اعتبر أحمد داود أوغلو في كتابه "العمق الاستراتيجي موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية" أنّ مكانة تركيا دولياً مرتبطةٌ بشكلٍ مباشرٍ بمكانتها في محيطها وأدوارها الإقليميّة التّي تلعبها، خاصةً في ثلاث مناطق جغرافية اعتبرها عمق تركيا الاستراتيجي، أيّ الشّرق الأوسط والبلقان والقوقاز، التّي أسماها مجتمعة "المناطق القارية القريبة". وقد رأى أنّه كلما لعبت بلاده أدواراً أكثر فاعليةً في الشّرق، كلّما ارتفعت مكانتها في الساحة الغربيّة – الدّوليّة.
ويرى أوغلو أنّه يتوجّب على تركيا أن تعيد الّنظر في سياستها تجاه الشّرق الأوسط. "فقد فقدت تركيا الأحزمة الاستراتيجيّة الأكثر قوةً في منطقة الشّرق الأوسط في الرّبع الأول من القرن العشرين، وعاشت بعيدةً بشكل عام في ربعيه الثاني والثالث، وطورت سلسلة علاقات متأرّجحة بين صعود وهبوط، مع دول المنطقة خلال الربيع الأخير من القرن نفسه، وهي اليوم مضطرةٌ لأن تعيد تقييم علاقاتها مع المنطقة من جديد بشكل جذريّ". ويكمن "المأزق الأساسيّ للسّياسة التّركيّة الخارجيّة في محاولتها إنتاج سياسة إقليميّة تتوتر فيها علاقاتها مع جيرانها كلّهم".
في كل تحركاته يحاول رجب طيب أردوغان إعادة الأمجاد العثمانية، وتظهير نفسه على أقل تقدير كمصطفى كمال اتاتورك، وأنه مؤسس العصر التركي الجديد، وهذا ما دفعه في سياساته الخارجية إلى توتير علاقاته الدولية مع الكثير من الدول، نتيجة مشاركته في الحروب ضد سوريا ومن ثم دخوله إلى ليبيا من أجل تحقيق أحلامه التوسعية.
اليوم تضع تركيا منطقة شرق المتوسط على صفيح ساخن. بعد أن تحول شرق البحر الأبيض إلى بؤرة توتر في الآونة الأخيرة، نتيجة تدخلاتها واعتداءاتها في مناطق عدة، وقد ازداد هذا التوتر نتيجة تصاعد النزاع بينها وبين اليونان، نتيجة استمرار الدولة التركية في التنقيب عن موارد للطاقة في مناطق بحرية حدودية مع اليونان. وتصاعد التوتر في منتصف أغسطس/اب الجاري، بعد أن شكل التنقيب التركي عن الغاز في شرق المتوسط، والدخول التركي إلى ليبيا، شعلة قد تؤدي إلى إحراق المنطقة، وعسكرة منطقة البحر المتوسط من خلال مناورات ستجريها تركيا قبالة الساحل الشمالي لقبرص، فيما تخطط اليونان أيضا لمناورات بحرية مع فرنسا وقبرص وإيطاليا.
وهدد وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، بشن حرب على اليونان، مما يرفع التوتر الحالي بين البلدين إلى مستوى غير مسبوق. وقال جاويش أوغلو، بحسب ما نقلت عنه وكالة "الأناضول" الرسمية:" لا يمكن لليونان توسيع حدود مياهها الإقليمية إلى 12 ميلا في بحر إيجة فهذا سبب للحرب". وكان نائب الرئيس التركي، فؤاد أقطاي، قد هدد في وقت سابق اليونان بالأمر نفسه.
أزمة الجزر
يأتي هذا التصعيد نتيجة النزاع على الطاقة، فلدى تركيا واليونان مطالب بأحقية السيطرة على جزر عدة متداخلة في المياه الفاصلة بينهما، وهي مياه غنية بالغاز في شرق البحر المتوسط. وتزعم اليونان أن كل الجزر الموجودة في الجرف القاري الذي يدور الخلاف حوله، هي ملكها ولها حقوق الحفر الحصرية في مياهها بما في ذلك التنقيب فيها بحثا عن موارد الطاقة.
و تزعم كلا من البلدين سيادتها في بحر ايجه . اثناء حرب البلقان عام 1913 قد أعطت اليونان الحق بجزر بحر إيجه. وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية أصر المسؤولون الأتراك بخصوص ترسيم المياه الإقليمية والمجال الجوي. كان الدافع وراء الصراع على حد سواء لاعتبارات من المزايا التكتيكية والعسكرية ومسائل الاستغلال الاقتصادي لبحر إيجه. أصبحت المسألة اخيرا ذات أهمية أكبر بعد عام 1970 كما كانت هناك توقعات بالعثور على النفط في بحر إيجه. تم تسليط الضوء خلال هذه الأزمة عام 1987، عندما كانت سفينة تركية على وشك دخول المياه المتنازع عليها لاجراء تنقيب عن النفط.إذ وجدت داخل المياه المتنازع عليها التي تطالب بها اليونان. عقدت مشاورات حول هذه المسألة في دافوس بين رئيس الوزراء اليوناني والتركي.
