سيعد 22 شباط/فبراير 2022 يوماً فاصلاً في تاريخ روسيا الحديثة وأمنها القومي، وقد يمتد الأمر من حيث تأثيراته غير المباشرة إلى تعديل هيكل النظام الدولي وموجهاته الرئيسية في غضون ما تبقى من العقد الراهن. وتعد كلمة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ذات دلالات مهمة ينبغي وضعها في الاعتبار، من حيث دلالاتها العملية وما تضمنته من مبادئ تتعلق بالأمن القومي وعلاقته بتاريخ الدولة.
وفي الواقع، فإن كلمة الرئيس بوتين لم تكن موجهة للشعب الروسي وحسب، بل للعالم أجمع، وعلى مدى ساعة تقريباً تحدث الرئيس الروسي بثقة وإصرار وحسم عن آفاق الأزمة مع أوكرانيا، كأزمة أمن قومي كبرى لروسيا، أرجعها إلى عدد من الأخطاء التاريخية، التي أنتجت بدورها انكشافاً أمنياً لم يعد بالإمكان التسامح معه. وهي نوعان؛ أخطاء تعود إلى الحقبة الشيوعية، حيث منح زعماؤها، خاصة ستالين، أوكرانيا الكثير من الهبات التي لا تستحقها، من أجل الحفاظ عليها كجزء من الاتحاد السوفيتي، من قبيل منحها أقاليم لم تكن تتبعها كالقرم ومناطق في شرق أوكرانيا الحالية، والتي يعيش فيها أكثر من أربعة ملايين روسي، ويعانون وفقاً للرئيس بوتين من السياسات العنصرية والقومية المتطرفة للحكومة الأوكرانية منذ الانقلاب المدعوم غربياً عام 2014.
والنوع الثاني، أخطاء أخرى حدثت بعد سقوط الاتحاد السوفيتي ذاته، وحالة الفوضى التي عانت منها روسيا، حيث مُنحت أوكرانيا وغيرها من جمهوريات وبلدان الحقبة الشيوعية الاستقلال، وحرية الحركة بعيداً عن موسكو، ما ساعد الناتو على التمدد في غالبية تلك الدول، وبروز نظرتها لروسيا كعدو، ورافضة النظر لها كبلد يمكن أن يكون صديقاً، كما تحولت إلى منصة غربية تديرها الولايات المتحدة لتهديد روسيا وأمنها، بل وجودها أيضاً وفقاً للرئيس بوتين.
أخطاء التاريخ البعيد والقريب معاً تشكل عبئاً كبيراً على روسيا وأمنها ورفاهية شعبها. أكثر جوانب العبء وفقاً للرئيس بوتين يتمثل في انكشاف أمن بلاده نتيجة اقتراب الناتو من حدود البلاد، وانتشار القواعد العسكرية التابعة للحلف بالقرب من الجغرافيا الروسية، ما يتيح لتلك القواعد توجيه الصواريخ الاستراتيجية لكل الأراضي الروسية في غضون أربعة دقائق، وهي مدة محدودة للغاية لاتخاذ الإجراءات المضادة المناسبة. وهو عبء حسب موسكو يجب تصحيحه من خلال وقف تمدد الناتو، وعدم ضم أوكرانيا تحديداً، وليس مجرد تأجيل النظر لبعض الوقت لقرار ضمها، وأيضاً توقيع اتفاق ضمانات أمنية لروسيا مع الولايات المتحدة باعتبارها القائد الفعلي للناتو، له طابع قانوني لا يقبل التراجع إذا تغير الرؤساء.
أوكرانيا التابعة للغرب في الإدراك الروسي
بعد التأكيد على أن أوكرانيا جزء رئيسي من تاريخ روسيا، أثناء الحقبة الشيوعية أو بعدها، و"كفاح روسيا وقيامها بكل شيء ممكن للحفاظ على وحدة أراضي أوكرانيا، والصبر من أجل تطبيق قرار مجلس الأمن 2202 الذي أثبت مجموعة إجراءات مينسك لتسوية الأوضاع في دونباس، إلا أن موسكو أدركت أن كل شيء كان "عبثاً" وفقاً للرئيس بوتين، الأمر الذي يتطلب موقفاً مختلفاً وحاسماً، أياً كانت التداعيات.
