• اخر تحديث : 2024-11-15 12:27
news-details
مقالات عربية

السّيطرة الإسرائيليّة على المياه.. ينابيع الضفّة الغربيّة كـ"مواقع ارتكاز" للممارسات الاستيطانية


تمكّنت إسرائيل بعد حرب العام 1967 واحتلالها لكلّ من الضفّة الغربيّة، قطاع غزّة، هضبة الجولان وشبه جزيرة سيناء، من فرض منظومة قانونية عسكريّة على الضفَّة الغربيَّة هدفت لتأسيس إطار قانونيّ واستراتيجيّة قوميّة صهيونيَّة للمشروع الاستيطانيّ في الضفَّة الغربيَّة لا يزال مستمرّاً حتّى اليوم. ومن بين هذه القوانين والأوامر العسكريّة، كان ثمَّة العديد من الأوامر العسكريّة والاستراتيجيات الاستيطانيَّة التي هدفت إلى السَّيطرة على الموارد المائيَّة الفلسطينيَّة والاستيلاء عليها لتخصيص الجزء الأكبر من المخزون المائيّ الجوفيَّ لصالح الاستخدام الاستيطانيّ والإسرائيليّ اليهوديّ، وحِرمان الفلسطينيين من حقّ الوصول أو استخراج مواردهم المائيَّة.
وطُبِّقَت هذه الاستراتيجيَّة، التي عادة ما يُشارُ إليها باحتلال الماء، من خلال الأوامر العسكريَّة من جهة، والتي مِنها الأمرُ العسكريّ رقم (92) الصَّادر في الخامس من آب 1967، أي بعد شهرين فقط على انتهاء الحرب، والذي نصَّ على سُلطة الحاكم العسكريّ الإسرائيليّ المُطلقة على كافَّة المسائل والقضايا المتعلّقة بالمياه في الأراضي المحتلَّة. ومن جهة أخرى، ظهر نظام إدارة المياه، وأجهزة حماية الطّبيعة والبيئة التي عَمِلتْ كخادِمةٍ للسياسات الاستيطانيَّة من خلال الاستيلاء على عديد الينابيع الفلسطينية ومحيطها البيئيّ وتحويلها إلى محميّات طبيعيّة وبيئيَّة بحُجَّة الحفاظ عليها، تطويرها وتحسين جودتها، بينما تُحوِّلُ الينابيع إلى مُرتكَزاتٍ نشاطاتٍ استيطانيَّة هدفت ولا تزالُ إلى الاستيلاء على الأرض أوّلاً، المياه الجوفيّة ثانياً، وتطبيع العلاقة مع الأرض المحتلَّة من خلال الاستخدام السياحيّ والترفيهيّ لهذه المواقع البيئيّة.  
ستبحَثُ هذه المقالة في السَّيطرة الإسرائيليّة على المياه الجوفيَّة وكذلك السَّيطرة الاستيطانية المتنامية على الينابيع في الضفَّة الغربيَّة، مستندةً إلى مقالة الباحث إروس برافرمان: "الينابيع الصامتة: طبيعةُ الماء واحتلال إسرائيل العسكريّ Silent Springs: The Nature of water and Israel’s military occupation"، والتي يُحلِّلُ فيها السَّيطرة الاستعماريّة الاستيطانية على الينابيع المائيَّة بوصف الينابيع مواقع ارتكازيّة للسيطرة الاستعماريَّة حولها وعبرها يتمّ تشكيل العلاقات الاستيطانية الاستعماريّة البشريَّة بالطّبيعة المُحتلَّة وإعادة إنتاج وظائفها ومعانيها الثقافيَّة غصباً.