أزمة قبرص
وتمتد جذور العداء اليوناني التركي إلى ما قبل إنشاء الجمهورية التركية الحديثة. لكن على مدار نصف العقد الماضي، تركزت أخطر النزاعات حول وضع قبرص. ففي 1960، تم الاتفاق على حل للقضية القبرصية اذ منحت بريطانيا الاستقلال لقبرص، وتم التوصل لدستور خاص بها. تمركزت القوات اليونانية والقوات التركية في الجزيرة لحماية مجتمعاتهم. رئيس الوزراء اليوناني قسطنطين كرامنليس كان المهندس الرئيسي من هذه الخطة، مما أدى إلى تحسن فوري في العلاقات مع تركيا، وخاصة بعدما عدنان مندريس أزيل من السلطة في تركيا. في 30 ديسمبر عام 1964، أعلن مكاريوس اقتراحه لتعديل دستوري تضمن 13 مادة. تركيا رفضت وكررت أنها كانت ضد هذا إذا حاولت قبرص تحقيق الوحدة مع اليونان. في أغسطس، قصفت الطائرات التركية القوات اليونانية التي تحيط قرية تركية (ايرينكوي) وبدات الحرب وشيكة. ومرة أخرى، عانت الأقلية خلال هذه الفترة. عانت الجالية اليونانية في تركيا من الأزمة، مما تسبب بالعديد من اليونانيين إلى الفرار من البلاد، وكانت هناك تهديدات حتى لطرد البطريرك المسكوني فترة الصراع الطائفي في عام 1963 و 1964، تم تهجير القبارصة اليونانيين والأتراك وذبح الكثير من كلا الجانبين. في نهاية المطاف، تم التدخل من قبل الأمم المتحدة أدى إلى حل وسط. وكذالك شمال قبرص قبرص الشمالية,الذي هو نقطة خلاف في العلاقات التركية اليونانية لعقود. وقد أدى الغزو التركي للجزيرة في عام 1974، والذي نجم عن انقلاب عسكري مدعوم من اليونان، إلى احتلال القوات التركية للثلث الشمالي للجزيرة ونزوح القبارصة اليونانيين من المنطقة.
وتصاعدت التوترات بين اليونان وتركيا منذ ذلك الحين، وفي عام 1996 اقترب البلدان من الحرب على جزيرتين غير مأهولتين في بحر إيجه بالقرب من الساحل الغربي لتركيا. وتعتبر تركيا أي صفقات توقعها قبرص بشأن استغلال الطاقة غير قانونية ما لم تشارك جمهورية شمال قبرص التركية فيها. في المقابل، تعتبر اليونان التنقيب التركي عن الغاز بالقرب من قبرص غير قانوني.
أضف إلى ما تقد أن هناك عوامل أخرى للتوتر، إذ يعد تدفق المهاجرين عامل توتر آخر بين اليونان وتركيا. حيث تستضيف تركيا ما يقرب من 4 ملايين مهاجر ولاجئ كجزء من اتفاق عام 2016 مع الاتحاد الأوروبي. وفي فبراير/شباط الماضي، نفذ أردوغان تهديده بـ"فتح البوابات" للسماح لعشرات الآلاف من طالبي اللجوء بالعبور إلى اليونان، مما أثار رد فعل غاضب من أثينا، كما اتهم الاتحاد الأوروبي أنقرة باستخدام المهاجرين كأداة للمساومة.
كما أن أحد الأسباب الرئيسية التي أدت إلى تصاعد التوتر، هو ما أقدمت عليه تركيا حيث وقعت في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي اتفاقًا بحريًا مع الحكومة الليبية في طرابلس، يسمح بتوسيع عمليات الحفر التركية في شرق البحر المتوسط.
وقد أدى هذا الاتفاق إلى تدخل تركيا عسكريًا في ليبيا لدعم الميليشيات المسلحة في طرابلس. وكما هو الحال في شمال غرب سوريا. وهذا ما دفع أن يرسل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون -الذي وصف التوغل التركي في ليبيا بأنه "إجرامي"- طائرتين مقاتلتين من طراز رافال وفرقاطة بحرية لدعم اليونان. واتخذت فرنسا، إلى جانب اليونان وقبرص، موقفًا متشددًا ضد تركيا، مقارنة بالنهج الأكثر تصالحية الذي يفضله الاتحاد الأوروبي، خصوصا من دول مثل ألمانيا وإسبانيا وإيطاليا.
وعلى الرغم من أن البلدين عضوين في حلف الناتو، إى أن دول أوروبية عدة وقفت بقوة إلى جانب اليونان وفرضت في يوليو /تموز الماضي عقوبات على تركيا بسبب إجراء مسوح زلزالية قبالة الساحل القبرصي الشمالي. وحذرت هذه الدول، أنقرة، مرارا من القيام بمزيد من الاستكشافات. وقد سعت كل من تركيا واليونان إلى تعزيز مطالبهما الإقليمية من خلال إنشاء مناطق اقتصادية بحرية حصرية مع ليبيا ومصر، على التوالي. وبعيدًا عن المخاوف الإقليمية المباشرة، فإن النزاع تضرب جذوره عميقا تاريخيا واستراتيجيا وعسكريا، ويشمل ذلك الوضع في قبرص، والحروب في ليبيا وسوريا، والصراعات الدائرة على النفوذ في المنطقة.