كما تضمنت كلمة الرئيس بوتين انتقادات حادة للنخبة الأوكرانية، التي وصفها بالتبعية للغرب، وحملّها مسئولية إفقار الشعب، وسرقة موارده والهروب بها إلى دول الغرب، وإهدار البنية التحتية المتطورة التي بنيت أثناء الحقبة السوفيتية، وكونها نخبة تمثل القوميين المتطرفين من جانب، وغلبة الفساد على أطرافها من جانب آخر، فضلاً عن رفضها تطبيق اتفاق مينسك الخاص بتسوية الوضع في إقليم دونباس، شرق أوكرانيا منذ عام 2015، وسياساتها العنصرية ضد المواطنين الروس بشكل خاص.
انتقادات الرئيس بوتين على النحو السابق قطعت ما يمكن وصفه بشعرة معاوية مع حكومة أوكرانيا الحالية، وهو ما يشكل الأساس الذى شيدت عليه موسكو إجراءاتها الخاصة بما تعتبره تصحيحاً واجباً وحالاً لبعض الأخطاء التاريخية، من خلال التقدم خطوة نحو فصل المناطق التي يتركز فيها الروس عن باقي مناطق أوكرانيا التابعة للغرب، وفى الآن نفسه عدم السماح لذلك الجزء التابع للغرب بأن يتحول إلى عضو جديد في الناتو، أو عضو آخر في النادي النووي من خلال إعادة استخدام المعارف النووية الروسية الأصل لإنتاج أسلحة نووية، ستكون موجهة بالأساس لروسيا.
وهكذا، يتضمن التصحيح المطلوب روسياً أيضاً إعادة رسم الجغرافيا الأوكرانية ذاتها من خلال تقسيمها فعلياً، إلى قسمين؛ أحدهما صديق وثيق الصلة بموسكو، والثاني عدو تابع للغرب، لكنه لن يهنأ بتلك التبعية التي جرّت عليه تراجعاً وانحداراً في الكثير من الأشياء، وفقاً لرؤية الرئيس بوتين.
وتلك بدورها الخطوة الأكبر والأهم. فالاعتراف بجمهوريتى دونيتسك ولوغانسك الانفصاليتين، ثم توقيع اتفاقيتي تعاون وصداقة معهما، يعنى عملياً تقزيم أوكرانيا جغرافياً، ونظراً لكون شعب هاتين الجمهوريتين الشعبيتين غير المعترف بهما دولياً، هم من الروس أصلاً، يصبح من حق موسكو أن تتخذ كل الإجراءات المناسبة لحمايتهم والدفاع عنهم، وهو القرار الذي وجهه الرئيس بوتين للجيش الروسي، بعد أقل من ساعة على توقيع اتفاقيتي تعاون صداقة مع الجمهوريتين الوليدتين، بتنفيذ ما وصفه بعملية لحفظ السلام في لوغانسك ودونيتسك.
دلالات مهمة في الموقف الروسي
وفقاً للتصور الروسي، فإن أي دعم عسكري لهاتين الجمهوريتين لا يعنى غزواً لبلد آخر أو انتهاكاً لسيادته، ولكنه يجسد مسؤولية موسكو تجاه الناطقين بالروسية، ومساعدتهم لحماية ثقافتهم ونمط حياتهم، فضلاً عن حقهم في الحياة بكرامة.
الموقف الروسي على هذا النحو يتضمن أيضاً نوعاً من العقاب القاسي للنخبة الأوكرانية المتحالفة مع الغرب ضد روسيا وأمنها. ولا يهم هنا لدى الرئيس بوتين التهديدات الغربية بتوقيع عقوبات قاسية وشاملة تعزل روسيا عن النظام المصرفي العالمي "سويفت"، أو أي عقوبات أخرى، هدد بها الغرب، وبدأت ملامحها الأولى في البروز بعد ساعات محدودة من التحرك العسكري الروسي تجاه إقليم دونباس، فالقناعة الراسخة لدى النخبة الروسية هي أن الغرب سيوقع عقوبات على روسيا في كل الأحوال، انعكاساً لسياساته العدائية الراسخة ضدها. وبالتالي فإن حماية أمن البلاد لها الأولوية على أي شيء آخر، وهو أمن يترسخ أكثر مع وجود منطقة عازلة بين روسيا وما يتبقى من أوكرانيا التابعة للغرب، ممثلة في الجمهوريتين الانفصاليتين، اللتين تم الاعتراف بهما.