 
السّيطرة الإسرائيليّة على مخزون المياه الجوفية
يشير الباحث إلى أن الاتفاقيّة التي وقّعتها إسرائيل مع السّلطة الفلسطينيّة العام 1995 كملحقٍ من ملاحق أوسلو، مأسست استغلال إسرائيل لمخزون المياه الجبليّ، وهو مورد المياه الجوفيّة الواقع تحت الضفّة الغربيّة وأجزاءٍ من أراضي 1948، ويُعدّ المورد المائي الوحيد المتبقي للفلسطينيين ومن أهمّ مصادر المياه الجوفيّة لإسرائيل. فقد نصَّت المعاهدة التي بموجبها تم تأسيس سلطة المياه الفلسطينيّة التابعة للسلطة الفلسطينيّة، وكذلك لجنة المياه المشتركة الإسرائيليّة- الفلسطينيّة، على أنَّه يجبُ الحصول على موافقة مسبقة من لجنة المياه المشتركة قبل البدء في أيّ مشروعٍ لاستخراج المياه الجوفيّة من المخزون الجبليّ أو أيّ مصدر آخر من مصادر المياه الجوفيّة في المناطق (C). كذلك نصّت المعاهدة على تخصيص 80% من موارد المياه الجوفيّة للاستخدام الإسرائيليّ، وتخصيص العشرين بالمئة المتبقّية للفلسطينيين. ويبيِّنُ تقرير لمنظمة Amnesty أنَّ إسرائيل تواصل بشكلٍ ممنهَجٍ الإفراط في استخراج المياه للانتفاع ذاتياً إلى حدّ يفوق كثيراً الحصيلة السنوية المستدامة للمخزون الجبليّ، ما يؤثِّرُ على جودة المياه ووتيرة تدفّقها إلى الآبار الفلسطينيَّة وما يؤثِّرُ سلباً على الكمّيات المُخصَّصة للفلسطينيين ويضطَّرهم إلى شراء الماء الذي تستخرجه إسرائيل من المخزون الجوفيّ نفسه لسدّ النقص في إمداداتهم المائيّة، وهو الماءُ الذي بإمكان الفلسطينيين استخراجه بأنفسهم لو سمحَتْ لهم إسرائيل بفعل ذلك. 
شكَّلت حرب العام 1967 بِداية السّيطرة الإسرائيليّة على موارد الفلسطينيين المائيّة بشكلٍ مُباشرٍ، بداية من حرمانهم من الاستفادة بأيّ شكلٍ من الأشكال من مياه نهر الأردن، وصولاً إلى فرض سيطرتها المُطلقة على مخزون المياه الجبليّ الذي ترافق مع إصدار حشدٍ من الأوامر العسكريّة التي عملت على تنظيم السّيطرة الاستعماريّة على الموارد المائيّة وشملت قواعد وتنظيماتٍ تتعلّقُ بنقل، استخراج، استهلاك، بيع أو توزيع الماء والسّيطرة على استخدامه، مشاركته وتقنينه، أو بناء بنية تحتية لاستخراجه كحفر الآبار الجوفيّة، وضرورة استصدار أذونٍ للعمل في كلّ ما يتعلّق بالموارد المائيّة سواء كانت داخل الأرض أو على سطحها، بما يشمل الينابيع، البرك، الأنهار والتيّارات المائيّة، وكذلك سعر وكمّية المياه المخصّصة للاستخدام الفلسطيني السكّاني أو الزّراعي في المناطق المحتلّة. وبالتّوازي مع الأوامر العسكريَّة المتعلّقة بالسّيطرة المُباشرة على الموارد المائيّة، ثمّة أوامر عسكريّة تؤثِّر بشكل غير مُباشر على الموارد المائيّة، ومنها الأمر العسكريّ رقم 1015 للعام 1982، والذي يسمحُ للحاكم العسكريّ بمنع زراعة أشجار الفاكهة في الضفّة الغربيّة "للحفاظ على الموارد المائيّة والإنتاج الزراعي"، واستناداً إلى القرار الذي لم يُفعَّل بالممارسة فإنّ الأشجار المزروعة أصلاً يجبُ تسجيلها والحصول على رخصة زراعة لكلٍّ منها خلال 90 يوماً من تاريخ صدور الأمر، أمّا الأشجار غير المُرخَّصة فيجبُ اقتلاعها على نفقة صاحبها. 
على الجانب الآخر، مكَّنت الحكومات الإسرائيليّة المُتعاقبة المستوطنين اليهود من إنشاء البنى التحتيّة اللازمة لاستخراج المياه للاستخدام الاستيطانيّ ومنحتهم التّصاريح اللازمة لحفر عدد من الآبار مُساوٍ للآبار الفلسطينيّة الموجودة أصلاً، وهي الممارسة التي قلَّصت من تدفّق المياه الجوفيّة المُستخرجة من قبل الفلسطينيين وزادت من ملوحتها. وتتفاقم حالة اللاعدالة في توزيع المياه بين الفلسطينيين والمستوطنين بسبب نُدرة المياه المتدفّقة، وهي الحالة التي نشأت نتيجة للممارسات الصهيونيَّة المُفرطة في استخراج المياه وتخصيصها للمشاريع الاستيطانية الزّراعية وغير الزّراعية ما أثَّر على مخزون المياه الجبليّ. فوفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة، انخفضَ تدفقّ 530 ينبوعاً في الضفّة الغربيّة بشكلٍ كبيرٍ في العقود الأخيرة، مع وجود ما يقرب من 20% منها في حالة انخفاض تدفّقٍ كبيرة. ويُشيرُ التّقرير إلى أنّ هذا الانخفاض هو نتيجة لسنوات متكرّرة من قلّة هطول الأمطار، والتي تفاقمت بسبب الإفراط في الاستخراج من قبل إسرائيل من مياه الآبار الجوفيّة الموجودة في كلّ من الضفّة الغربيّة وإسرائيل. وقد تأثَّر الفلسطينيون بشكلٍ خاصّ بنُدرة المياه المرتبطة بنقص متزايد في المياه الجوفيّة، في ظلّ حرمانهم من الوصول إلى مصادر مياه أخرى كنهر الأردن، أو إمكانيّة إنشاء محطّات تحلية مياه قُبالة بحر غزّة، فكانَ معدّل استهلاك الفلسطينيين للمياه (في 2015) 84.3 لتر للفرد الواحد يومياً، وهو أقلّ من الـ100 لتر المُوصى بها من قبل منظّمة الصحّة العالميّة، في حين وصل معدّل استهلاك المستوطنين في الضفّة الغربيّة إلى 300 لتر يومياً للفرد الواحد.      
الينابيع كمواقع ارتكازيّة للبنية الاستعماريّة البيئيّة
تُوظِّفُ السياسات الاستعماريَّة الينابيع كمواقع ارتكازيّة استعماريَّة من ناحية، ومن ناحية أخرى، كأدوات تطبيع وطَبَعنة (من الطّبيعة) ترفيهيّة وروحانيّة من ناحية أخرى، كما يعتقدُ برافرمان. فقد أسهَمَ التطوّر التكنولوجيّ الإسرائيليّ في مجال تحلية مياه البحر في التوقّف عن رؤية الينابيع كمصدر مياه لا يُقدّر بثمن، أو مصدرٍ من مصادر الحياة بالنّسبة للإسرائيليين، ما أتَاحَ تغيُّراً عميقاً في موقع الينابيع من السياسة الاستيطانيّة. ففي حين اعتمدت إسرائيل العام 2004 على المياه الجوفيّة والأمطار بشكلٍ كلّي، فقد شغَّلت في العام 2018 خمس محطّات تحلية للمياه، ومنها أكبر وأضخم محطّة في سوريك، وفي ذلك العام استهلكت النباتات ما يُقارب 70% من المياه الجوفيّة الصالحة للشرب. ومكَّنت تقنية تحلية المياه إسرائيل من الدّخول فيما يوصَفُ بـ"نشوة المياه"، وطرأ تغيُّر عميق على معنى الينبوع إسرائيلياً؛ فمن مصدَرٍ من مصادر الحياة، إلى موقعٍ سياحيّ، روحانيّ، ترفيهيّ، وكذلك إلى موقع ارتكازٍ من حوله وعبره تنشأ بنى استيطانية إحلاليَّة تُعيدُ إنتاجَ الينبوع بيئياً وثقافياً وتُعيدُ خلق العلاقات البشريَّة بالطّبيعة من حوله. فقد انهمكت السّلطات الاستعماريَّة منذُ العام 1967 في تحويل الينابيع ومحيطها البيئيّ إلى محميّات طبيعيّة ومتنزّهات وطنيّة إسرائيليّة، محوّلة وظيفتها الأصلية ومعناها الثقافيّ السّابق على وجود الاحتلال؛ حيثُ خدمت هذه الينابيع ومحيطها البيئيّ كمواقع تلاق اجتماعيّة، واستخدمت مياهها لأغراض الزّراعة والاستخدام البشريّ من قبل الفلسطينيين الذين يسكنون القرى المجاورة لها. لكنَّ استهدافها كمواقع بيئيَّة يجبُ الحفاظ عليها وحمايتها من التدهور – بحسَبِ زعم الرّواية الصهيونيّة- عَمِلَ على تحقيق ثلاثة عناصِرٍ أساسيّة تُشكِّلُ مجمل سياسة الاستيلاء المنهجيّة الصهيونيّة على الينابيع: (1) حِرمان الفلسطينيين بشكلٍ مُباشرٍ وغير مُباشرٍ من الانتفاع بالينابيع كمواقع بيئيّة أو مصادر أساسيّة من مصادر الماء اللازم للشرب والزراعة، (2) تأسيس تجمّعات استيطانيّة قريبة ومجاورة وتحويل الينابيع إلى مواقع إعادة إنتاج للعلاقات البشريّة بالطّبيعة من خلال جعلها مواقع للنُزهة الصهيونيَّة والاستجمام والتّطهّر اليهوديّ الدينيّ الأرثوذكسيّ، بعد أن كانَتْ جُزءاً من مشهَدِ العلاقات البشريّة الأصلانيَّة الفلسطينيّة بالمكان، (3) استخدام هذه المواقع من خلال جذبِها السّياحيّ إلى أدواتِ تطبيعٍ من ناحية جذبِ الإسرائيليين الذين يعيشون في أراضي 1948 إلى الضفّة الغربيَّة ما يُسهِمُ في تطبيع الاحتلال Normalizing من جهة، ومن جهة أخرى يُسهِمُ في طَبْعَنَة Naturalizing الحُضور الاستيطانيّ في الضفّة الغربيّة، ومحاولة تحويل البُنى الاستيطانيّة الفيزيائيّة والتدخّل البشريّ الاستعماريّ في طبيعة المكان إلى شيءٍ طبيعيّ ينتَمِي إلى طَبيعةِ المكان الأصليَّة. 
ينطبقُ هذا التحليل بشكلٍ مباشر على حالة وادي القلط، الذي حُوِّل إلى متنزّه وطني إسرائيليّ يُمنعُ على الفلسطينيين دخوله إلَّا بصعوبة بالغة، بينما يُسمَحُ للمستوطنين بدخوله بكلّ حرّية ومجّاناً، في حين يتوجّب على الفلسطينيين دفع ثمن تذكرة الدّخول كاملاً. في الوقت عينه، تُحيطُ الوادي أربع مستوطنات إسرائيليّة، بُنيت حول ينابيعه ليُحوَّل إلى حيِّزٍ بيئيّ استيطانيّ يهوديّ بالمُطلق. ويتقاطع نموذج الاستيلاء الاستعماريّ المتمحور حول الينابيع ومحيطها البيئيّ، مع نماذج استيلاء أخرى كالمحميّات الطبيعيّة، المتنزّهات الوطنيّة والمواقع الأركيولوجيّة في المناطق المُشار إليها بالمناطق (C) في الضفّة الغربيّة المحتلّة، وكذلك تتشابه مع ممارسات الاستيلاء التي طبّقت في أراضي 1948. فمن خلال تعيينها كمحميّات طبيعيّة، يُعاد إنتاج الينابيع ومحيطها من كونها محطّ استخدام محلّي للزراعة واللقاء الاجتماعيّ، إلى محميّات طبيعيّة، أو حيِّزٍ عامّ – والعُموميّة هُنا تعودُ إلى العُموميّة المُنتجَة من قبل المؤسسة الإسرائيلية الاستعماريّة الرسميّة، ما يجعلُ من العُموميّة بما تعنيهِ من انتفاعٍ مجّانيّ محصورة بمجموعة قومية واحدة هي اليهود وليس الفلسطينيين.
