ذهب الناخب الأميركي للمشاركة في انتخابات محلية، البلدية وحكام الولايات، مطلع شهر تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، وفي ذهنه أنها جولة "استفتاء" على أداء الرئيس جو بايدن وحكومته وحزبه الممثل بالأغلبية في مجلسي الكونغرس، وخصوصاً في ظلّ تعثر، وربما فشل، خطته الاقتصادية الطموحة، نظراً إلى مناهضة قوى نافذة داخل الحزب الديمقراطي نفسه.
والسؤال الجوهري لما بعد فرز النتائج التي أفضت إلى تراجع سطوة الحزب الديمقراطي: هل باستطاعته مزاحمة خصمه الجمهوري بعد فقدانه أغلبيته في مجلسي السلطة التشريعية، كما تشير إليه التطورات الداخلية واستطلاعات الرأي؟ بل هل سيكون بمقدور آلة الحزب الديمقراطي الإفلات من "لعنة السياسة الأميركية" التي تنبئ بخسارة حزب الرئيس مقاعد إضافية في مجلسي الكونغرس في الانتخابات النصفية في كل دورة، واستعادة توازنه، على الرغم من أداء مميّز لآليات الخصم الجمهوري في الانتخابات الأخيرة؟
خسارة الحزب الديمقراطي منصب حاكم ولاية فرجينيا بالذات ليست أمراً عابراً، وسيترتب عليها تداعيات عميقة، يصفها الكثيرون بأنها "زلزالية"، من بينها، من دون ريب، تناقص أعداد ممثلي الحزب في الكونغرس لدعم الرئيس بايدن وأجندته الطموحة، فضلاً عن خيار البعض الآخر بالامتناع عن تجديد ترشيحه في الدورة الانتخابية المقبلة، وهو ما سيوفر للخصم الجمهوري فرصة استعادة سيطرته على الكونغرس وتقييد حركة الرئيس بايدن في معظم الملفات الحساسة.
فرجينيا، الولاية المجاورة للعاصمة واشنطن، استثمر فيها الحزب الديمقراطي كثيراً من أرصدته السياسية في المراحل السابقة، واستطاع بموجبها إعلاء أغلبيته على مراكز القوى في مجالسها المحلية، والتصويت إلى جانب الرئيس بايدن في الانتخابات الرئاسية الماضية، والبدء بسير مجالسها التشريعية باتجاه تغليب المصلحة العامة في مسألة حيازة السلاح ضد توجهات القوى المحافظة والتقليدية، وإن بنسبة طفيفة.
وسبق للحزب الديمقراطي أن خسر ولاية فرجينيا في انتخابات العام 2009. وفي العام التالي، فقد الديمقراطيون السيطرة/الأغلبية على الكونغرس الخاص بالولاية بعد فوزهم بها في 4 دورات انتخابية متتالية، وفي 4 من آخر 5 من انتخابات حاكم الولاية.
تلك المكاسب التي انتزعها الحزب بعد عقود من سيطرة خصمه الجمهوري، وأخرى ذات أهمية، أضحت مهددة مباشرة في إطارها الجغرافي المحلي، لكن ارتداداتها ستمتدّ إلى مساحة أكبر من دائرتها الضيقة والوصول إلى ساحات صراع أخرى بين القوى المتقابلة. في نيويورك حقق الحزب الجمهوري إنجازات مرئية في انتخابات عمدة المدينة، كما فاز أعضاء جدد من الجمهوريين في المجلس البلدي تنتمي إحداهن، إينا فيرنيكوف، إلى تيار الرئيس ترامب. وحقّق ممثلو الحزب الجمهوري بعض النجاح في ولاية واشنطن، على الرغم من ميلها إلى التيار الليبرالي بقوة، وكذلك على مستوى مجالس الإدارات التربوية في عدد من الولايات.
للتأكيد على ما سبق، على المرء استشعار خطورة تدخّل المحكمة العليا الفيدرالية، منذ ولاية الرئيس السابق دونالد ترامب، في الانقلاب على أهم قضية تخصّ قطاع المرأة، ألا وهي حقها في خيار الإجهاض وحمايته دستورياً منذ العام 1973، وما تنبئ به توجهاتها المستقبلية لاستعادة سيطرة القوى المحافظة واليمينية على مفاصل القرارات السياسية والاجتماعية والصحية والتعليمية في أغلبية الولايات الأميركية.
كما تنبغي الإشارة إلى إرهاصات الحزب الديمقراطي وبروز تكتلات ذات توجهات سياسية "أكثر ليبرالية" من قياداته التقليدية، أهمها "التكتل التقدمي" بعضوية نحو 100 نائب في مجلس النواب، برئاسة النائب عن ولاية واشنطن براميلا جايابال، والذي يضم الثلاثي النسوي إلهان عمر وأليكساندرا أوكاسيو كورتيز ورشيدة طليب وآخرين، وحساسية النقاشات الداخلية لتعديل بوصلة توجه الحزب واهتماماته، ما أضفى مزيداً من "الفوضى" على الخطاب السياسي وتردد الرئيس بايدن في حسم الجدل مع خصومه المحافظين في الحزب، لإقرار مشروع البنى التحتية كاملاً من دون انتقاص.