رسائل روسيا النووية
لا ينفصل هذا التطور عن جملة الخطوات العسكرية التي نفذتها موسكو في الأسابيع الثلاثة السابقة على الاعتراف بجمهوريتي لوغانسك ودونتيسك، وأهمها الحشد العسكري المكثف على الحدود مع إقليم دونباس، والتدريبات العسكرية الممتدة والشاملة للأفرع المختلفة للقوات الروسية مع بيلاروسيا الحليف الموثوق لموسكو، وأخيراً تدريبات قوات الردع الاستراتيجي النووية الروسية، والتي شملت محاكاة استخدام أسلحة نووية واختبار عمليات التحكم بالأسلحة النووية والأسلحة ذات الخطورة المحتملة المتزايدة، ضمن إطار إدارة موحدة، وفقاً لتصريحات وزير الدفاع الروسي.
جرت التدريبات بمشاركة القوات الجوية والقدرات الفضائية وقوات المنطقة العسكرية الجنوبية والقوات الاستراتيجية الروسية وأسطولي البحرين الشمالي والأسود في الجيش الروسي، وشملت إطلاق صواريخ باليستية ومجنحة من طراز "كينجال" و"كاليبر" و"إسكندر" و"يارس" و"سينيفا" وجميعها طرازات بعيدة المدى قادرة على حمل أسلحة نووية. ويمكن إطلاقها من الغواصات والقواعد المتحركة والثابتة على السواء.
وقد حملت هذه التدريبات رسالة تحذير قوية لكل من يعنيهم الأمر في الغرب بأن روسيا للحفاظ على أمنها، وإن دعت الضرورة فلن تتوانى عن استخدام أسلحة دمار شامل.
خلاصة الأمر من وجهة النظر الروسية:
أولاً، إن تقسيم أوكرانيا هو خطوة لتصحيح بعض أخطاء التاريخ بشقيه البعيد والقريب، بما في ذلك حماية ذوي الأصول الروسية.
وثانياً، وضع عراقيل عملية أمام أي تفكير لضم القسم الأوكراني الآخر التابع للغرب لحلف الناتو، ومن ثم وقف تمدده كخطوة أولى تدعم المطالب الأخرى الخاصة بأسلحة الدمار الشامل ومنظومات الصواريخ الباليستية الأمريكية التي تم نشرها في عدد من بلدان شرق أوروبا.
وثالثاً، إن أمن روسيا له الأولوية على أي تهديدات غربية بتوقيع عقوبات اقتصادية أو سياسية.
ورابعاً، إن روسيا لن يمنعها شيء من استخدام أسلحة دمار شامل إذا استدعت الضرورة.
ومن اليسير الاستنتاج بأن التحرك الروسي المزدوج سياسياً وعسكرياً تجاه الإقليمين الانفصاليين في دونباس، يعنى إلى جانب تغيير الخريطة الجيو سياسية لأوكرانيا، تغييراً أيضاً للمجال الحيوي الروسي، فضلاً عن إلحاق الإقليمين فعلياً بالإدارة الروسية.
ومن اليسير أيضاً الجدل بأن هذه التطورات تخالف مبدئياً القانون الدولي. بيد أن السياسة العملية لا تعترف إلا بالقوة. والأمثلة كثيرة على انتهاك الغرب والولايات المتحدة تحديداً مبادئ القانون الدولي في الكثير من القضايا والأزمات الإقليمية، وحالات فلسطين المحتلة والعراق وسوريا وفيتنام من قبل وأفغانستان طوال عقدين من الزمان، كلها تؤكد أن القوى الكبرى لها معاييرها الخاصة في التعامل مع مبادئ القانون الدولي من حيث تجاوزها وتجاهلها ما دام الأمر يتعلق بمصالحها المباشرة، وما دامت لديها القدرة على فرض أمر واقع يتناسب مع تلك المصالح.
وفى حالة أوكرانيا، فإن واقعها الجديد لا يقتصر عليها وحسب، بل على هيكل النظام الدولي ذاته، والآخذ في التغير، وإن لم يصل بعد إلى نقطة النهاية.
الغرب ومنهج العقوبات وحدوده
كما هو متوقع، برزت الإدانات الغربية، وبدأت اللقاءات بهدف تنسيق المواقف ضد موسكو، وتوقيع حزمة من العقوبات القاسية التي تلتزم بها الدول الغربية وأصدقائها. وبالنظر إلى العقوبات التي أعلنها الرئيس الأمريكي جو بايدن باعتبارها مقدمة لعقوبات أكبر لاحقاً، ومنها عقوبات على بنكيْن روسييْن، وعقوبات على عدد من المسؤولين الروس، وحظر التعامل مع الجمهوريتين المنفصلتين، يتبين أنها عقوبات أقل كثيراً مما تم التحذير منه والتهويل بشأنه، وربما الشق الأهم فيها هو القرار الألماني بإنهاء التعامل مع خط "نورد ستريم 2" الناقل للغاز الروسي الطبيعي إلى ألمانيا ومنها إلى بلدان أوروبية أخرى.
