يجمع "خبراء المناخ" في العالم على أنَّ قمة المناخ تشكّل "الفرصة الأخيرة" لمعالجة التغير المناخي، والسيطرة على الاحتباس الحراري، وإبقاء درجة حرارة الكوكب تحت سقف "1،5 درجة مئوية" خلال القرن الحالي. وقد شكَّلت جائحة كورونا عائقاً أمام انعقاد المؤتمر السنوي العام الماضي، الذي كان من ضمن طموحاته "وضع حدٍّ لارتفاع متوسط درجات الحرارة بما لا يتجاوز درجتين مئويتين"، واستمرت الدول الصناعية والنامية على السواء باستخدام الوقود الأحفوري بمعدلات عالية، وانتقل العالم من مرحلة "مواجهة التحديات المناخية إلى العيش في ظل حالة طوارئ مناخية".
السؤال الجوهري يكمن في تحديد جذر تدهور أزمة المناخ، فهل يعود إلى انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقيّة باريس، مثلاً، وتخلّفها عن المساهمة الفعّالة، أو الإخفاق الجمعي في التوصل إلى قرارات دولية ملزمة، أو عوامل أخرى؟
الإجابة الأقرب إلى الوقائع والظروف الدولية المعقّدة أوجزها محرّر الشؤون الاقتصادية في صحيفة "ذا غارديان" البريطانية، لاري إليوت، الذي حمّل المسؤولية للنظام "الرأسمالي وخصوصاً في شكله الأنكلو - ساكسوني المهيمن، الذي يتعذّر عليه التفكير أبعد من المرحلة الراهنة المُعيشة"، وذهب إلى أبعد من ذلك قائلاً: "أولئك الذين يترأسون الشركات الكبرى، يعتبرون أن وظيفتهم تكمن في استدرار أقصى معدلات الأرباح في المدى القصير، ولو أدّى ذلك إلى أضرار مستدامة في النظام البيئي العالمي"، وهو ما أطلق عليه الاقتصاديون "التدمير الخلاق" ("ذا غارديان"، 16 آب/أغسطس 2018).
تحرص الدول الصناعية الكبرى على الظهور بمظهر "فاعل خير"، وتعلن دوماً حجم "تبرعاتها" للشرائح الاجتماعية المتضررة من تغوّل النظام الرأسمالي. وقد أرست مفهوم "وعدها بالتبرع" بموارد ضروريّة لمصلحة الدّول الأقل حظاً، وهي الأغلبية، كي تعينها على "التأقلم" مع متغيرّات المناخ، بنحو 100 مليار دولار سنوياً، "لكنها لم تفِ بوعودها".
منظّمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية "أونكتاد" أجرت دراسات متواصلة للتوقّف على حجم الاستثمارات المطلوبة عالمياً لمعالجة تداعيات المناخ، واعتبرت أنَّ المطلوب هو نحو "200 مليار دولار سنوياً"، وأن الرقم سيستمرّ بالارتفاع بالتوازي مع ارتفاع درجات الحرارة "إلى نحو 300 مليار دولار سنوياً لغاية العام 2030، و500 مليار دولار للعام 2050".
للتوضيح، إن الاستثمار بنحو 300 مليار دولار لتحسين أداء البيئة يعادل كلفة ما تعرَّضت له الولايات المتحدة من أضرار بيئية لبضع سنوات بعيدة. كما بلغت الخسائر لخمس سنوات متتالية (2016-2020) أكثر من 600 مليار دولار. أما ما تعرّضت له من خسائر بيئية "منذ العام 1980 ولغاية 2021"، فقد بلغ أكثر من تريليوني دولار، بحسب البيانات الرسمية ("الهيئة الوطنية لشؤون المحيطات والمناخ"، 8 تشرين الأول/أكتوبر 2021).