على الطرف المقابل، تشكل ولاية فرجينيا بالنسبة إلى الحزب الجمهوري التي خسرها في جولة الانتخابات الماضية، بفارق 10 نقاط مئوية، فرصة متجددة لترميم تصدعات الحزب من دون الحاجة إلى إقحام نفوذ الرئيس السابق دونالد ترامب وشعبيته الطاغية على مراكز القوى المحافظة، وخصوصاً ابتعاد المرشح الفائز بمنصب حاكم الولاية، غلين يونغكين، عن الظهور مع الرئيس ترامب في حملته الانتخابية.
ويراهن الحزب بعد فوز مرشحه هذه الدورة على استثمار تلك الأجواء في ولايات أخرى ليست أقل أهمية، واستمرار سياساته في تعديل الدوائر الانتخابية لمحاباة جمهوره وترجمته تمثيلاً في مجلس النواب. وربما العامل الأهم هو إثبات الحزب الجمهوري لعناصره وقواعده عدم الحاجة إلى احتضان الرئيس ترامب وخطاباته الإقصائية، وليس بالضرورة نبذها في مستوى التطبيق العملياتي، وخصوصاً ضد الأقليات.
عند البحث في تحديد أهم عوامل ترجيح كفة ممثل الحزب الجمهوري في ولاية فرجينيا لدى الناخبين، ولا سيما مشاركة أغلبية الناخبين اللاتينيين بنسبة 54% لمصلحة مرشحه، علينا تقصّي عزوف قواعد الحزب الديمقراطي عن المشاركة، كما أشارت استطلاعات الرأي في حينه، أهمها: تراجع شعبية الرئيس بايدن بين شريحة "الناخبين المستقلين"، وخصوصاً بعد استشراء "كوفيد-19"، إذ تدهورت إلى نحو 40% في المعدل العام، ومشكلات سلاسل التوريد ونقص المعروض، وتداعيات الانسحاب الأميركي الفوضوي من أفغانستان بنسبة تجاوزت 50%، وارتفاع معدلات التضخم التي قابلها نمو منخفض بنسبة 2%، وفشل قيادات الحزب في تأييد مشروعه لترميم البنى التحتية، وبشكل خاص تمويل مكافحة تلويث البيئة قبل ذهابه للمشاركة في قمتي الدول الصناعية والمناخ، ما انعكس سلباً على مصداقيّة توجهات الحكومة الأميركية بين الوفود العالمية.
علاوةً على ما تقدم من تحديات أمام الحزب الديمقراطي، من بينها تراجع ثقة الناخب الأميركيّ بالسلطة التشريعية إلى نسبة متدنية 37%، والأغلبية الضئيلة في مجلس النواب، أعلن 3 أعضاء ديمقراطيين في المجلس عدم ترشحهم لخوض الانتخابات المقبلة، أبرزهم رئيس لجنة الموازنة بالغة الأهمية جون يارموث، وممثلون آخرون في مجلس الشيوخ. وسيتزايد النزوح الجماعي من ممثلي الحزب بعد خسارته المدوّية في ولاية فرجينيا، وبات الحزب الجمهوري يقترب من فوزه بأغلبية المجلس بفارق 6 أصوات.
ثمة قضيَّة برلمانية إجرائية أخرى تشغل بال الناخب الأميركي بشكل عام، ألا وهي قاعدة "آلية التعطيل" (الفيليبستر) في مجلس الشيوخ، التي تقتضي موافقة 60 عضواً لإقرار أيٍّ من التشريعات. والآن، لا يمتلك الحزب الديمقراطي سوى 50 صوتاً "بشقّ الأنفس"، ويتعيَّن عليه إلغاء تلك القاعدة المقيّدة، وخصوصاً في ظل التوازنات الراهنة والمرئية التي تشي بعدم التزام "بعض" نواب الحزب بتوجهاته التشريعية، كما يجري راهناً في اختزال مشروع البنى التحتية الشامل.
مستقبل الرئيس جو بايدن متعلّق بالحزب الجمهوري حصراً، الَّذي سيلجأ في حال فوزه المرتقب بمجلسي النواب والشيوخ إلى طرح أهليته العقلية على بساط البحث، وربما تفعيل المادة 25 من الدستور لتنحيته، وخصوصاً أنَّ خليفته نائب الرئيس كمالا هاريس لا تمثّل تحدياً حقيقياً لسيطرة ونفوذ الحزب الجمهوري، والذي سيعطّل مشاريع أقل أهمية من مبادرات الرئيس بايدن، بحكم أغلبيته العددية. تلك الفرضية تقتضي تحجيم نفوذ الرئيس ترامب في الجولة المقبلة، ولا يستبعد التوصل إلى تسويات بين جناحي الحزب، التقليدي وترامب، من أجل ضمان فوزه بالسلطة التشريعية.
أمام هذه اللوحة لقراءة مستقبل السياسة الأميركية في المقبل من الأيام، سيستعيد الحزب الجمهوري حرارة توجهاته الدولية، والتي شكّل الرئيس ترامب التجسيد الأصدق لحقيقتها، وأبرز تعبيراتها زيادة منسوب العداء لكل من الصين وروسيا، وكذلك تحجيم دور المنظمات الدولية المنبثقة من منظمة الأمم المتحدة، واستعادة حروب التكتلات السياسية والاقتصادية، وتسعير أجواء الحرب مع إيران وكوريا الشمالية، كما يتوقّع المراقبون.