وفى واقع الأمر، يعد القرار عقوبات لألمانيا واقتصادها بالقدر نفسه كعقوبات لروسيا، التي تستطيع بدورها أن تصدر الغاز إلى أسواق أخرى، في مقدمتها الصين التي يشهد اقتصادها قدراً كبيراً من الانتعاش بعد نجاحها في احتواء الآثار المختلفة لوباء كوفيد-19.
ومن المهم ملاحظة أن الرئيس بايدن وبعد تأكيده الالتزام بوحدة الأراضي الأوكرانية، وصف التحركات الروسية باعتبارها مقدمة لغزو أوكرانيا، وليس غزواً فعلياً لها، وهو فارق مهم يؤشر إلى أن البيت الأبيض لن يتخذ عقوبات مشددة في المدى القريب، وسيظل هناك مجال لطرح أفكار سياسية لحث الرئيس بوتين للتراجع عن قراراته بشأن إعادة رسم الخريطة الأوكرانية. أما عسكرياً، فتبدو التحركات الأمريكية أكثر ميلاً لتغيير حجم الدور الأمريكي في بلدان شرق أوروبا تحت مظلة الناتو، من خلال إرسال المزيد من القوات ومنظومات الأسلحة المختلفة، بما فيها طائرات هجومية تدخل في إطار الأسلحة الاستراتيجية، وتنفيذ العديد من التدريبات.
وفى ضوء ما تم الإعلان عنه من عقوبات ليست بالشمول التي توعد بها الغرب سابقاً، يلاحظ ما يلي:
أولاً، إن السلوك الأمريكي والبريطاني يتعمدان تغيير الواقع العسكري فيما يعرف بالجناح الشرقي لحلف الناتو من خلال إرسال المزيد من القوات ومنظومات الأسلحة الهجومية، والإعلان عن تدريبات ستجرى في الأيام المقبلة بزعم أنها جزء من استعدادات الحلف لأي تطورات تتعلق بأمن دول البلطيق وشرق أوروبا، وهي مواقف تعنى عملياً التلويح بالحرب، وفى أقل تقدير نوعاً من الردع لروسيا بألا تتجاوز حدود المنطقة التي تم فصلها عملياً وأصبحت تحت سيطرتها عسكرياً.
ثانياً، جوهر موقف الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، حيث قرر استدعاء جنود الاحتياط لغرض التدريب، ونفى التعبئة العامة للجيش، مشيراً إلى تمسكه بوحدة الأراضي الأوكرانية، وأن التزامات وقف إطلاق النار في إقليم دونباس انتهت عملياً، والتزامه بالحل السلمي لأزمة الإقليمين الانفصاليين وانفتاحه على أية مبادرات. وبهذا يستبعد زيلينسكى الدخول في مواجهة عسكرية مع روسيا، وذلك رغم الدعم العسكري الكبير الذي حصلت عليه بلاده في الشهرين الأخيرين، وعمليات التحفيز التي تقوم بها بريطانيا لتوريط الحكومة الأوكرانية في أعمال عسكرية مباشرة ضد روسيا. لكن تظل هناك مساحة من أعمال عسكرية أوكرانية محدودة ضد "القوات الانفصالية".
ويعد ذلك موقفاً يتسم بالواقعية وتقدير الذات وعدم القدرة على مواجهة خصم نووي بحجم روسيا. أما التلويح بالالتزام بالحل السلمي فهو لا يمثل سوى ذر الرماد في العيون، ولا يغير في الواقع الجديد شيئاً، ويبدو كنوع من بث الطمأنينة لدى الأوكرانيين ليس إلا.
ثالثاً، على الصعيد الدولي، سيكون متعذراً أن يصدر قرار من مجلس الأمن بإدانة روسيا، نظراً لحقها في الاعتراض من جانب، وموقف الصين الذي يتحفظ على قرارات العقوبات بشكل عام، وللعلاقة المتميزة بين موسكو وبكين من جانب آخر.
وأخيراً، لقد تغيرت خريطة أوكرانيا، ومعها منظومة التفاعلات الروسية الغربية.
*د. حسن أبو طالب - مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية