شكلّت الهبّة الفلسطينية في شهر أيار الفائت، من بين أمور أخرى، بمثابة محكٍ لإخضاع العلاقات بين إسرائيل والولايات المتحدة إلى الفحص والتحليل على صعيد التحوّلات التي طاولت موقف الإدارة الجديدة في البيت الأبيض من جهة، وموقف الجالية اليهودية الأميركية من جهة أخرى. وفي الوقت عينه فإن هذه التحوّلات بدورها كانت بمنزلة إيذان ببدء حملة هجوم يمينية سرعان ما استعرت ضد تلك الجالية، كما سبق أن نوهنا في أكثر من مناسبة في الماضي القريب.
ويمكن القول إن الدور التدريجي الذي تقوم به جهات راديكالية أو ليبرالية في صفوف اليهود في الولايات المتحدة، إلى ناحية تغيير مواقف الحزب الديمقراطي الحاكم حيال إسرائيل، ويبدو أنه دور مُرشّح للاتساع، هو ما يُؤجّج زيادة وتيرة الهجوم اليمينيّ على هذه الجهات، التي تشمل في ما تشمل تصعيداً في حدّة اللهجة، وفي كيل الاتهامات.
تقف في رأس حملة الهجوم هذه صحيفة "يسرائيل هيوم" التي لا تنفك تركّز هجومها على ما ترى أنه مُستجدّ ومثير للقلق على مستوى الخطاب العام، أو على صعيد السردية، وبشكل خاص في محور ما يوصف بأنه "تبدّل المصطلحات"، الذي يؤول إلى طرح فحوى جديد لا سابق له، على غرار عدم الاكتفاء مثلاً بالحديث عن احتلال إسرائيلي بدأ في العام 1967، إنما أيضاً عن تكوّن نظام أبارتهايد، وكيف أن بعض من تطرقوا إلى آخر عملية عسكرية قامت إسرائيل بشنها في قطاع غزة فعلوا ذلك من خلال اعتبارها بأنها علامة دالّة على اتباع سياسة "تطهير عرقي" وحتى على انتهاج حملة "إبادة شعب".
وآخر هجوم مسعور قامت به الصحيفة كان يوم الأحد (15/8/2021)، واستهدف الكاتب الصحافي والأستاذ الجامعي اليهودي بيتر بينارت على خلفية دعوته في مقالة جديدة ظهرت في صحيفة "نيويورك تايمز"، إلى الكشف عن خطورة ما وصفها بأنها "ترسانة إسرائيل النووية"، وجاءت دعوته في سياق تقزيم قوة إيران النووية، واعتبرت فيه أن بينارت "مُعادٍ للسامية" و"يهودي يكره نفسه".
وأعادت الصحيفة إلى الأذهان أن بينارت سبق له أن نشر قبل أكثر من عام مقالة أخرى في "نيويورك تايمز" قال فيها إنه لم يعد يؤمن بـ"دولة يهودية"، وخلص فيها- في ضوء آخر مستجدات الأوضاع السياسية المتعلقة بقضية فلسطين- إلى استنتاج فحواه أن إسرائيل حسمت أمرها بأن تكون هناك دولة واحدة يعيش فيها ملايين الفلسطينيين بلا حقوق أساسية. "والآن"- أضاف- "حان وقتنا نحن الليبراليين الصهاينة لأن نتخذ قرارنا أيضاً: التخلي عن حلّ الدولتين وتبنى هدف الحقوق المتساوية لليهود والفلسطينيين. لقد حان الوقت لنتخيل أن مأوىً يهودياً لا يعني دولةً يهوديةً. إنه ليس طرحاً حالماً، وإن هدف المساواة هو الآن أكثر واقعيةً من هدف الفصل. إن تغيير الوضع الراهن يتطلب رؤيةً قويةً بما يكفي لإيجاد حركة جماهيرية. ودولة فلسطينية مُجزأة تحت تحكم إسرائيل لا تقدم هذه الرؤية، ولكن المساواة تستطيع".
كذلك لفتت الصحيفة إلى أن بينارت، ولدى وصوله إلى إسرائيل يوم 13 آب 2018 للمشاركة في احتفالات "بات ميتسفا" (بلوغ سن 13 عاماً) لابنة شقيقه، تم توقيفه في مطار بن غوريون الدولي مدة ساعة قام خلالها عناصر جهاز الأمن الإسرائيلي العام ("الشاباك") باستجوابه بشأن مواقفه السياسية. وقد اعتذر في حينه كل من رئيس الحكومة السابق بنيامين نتنياهو، ورئيس جهاز "الشاباك"، عن هذه الحادثة، ولكن بينارت لم يقبل أي اعتذار، وأشار إلى أن نتنياهو قدم نصف اعتذار، وأنه سيقبل اعتذاره حين يعتذر أمام جميع الفلسطينيين والأميركيين من أصول فلسطينية الذين يتعرضون يومياً إلى ما هو أسوأ من ذلك.
وسبق لبينارت أن رأى، في مقالة كان عنوانها "أزمة الصهيونية"، أن سياسة إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ 1967، إلى جانب التقهقر المتواصل للديمقراطية داخل تخوم الخط الأخضر، يتسببان بفقدان إسرائيل للجيل الشاب اليهودي في الولايات المتحدة.
إن ما نريد قوله بإيجاز هو أن ثمة تغيّرات في أوساط الجالية اليهودية الأميركية، وهي بلا أدنى شك موازية لتحوّلات تطرأ شيئاً فشيئاً في الولايات المتحدة وخصوصاً في صفوف الحزب الديمقراطي، لمصلحة قضية فلسطين والشعب الفلسطيني، وليس مبالغة أبداً وصفها بأنها حقيقية وجديدة. وهي مرتبطة أيضاً بعدة عوامل أخرى منها التغيير الديمغرافي، حيث أظهر آخر إحصاء سكاني للعام 2020 نُشر هذه الأيام أن الولايات المتحدة "أصبحت بيضاء أقل" وإن كان البيض ما زالوا يشكلون أغلبية سكان معظم الولايات. غير أن تأثير هذه التغيرات في تبديل مقاربة الولايات المتحدة حيال قضية فلسطين ما زال بحاجة إلى وقت.
في واقع الأمر فإن هذه المسألة- يهود الولايات المتحدة وإسرائيل- ليست جديدة وبالتأكيد لم تنشأ بسبب الهبّة الأخيرة، بل إن وقائعها متواترة منذ عدة أعوام وتراكمت إلى درجة تجعل من الصعب الحديث عنهما كتوأمين، وإن كان من السابق لأوانه أيضاً الحديث عنهما كضدّيـن.