الرئيس الأميركي جو بايدن في وضع سياسي داخلي لا يحسد عليه، فهو لا يزال يواجه معارضة قوية من أقلية من داخل حزبه الديمقراطي تحرمه من تمرير خطته الاقتصادية الطموحة لترميم البنى التحتية المتهالكة والاستثمار في البرامج الاجتماعية والصحية، وكان يرمي إلى حضور قمتي مجموعة الـ20 الصناعية في روما والمناخ في استكتلندا من موقع قوي، متسلحاً بعزم الولايات المتحدة على الاستثمار الإيجابي في الحد من الاحتباس الحراري، لكن حسابات الحقل لم تسعف حسابات البيدر، وما زالت خطته التنموية تواجه عقبات داخل معسكره الديمقراطي.
كما أفاد أحدث استطلاعات للرأي، 31 تشرين الأول/أكتوبر 2021، بتراجع شعبيته بنسبة ملحوظة، إذ يعارض 60% توجهاته الاقتصادية، وتنبئ نتائج الانتخابات المحلية في ولاية فرجينيا، المجاورة للعاصمة واشنطن، بأداء أفضل للمنافس الجمهوري لمنصب مجلس الشيوخ، ما سيشكل مؤشراً أكبر على خسارة الحزب الديمقراطي لغالبيته الضئيلة في مجلس الشيوخ (شبكة "أن بي سي" للتلفزة).
تراجع شعبية الرئيس بايدن إلى 42% يشكّل، بحسب المختصّين، نسبة أدنى من أيِّ رئيس في ولاية سنته الأولى، "باستثناء الرئيس دونالد ترامب، الذي حصل على نسبة 37% في خريف العام 2017". ولعل العامل الأشد قلقاً هو أن نسبة 50% من المستطلعة آراؤهم تعتبره "مؤهلاً" لقيادة البلاد في المرحلة الراهنة، فيما عبّر نحو 71% منهم عن قلقهم من "إدارة دفة البلاد إلى الأسوأ".
علاوة على ما تقدَّم، تستمر معاناة الولايات المتحدة من نقص متزايد في سلسلة التوريد وارتفاع الأسعار، بدءاً من أسعار الطاقة وانعكاساتها على كل المرافق الاقتصادية الأخرى، ما يهدد بتبلور أزمة تضخم ونقص العرض.
أبرز ما يواجهه أيضاً الرئيس الأميركي من تحدٍّ في قمة مجموعة الـ20 الصناعية هو إنتاج معدلات كافية من اللقاحات ضد جائحة كوفيد 19 "لترسل إلى الدول النامية"، وخصوصاً في ظل إصرارٍ أميركي وغربي بشكل عام على محاربة أي لقاح بديل متوفر وأرخص ثمناً، مثل الروسي "سبوتنيك V" والصيني "سينوفارم"، واللذين تنتجهما دول عدة بموافقة الدول المصنّعة، مقارنة باللقاحات الأميركية التي تسعى لبيع منتجاتها بأسعار تحددها سلفاً لزيادة معدلات أرباحها الفلكية.
كما شكّل تغيّب الرئيسين الروسي والصيني عن المشاركة المباشرة في أعمال قمة المناخ في اسكتلندا مؤشراً غير مريح، لما قد يسفر عنه من قرارات وتوجهات دولية، نظراً إلى تأجيج الولايات المتحدة خلافاتها مع نظيرتيها العظميين ولجوئها إلى التهديدات العسكرية كخيار أول في معالجة الأزمات الدولية، بعكس ادعاءاتها حول الالتزام بعودة الدبلوماسية إلى مقارباتها في الملفات الدولية الشائكة. كما فاقم تغيّب كلّ من الهند والبرازيل (وهما حليفتا أميركا) وجنوب أفريقيا وإيران والمكسيك أزمة التوصل إلى حلول والتزامات عملية تترجم فيها واشنطن نيتها باستئناف دورها في معالجة ارتفاع حرارة الكوكب.
يلحظ علماء البيئة "جديّة" إجراءات كلّ من الصين والهند لمعالجة الانبعاثات الضارة من القطاع الصناعي والإنتاجي، على الرغم من التحشيد الإعلامي الأميركي بعكس ذلك. ربما لم تكن المعدلات تكفي لإحراز تقدم ينقذ البشرية من الأخطار المحدقة، لكن "سياسيي بكين ونيودلهي استفاقوا على أن تبني معادلة النمو الأخضر أفضل من النمو الأحفوري"، وأعلنت الصين التزامها بالتخلي تدريجياً عن احتراق الفحم كمصدر لتوليد الطاقة.
وقد ضاعف البلدان إنتاجهما للطاقة من مصادر متجددة، كالطاقة الشمسية والرياح، وإن بوتائر متباينة ("ذا غارديان")، بيد أنَّ التجاذبات السياسية الدولية، وأبرزها استثمار الولايات المتحدة في الشق العسكري "لمواجهة الصين وروسيا" وتطويق مياه الأولى بصواريخ نووية، كما جسّدته اتفاقية "أوكوس" بين أميركا وبريطانيا وأستراليا. هذا الأمر اقتضى انتهاج الصين منحى أولويته المواجهة العسكرية أيضاً، وتسجيل تراجع في سياساتها لتقليص الاعتماد على الفحم الحجري كمولّد للطاقة، والذي تعد استراليا أكبر منتج ومصدّر له، وهي تعارض أيضاً استبدال توليد الطاقة بالفحم الحجري.
يعادل إنتاج الولايات المتحدة من الفحم الحجري نحو 25% من احتياجاتها لتوليد الطاقة الكهربائية. ومن المتوقّع ازدياد اعتمادها على تلك المصادر الخفيفة الكلفة نسبياً، وزيادة استهلاك مصانعها بنسبة 19% في فصل الشتاء المقبل.
من جانبها، تتمسّك الهند بمواقفها السابقة، والتي تطالب "الدول الغنية" بالوفاء بالتزاماتها وتقديم معونات مالية للدول النامية، تعينها على استبدال مصادر الطاقة التقليدية بمصادر نظيفة ومتطورة، تحدّ من الاضطراب المتوقع في قطاع توليد الطاقة إن تخلّفت تلك الدول عن مساهماتها الموعودة.
تدرك وفود الدول المشاركة في قمة اسكتلندا أن مسار التوصل إلى اتفاقيات، بصرف النظر عن تباين وجهات النظر أو النيات، ستواجه مرحلة أقسى لدى إقرارها من قبل برلمانات دولها المعنية والمصادقة عليها كمعاهدات ملزمة، كما فعلت الولايات المتحدة بتخلّيها عن اتفاقية باريس للمناخ، وانسحابها من الاتفاق النووي مع إيران، بل من غير المرجّح أن تصادق الأغلبية النسبية داخل أميركا، ثلثا الأعضاء – 67 في مجلس الشيوخ الأميركي، بحسب توازناته الراهنة والمرئية- على أيّ اتفاق ذي أبعاد دولية، وخصوصاً توصّلها إلى حقيقة الكلفة المالية الناجمة عن تلك الخطوة الاستراتيجية البعيدة المدى.
الصراعات السياسية في معظم البلدان الصناعية، وتحديداً في الولايات المتحدة، تتصدر جدول الأولويات على حساب الاستثمارات المطلوبة في مرافق الحياة كافة، والعامل المشترك بين تلك البلدان، بما فيها أميركا، هو فقدانها نماذج قيادية حقيقية تستطيع اتخاذ قرارات مصيرية.
الحلّ، بحسب رؤية محرر الشؤون الاقتصادية في صحيفة "ذا غارديان" البريطانية، "هو اعتراف (الغرب) بأن النموذج الصيني للرأسمالية المدارة والموجّهة (من الدولة) قد يكون أكثر ملاءمة من النموذج الأنكلو-ساكسوني"، علاوةً على إدراكها بأن "القوى القوية والنافذة" في صنع القرار، مثل اللوبيات المتعددة، "أضحت مضلَّلة بشكل خطر، كما شكلت فرق استرضاء الفاشية من أخطار في ثلاثينيات" القرن الماضي.
قد تروّج إدارة بايدن إلى أنَّ جولة الرئيس الدولية الثانية تعيد ترميم العلاقات الأميركية الأوروبية، ولكن الانقسامات الحادة داخل شطري الأطلسي وبينهما لن تزيلها حملات الدعاية والعلاقات العامة أو لقاءات الصور التذكارية الجامعة.