تواجه حركة "النهضة" التونسية في هذه الآونة واحدة من أكبر الأزمات وأكثرها تعقيداً وصعوبةً منذ تأسيسها، لأن الحركة الآن لا تحاول التحرك فقط من أجل الحفاظ على حضورها السياسي والاجتماعي في المشهد التونسي، بل تكافح من أجل الحفاظ على تماسكها التنظيمي وبقاؤها، وذلك بعد تقدم 131 عضواً من أعضاءها باستقالاتهم على مدار الأيام الماضية [1]، بما في ذلك قيادات من الصف الأول، على غرار عبد اللطيف المكي وسمير ديلو ومحمد بن سالم، وعدد من أعضاء مجلس النواب المُجمد مثل جميلة الكسيكسي والتومي الحمروني ورباب اللطيف ونسيبة بن علي، فضلاً عن عدد من أعضاء المجلس الوطني التأسيسي مثل آمال عزوز، وبعض أعضاء مجلس الشورى الوطني ومجالس الشورى الجهوية والمكاتب الجهوية والمحلية.
وقد عززت هذه الاضطرابات التي تعاني منها الحركة الإسلامية التونسية، من الحاجة إلى تسليط الضوء على بعض الاعتبارات التي يمكن في ضوءها فهم هذه الاستقالات، فضلاً عن بيان محاور الخلاف الرئيسية بين أعضاء الحركة وقياداتها، والتداعيات المحتملة لهذه الخلافات البينية على مستقبل الحركة.
اعتبارات عديدة
يمكن الاستناد إلى جملة من الاعتبارات والأسباب المعلنة وغير المعلنة في قراءة هذه الاستقالات، وذلك على النحو التالي:
1- الفشل في الإصلاح الداخلي: أشار أعضاء وقيادات "النهضة" في بيان الاستقالة الخاص بهم، إلى أن أحد الأسباب الرئيسية لهذه الاستقالة هو "الفشل في الإصلاح الداخلي للحركة، والإقرار بتحمل القيادة الحالية المسئولية عما وصلت إليه الحركة من عزلة".
ولا يمكن قراءة هذا السبب بمعزل عن المقاربة التي تبناها زعيم الحركة راشد الغنوشي منذ 25 يوليو الماضي (2021) للتعاطي مع تداعيات التطورات السياسية التي تشهدها البلاد على الحركة، وهي المقاربة التي استهدفت تحقيق جملة من الأهداف على مستوى حركة النهضة، ومنها:
- الحيلولة دون محاسبة قيادة الحركة – ممثلةً في شخصه – على القرارات والسياسات التي أوصلت البلاد والحركة إلى هذه الحالة.
- الحفاظ على التماسك التنظيمي للحركة والتراتيبية الخاصة بها خصوصاً ما يتعلق بوجوده على رأس الحركة، وذلك عبر احتكار عملية صنع القرار، وتهميش الأصوات المخالفة له، وإعاقة كل محاولات الإصلاح الداخلي التي تصاعدت بعد 25 يوليو، وهو ما تجسد في قرار الغنوشي في 23 أغسطس الفائت بحل المكتب التنفيذي للحركة، والتحرك من أجل إعادة تشكيله [2].
وقد أدت هذه المقاربة –التي يتبناها الغنوشي منذ سنوات– إلى سيطرة التيار "المحافظ" أو "المتشدد" على الحركة، وتهميش وإقصاء الجناح الإصلاحي داخل النهضة، وهو الجناح الذي طالب الغنوشي بالاستقالة للحفاظ على ما تبقى من هيكل الحركة، والإعلان عن عقد المؤتمر العام في أقرب وقت لاختيار قيادات جديدة شابة.
2- الصراع الجيلي داخل "النهضة": تسيطر حالة من الغضب على الأجيال الأصغر سناً داخل حركة "النهضة"، تجاه شيوخ الحركة وصقورها، وقد انفجرت هذه الحالة وصعدت إلى السطح مع مرحلة ما بعد 25 يوليو، على نحو انعكس في البيان المُسمى بـ "تصحيح المسار"، إذ وقع 130 شاباً من الحركة بياناً في أواخر يوليو الماضي[3]، اتهموا فيه قيادة الحزب وعلى رأسهم الغنوشي بالفشل والتقصير، وطالبوا فيه بضرورة "تغليب المصالح الوطنية التونسية على الحسابات الضيقة لقيادات الحركة"، لكن الغنوشي لم يلتفت إلى هذه الدعوات.
3- غياب التماسك الأيديولوجي والسياسي عن الحركة: على عكس ما تروج له قيادات حركة "النهضة"، تعاني الأخيرة من تباينات واختلافات كبيرة على المستوى الأيديولوجي والسياسي، وهى التباينات التي كشف عنها من قبل النائب الأسبق لرئيس الحركة عبد الفتاح مورو، في حوار له مع صحيفة "المغرب" في 27 أغسطس 2011، حيث صنّف مورو في الحوار الإسلاميين داخل الحركة إلى ثلاث فئات:
- فئة لا تؤمن بالديمقراطية وتستعملها للوصول إلى الحكم لا غير.
- فئة تؤمن بـديمقراطية فئوية إقصائية.
- فئة تستعمل الديمقراطية لمصالح ذاتية.
وأشار مورو في هذا الحوار إلى أن هنالك جناحاً متشدداً داخل "النهضة" وصفه بـ"أصحاب الشرعية السجنية"، هو الذي يتحكم عملياً في الحركة ويقودها، وأفاد مورو حينها بأن قائد هذا الجناح هو "علي العريض" القيادي الكبير بـ"النهضة"، والذي عُين من قبل وزيراً للداخلية في حكومة حمادي الجبالي، ثم خلف الأخيرة في رئاسة الحكومة حتى استقالته في 9 يناير 2014، على نحو يعكس أن البنية التنظيمية لحركة "النهضة" سواءً على مستوى القيادات أو القواعد، غير متماسكة أو متفقة على المستوى الأيديولوجي أو السياسي، وهو الاعتبار الذي يجعل مثل هذه الاضطرابات والانقسامات أمراً طبيعياً لكنه يحتاج فقط إلى سياق يحفز تفاقمه وظهوره.
4- الإقرار بالمسئولية عن مآلات الأوضاع في تونس: يتمثل أحد الأسباب التي دفعت باتجاه تصاعد الاستقالات داخل حركة "النهضة"، والتي عبّر عنها بيان الاستقالات نفسه، في الاعتراف بـ"المسئولية الكبيرة للحركة عن ما آلت إليه الأوضاع في البلاد من تردِ بشكل عام"، مما استدعى تدخل الرئيس قيس سعيّد، بتجميد عمل البرلمان ورفع الحصانة عن أعضاءه، وإعفاء عدد من المسئولين من مناصبهم، فضلاً عن بدء عملية تطهير ومحاسبة شاملة لكافة الأطراف.
محاور الخلاف الرئيسية
تركزت الخلافات التي دفعت قيادات حركة "النهضة" وشبابها إلى تقديم استقالاتهم، حول ملفين رئيسيين، هما:
1- كيفية التعاطي مع مرحلة ما بعد 25 يوليو: برز تباين واضح بين شباب حركة "النهضة" والاتجاه الإصلاحي داخلها، وإدارة راشد الغنوشي فيما يتعلق بكيفية التعاطي مع تطورات الأوضاع في تونس. ففي الوقت الذي يتبنى الاتجاه الأول "الإصلاحي" مقاربة تقوم على فكرة "الصبر وامتصاص الصدمة والرجوع خطوة إلى الوراء"، يتبع الغنوشي والمحيطون به مقاربة غير واضحة المعالم تمزج بين اللجوء للتصعيد تارةً، والبراجماتية السياسية تارةً أخرى، وهو الأمر الذي يجعل الغنوشي يتخذ في بعض الأحيان مواقف متناقضة. جدير بالذكر أن دعوة الغنوشي مطلع أغسطس الماضي، للنزول إلى الشارع، والإشارة إلى إمكانية استخدام العنف[4]، كانت أحد العوامل الرئيسية التي أدت إلى إصدار شباب "النهضة" لبيان "تصحيح المسار"، حيث نظر الشباب والإصلاحيون إلى ذلك على أنه دعوة واضحة لممارسة الإرهاب، وزعزعة الأمن والاستقرار، في الوقت الذي يرى هذا الاتجاه أن أولى خطوات معالجة الأزمة تتمثل في "تفهم حالة الاحتقان والغليان التي يعيشها الشارع التونسي، بسبب فشل الحركة في تلبية تطلعات ومطالب الشعب"، و"تشكيل خلية تحظى بقبول شعبي لإدارة الأزمة بما يضمن تحمل مسئولية الأخطاء التي ارتكبت، وتأمين العودة السريعة لنشاط المؤسسات الدستورية واستئناف المسار السياسي"، مع "محاسبة قيادات الحركة الذين أوصلوا البلاد إلى هذه المرحلة".
