة "تيفين" عام 2012، مرورا بخطة "جدعون" عام 2015، وانتهاءً بخطة "تنوفا" عام 2019، ولم تصل بعدُ إلى درجة الاستعداد للذهاب إلى حرب مفتوحة مع حزب الله، وخصوصاً أنّه لم يعد التنظيم اللبناني المقاوم في الجبهة اللبنانية فقط، بل تحوّل إلى رأس حربة في محور مقاومة، ممتدّ من اليمن إلى العراق، مرورا بفلسطين وسوريا، وصولاً إلى إيران، الأمر الذي يجعل الحسابات الإسرائيلية لأيّ حرب ضد حزب الله مغايرةً لما سبق، وخصوصاً مع الوجود الروسي في المنطقة.
أدركت "إسرائيل" بأن حزب الله يشعر بمزيد من الثقة بالنَّفْس على ضوء المتغيرات الجديدة. لذا، يحاول فرض معادلة اشتباك وردع جديدة في مواجهة "إسرائيل"، مفادها أن أيّ اعتداء على أفراد الحزب في سوريا سيستدعي رداً عسكرياً من جانب الحزب ضد "إسرائيل". وبالتالي، يصبح لحزب الله حصانة أيضاً في سوريا، وليس فقط في لبنان، كما هي الحال منذ عام 2006.
أضف إلى ذلك استشعار بالخطر الاستراتيجي من مشروع تطوير حزب الله الصواريخَ الدقيقة، التي تُعتبر في نظرها كاسرةً للتفوق العسكري الإسرائيلي في مواجهته. لذا، باتت أمام خيارات معقَّدة: إمّا أن تذهب إلى ضربة عسكرية لا تعرف مآلاتها، ونتائجها صعبة وجبهتها الداخلية من المستحيل تحمّلها في مثل الأوضاع الحالية، وإمّا أن تفكر في العودة إلى سياسة الإشغال الداخلي، لكن هذه المرة في صورة أكثر شراسة، لأنها باتت تمتلك منظومة علاقات تطبيعية علنية، وحلف "صهيو-عربي" في المنطقة يحاول شيطنة حزب الله من خلال اللعب على البُعد المذهبي، مستغلاً الأزمة السورية في ذلك.
ومن خلال تلك الأدوات، استطاعت "إسرائيل"، في اعتقادنا، أن تمارس، بالتنسيق مع الأميركيين وحتى الأوروبيّين، سياسات الإشغال الداخلي، بدءاً بـ"قانون قيصر"، مروراً بتفجير ميناء بيروت، وصولاً إلى وضع شروط على أيّ قرض أو مساعدات من صندوق النقد الدولي أو الدول المانحة للبنان. جوهر تلك الاشتراطات أن يتم تحييد سلاح حزب الله وتفكيك قوته العسكرية. وعندما لم تنجح الخطة الصهيو-أميركية، كان خيار الفراغ السياسي وتدمير المنظومة الاقتصادية من خلال استهداف النظام المصرفي في لبنان، وكل تلك المشاهد التي نراها تتفاعل الآن داخل المشهد اللبناني.
داخل "إسرائيل" هناك توجُّهان: الأول يعتقد أن الظروف التي يعانيها لبنان ستجعل أولوية حزب الله الاهتمامَ بالشأن الداخلي اللبناني، ما يحرفه عن أولوية مواجهة "إسرائيل" وتغيير قواعد الاشتباك معها لمصلحته. وبالتالي، يصبح قرار الحرب شيئاً بعيداً جداً، وأن الأزمة اللبنانية، في حال استمرارها، ستؤثّر سلباً في مكانته كمدافع عن لبنان، بل يمكن أن تنجح استراتيجية شيطنة حزب الله وتصويره على أنه العائق أمام خروج لبنان من أزماته الخانقة، لاسيما بالنسبة إلى حاضنته الشعبية، الأمر الذي يجعل نزع سلاح حزب الله، كتنظيم مقاوم، أمراً وارداً، كما يحلم الإسرائيلي منذ انسحابه من جنوبي لبنان عام 2000.
أمّا التوجُّه الثاني في "إسرائيل"، فيعتقد أن حالة الفوضى في لبنان ستمنح حزب الله مزيداً من القوة ومن السيطرة على الجنوب وعلى الدولة، وأنه سيتمكّن من حَرف أنظار اللبنانيين عن أزماتهم وأخذها في اتِّجاه الحرب مع "إسرائيل".
في اعتقادنا، أن التوجُّه الأخير مصطنَع داخل الإعلام الإسرائيلي من خلال الدمج بين ثلاثة أبعاد، بعد أمني وبعد إعلامي وبعد دبلوماسيّ؛ أركان ثالوث استراتيجية المعركة بين الحربين، من أجل محاولة تحميل حزب الله مسؤولية أيّ تدهور في الأمور تجاه الحرب مع "إسرائيل"، إن حدث أي شيء خارج عن المألوف.
تحاول "إسرائيل"، في اعتقادنا، المزجَ بين التوجُّهين، مع تفضيلها استراتيجية الإشغال الداخلي، بحيث ليس لديها مصلحة الآن في الذهاب إلى حرب مع حزب الله، تبادر هي إليها، لأنها تُفسد في ذلك استراتيجية الإشغال الداخلي، وخصوصاً إذا علمنا بأن جيش الاحتلال الإسرائيلي سيتعامل، في أي حرب مقبلة، مع حزب الله والدولة اللبنانية والجيش اللبناني، ككيانٍ مُعادٍ واحد؛ بمعنى أن تدمير البنى التحتية للدولة اللبنانية سيكون هدفاً للمعركة إن حدثت. وبالتالي، على الأوروبيين والمجتمع الدولي، والأهم على اللبنانيين أنفسهم، أن يدركوا أن "إسرائيل" مَن يتحمّل مسؤولية ذلك.
لكن، في حال الإبقاء على استراتيجية الإشغال الداخلي، سيستمر مسلسل تدمير البنى التحتية وأركان الدولة اللبنانية. والمسؤولية عن ذلك سيحاولون إلصاقها بحزب الله.
هذه الفكرة الرئيسية لخطة "إسرائيل" التي تحاول تطبيقها في كل جبهات المقاومة، وهي تقوم على أن تتحول المقاومة إلى عبء على المواطن. وبالتالي، وفق هذا المخطَّط، فإنّ المواطن، تحت ضغوطات الحصار والأزمات الحياتية المفتعَلة، يكفر بفكرة المقاومة بحسب التصور الإسرائيلي!