يعتقد برافرمان أنَّ ثمّة عمليّة جارية ومُتصاعدة لتطوير، تنمية وتطبيع ما يقرب من 530 ينبوعاً في الضفّة الغربيّة وتحويلها إلى جزء من التراث اليهوديّ، وهذه العمليّة تشملُ الينابيع غير المُصادرة بعد والواقعة خارج المحميّات الطبيعيّة والمتنزّهات الوطنيّة الإسرائيليّة في الضفة الغربيّة. تُركِّزُ هذه العمليّة على تطوير استراتيجيّة دعائيّة تُهمِلُ الوضعيّة القانونية الجغرافية الخاصّة بهذه الينابيع، وتركِّزُ على جاذبيّتها السياحيّة، الترفيهيّة والاستجماميّة، بحيثُ تصلُ إلى مُضاعفة وتطبيع الحُضور اليهوديّ في الضفّة الغربيّة من خلال التّرويج لهذه الينابيع كمواقع جذبٍ لمحبّي التسلّق والطّبيعة من الإسرائيليين لغاية تطبيع علاقة الإسرائيليين بالمستوطنات والوجود الاستيطاني والتّفكير بها كجزءٍ من "إسرائيل الكُبرى".
تكمُنُ خطورة هذه السّياسات في أنّ عملية تطبيع الينابيع كمواقع سياحيّة قد حدثت من خلال تضمينها كجزءٍ من مشروع حماية البيئة الإسرائيليّ، ما يمنحُ للعمليّة طابعاً مُحايداً حميداً قد لا يظهرُ في أمثلة أخرى لمحاولة تطبيع وتطويع الضفّة الغربيّة. فكونها جزءاً من المشهد الطبيعيّ وتُستخدَمُ ظاهرياً للإمتاع والاستجمام وليس للإخضاع، فإنّ الينابيع تمكِّنُ من عمليّة محو استعماريّة شديد الفعاليّة لما كان موجوداً من علاقةٍ محلّية بين الينبوع ومحيطه البيئيّ الاجتماعيّ الأصلانيّ. ومع ذلك، وبرغم فعاليّة هذا المحو، فلا يزال غير مُكتمل الأثر، ولم ينجح تماماً في تحويل الضفّة الغربيّة إلى ذلك المتنزّه الوطنيّ الإسرائيلي الآمن والطّبيعيّ؛ فبسبب الهبّات المتتالية في الضفّة الغربيّة واستمرار ممارسات الاحتلال العنيفة والمقاومة الفلسطينيّة التي تُجبِرُ هذه الممارسات على الظّهور وتُبقِي على وحشيّة الاحتِلال وعلى سياساته العنصريّة في حالة انكِشاف، لا يزالُ العديد من الإسرائيليين ينظُرون إلى الضفّة الغربيّة كحيّزٍ غير آمنٍ ويمتنعون عن زيارتها، سواء لزيارة الينابيع أو غيرها من المواقع التي تروِّجُ لها وكالات السياحة الاستيطانيّة والإسرائيليّة.
الرّواية البيئيّة الاستعماريَّة كأداة لتبرير الاستيلاء
يُوضِّحُ تقرير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانيّة الصَّادر العام 2012 تفاصيل الاستيلاء المنهجيّ على ينابيع الضفّة الغربيَّة ومُصادرة ملكيّات الأراضي الخاصَّة بالفلسطينيين، فيُشيرُ إلى أنّ ما يقربُ من 55 ينبوعاً في المناطق المجاورة للمستوطنات الإسرائيليّة قد أصبحت في تلك الفترة أهدافاً معتادة للنشاطات الاستيطانيّة، ما جعل وصول الفلسطينيين إليها أكثر صعوبةً مما كان عليه في السابق، وفي بعض الأحيان غير ممكن على الإطلاق. ويُميِّزُ التقرير بين نوعين من الينابيع، تلك المُستولى عليها بشكلٍ مباشر من قبل السلطات الإسرائيليّة، وتلك المُسيطر عليها من قبل المستوطنين. ومن بين الـ55 ينبوعاً، ثمَّة 30 ينبوعاً تخضعُ بالكامل لسيطرة المستوطنين في حين أنّ ثمّة 25 ينبوعاً مهددة بالاستيلاء الاستيطانيّ. وما يقرُبُ من 84% منها، أي 47 ينبوعاً، تقعُ في أراضٍ تعود ملكيّتها، بحسب الإدارة المدنية الإسرائيليّة، إلى الفلسطينيين.
وبالتّوازي مع عمليّات الاستيلاء الاستيطانيّة على الينابيع ومحيطها البيئيّ، طوّر المستوطنون رواية استعماريّة تدّعي أنّ الاستيلاء على هذه الينابيع يأتي مدفوعاً بالحرص البيئيّ على إصلاحها، حمايتها وتحسين جودة المياه المُستخرجة منها؛ أيّ أنّ الاستيلاء الاستيطاني مدفوع بتطوير هذه المواقع منعاً لزوالها ودمارها الذي يتسبَّب به الفلسطينيون، بحسب الرواية الصهيونيّة. فأوّلاً يحدُثُ الاستيلاء، ويتبعهُ حرمان الفلسطينيين من أرضهِم والوصول إلى الينابيع بالتّوازي مع بناء شبكة طرقٍ تحيطُ بالينابيع وتؤدِّي إليها تُخصَّصُ للمستوطنين، ومع إنشاء بنية تحتيّة للينابيع من بركٍ لتجميع المياه المستخرجة، طاولات ومقاعد للتنزه، تثبيت لافتات بأسماء المواقع وتنظيم زيارات ورحلاتٍ استيطانيّة دوريّة للمواقع التي أصبحت خاضعة للسيطرة الاستيطانيّة بالكامل وتتبع للهيئات والأجسام الاستيطانيّة الخاصّة بالمستوطنات المحيطة والمجاورة. كذلكَ يُمنَحُ الينبوع "المطوّر/ المُستعاد" اسماً عبريّاً، عادة ما يكون مشتقاً من اسمه العربيّ أو يكون اسم شخصيّة إسرائيليّة بارزة كجزءٍ من ممارسات التخليد الصهيونيّة.
بهذه الرّواية توظّف المؤسسة الاستيطانية وحشدُ الممارسات الاستيطانيّة الخطاب البيئيّ التطويريّ لتبرير ممارسات الاستيلاء والسَّيطرة، مُقيمةً فصلاً صارِماً بين عالمَين، أحدهُما مُتطوِّر أوروبيّ يكترثُ بالنّظام البيئيّ ويُحافظ عليه، والآخر مُتخلِّفٌ وتتسبَّبُ سيطرته على هذه المواقع بدمارها. أيّ أنّها تخلُقُ مخيَّلة بيئيّة استعماريّة تُبرِّرُ بدورها حالة المنع والإقصاء للفلسطينيين من الوصول إلى هذه الأماكن، لأنّهم يشكِّلون خطراً على الحالة التي خلقتها المؤسسة الاستيطانية، حالة التطوّر وإمكانيّة الإمتاع التي توفِّرها هذه المواقع بعد فرضِ السّيطرة الصهيونيّة عليها. وهنا تشتغل الادّعاءات البيئيّة الصهيونيّة في خدمة الآلة الاستعمارية الاستيطانية، من خلال ادّعاء حماية البيئة وتحسينها وبالتّالي شرعيّة السَّيطرة عليها.