2- النهج "السلطوي" للغنوشي في إدارة الأزمة: تفتقد حركة "النهضة"- كسائر أفرع الإخوان المسلمين في المنطقة- للشفافية فيما يتعلق بمسائل الترقية الداخلية، وعملية صنع القرار، إذ يحتكر الأمرين مجموعة ضيقة من شيوخ الجماعة بكافة أفرعها، وقد وجد شباب الحركة في المتغيرات التي صاحبت قرارات الرئيس قيس سعيّد في 25 يوليو، فرصة للمطالبة بتنحي هذه القيادات جانباً، ومحاسبتها على أخطائها، وإفساح المجال أمام الشباب والإصلاحيين لقيادة المرحلة المقبلة، لكن هذا الاتجاه فوجئ بالنهج السلطوي الذي تعامل به الغنوشي مع مطالبهم، حيث ضرب عرض الحائط بهذه المطالب، وأعلن عن حل المكتب التنفيذي للحركة، مما فاقم الأزمة الداخلية، وزاد من الانشقاقات والتوجه نحو الاستقالة.
مستقبل غامض لـ"النهضة"
تعتبر المرحلة الحالية التي تمر بها حركة "النهضة" هى الأصعب في تاريخها، وذلك في ظل أفولها السياسي، وتراجع شعبيتها، فضلاً عن تفاقم أزماتها البنيوية، وهو ما يطرح بعض السيناريوهات التي يمكن أن تتجه إلى أحدها، وذلك على النحو التالي:
1- استمرار الاستقالات: مع يأس قواعد الحركة والاتجاهات الداخلية المعارضة لـ"الغنوشي"، من إمكانية إجراء إصلاحات داخلية، ربما تتصاعد حركة الاستقالات، ويتجه المستقيلون لتأسيس كيان سياسي جديد. وبالفعل أشارت تقارير عديدة [5] إلى أن القيادات المنشقة عن الحركة تستعد لتأسيس حزب جديد، وعلى رأس هؤلاء: القيادي المستقيل سمير ديلو، وعبد اللطيف مكي، ومحمد بن سالم. ووفق هذه التقارير، تعكف لجنة من القيادات المستقيلة ومعها سياسيون من تيارات أخرى على دراسة الإجراءات القانونية والتمهيدية لتأسيس الحزب وفق ما يحدده الدستور وينص عليه قانون تنظيم الأحزاب، لكن الأمر كله ما يزال قيد المناقشات، في انتظار استقرار الوضع السياسي في البلاد إلى حد يسمح بتدشين الأحزاب والدعاية لها، لاسيما مع ظهور تكهنات لا تستبعد احتمال تعديل الدستور.
2- تصعيد الملف القضائي: ربما تؤدي هذه التطورات إلى إعادة فتح الملفات القضائية التي ارتبطت باسم حركة "النهضة"، على نحو قد يؤدي في النهاية إلى مسارات لا تتوافق مع حسابات قياداتها، لاسيما فيما يتعلق بالتفكك، حيث لا تستبعد اتجاهات عديدة أن يعاد فتح قضايا مثل التمويل الأجنبي والاغتيالات السياسية التي شهدتها تونس في عام 2003.
3- الاستمرار مع التراجع: حال عدم تفكك حركة "النهضة"، يمكن أن يستمر الغنوشي في قيادتها، مستغلاً في ذلك سيطرته على مواردها المالية، والقبول الذي يحظى به لدى التنظيم الدولي للإخوان.
ختاماً، يمكن القول إن الأزمة السياسية الراهنة التي تشهدها تونس، وما ارتبط بها من غضب شعبي وسياسي تجاه حركة "النهضة"، أدت إلى خروج الأزمات البنيوية العميقة للحركة إلى العلن، وهي الأزمات التي قد تتفاقم في الفترات المقبلة، بسبب تغليب قيادة الحركة لحسابات ومصالح ضيقة، وعدم احتوائها لهذه الأزمات بالشكل الأمثل الذي يراعي المصالح الوطنية، بالتوازي مع عدم التعلم من أخطاء الماضي.