قال العقيد البحري المتقاعد والمؤرخ العسكري الفرنسي ميشيل غويا إن التعليمات الروسية كانت منذ البداية، عدم استخدام القوة الضاربة الجوية والبرية للحد من الدمار والخسائر، ولكن بدون هذه القوة الضاربة فإن الجيش الروسي الذي يعتمد على قوة المدفعية، يجد صعوبة في التقدم، مما يعني طول أمد الحرب، وربما تحولها إلى حرب عصابات على الطريقة السورية أو العراقية.
وفي مقابلة مع صحيفة "لوفيغارو" الفرنسية -بقلم نيكولا باروت- قال العقيد الذي عمل بشكل خاص في مركز عقيدة القيادة والتعليم، إن هذه الحرب تبدو شفافة إلى حد كبير، الأمر الذي مكن المراقبين من تجاوز البيانات الرسمية التي دائما ما تكون خاطئة، مشيرا إلى وجود مصادر مفتوحة موثوقة نسبيا مثل موقع "أوريكس" (Oryx) الذي يسجل التدمير المؤكد للمعدات الرئيسية، إضافة إلى أشياء على تويتر أو من المتخصصين الروس الذين يقدمون معلومات مثيرة للاهتمام.
ومع قليل من الخبرة العسكرية الخاصة -كما يقول العقيد المتقاعد- يمكننا الحصول على تصور للاتجاهات الرئيسة، حتى لو لم تكن لدينا كل التفاصيل، مشيرا إلى أن الخطة الروسية الأولية كانت تهدف إلى إحداث "صدمة عملية"، باستخدام الأسلحة بأسرع وقت ممكن، في جميع الاتجاهات لشن هجوم عالي السرعة والاستيلاء على النقاط الرئيسية عن طريق القوات المحمولة جوا، ثم إسنادها بقوات برية متحركة.
مرحلة أولى فاشلة
وقد كان الروس يأملون -وفق المؤرخ العسكري- في احتلال كييف واختراق الأراضي الواقعة غرب نهر الدنيبر، وتفكيك النظام الأوكراني قبل ردود الفعل الدولية، ولكن هذه الخطة لم تنجح وأخفقت المرحلة الروسية الأولى، رغم إشراك 7 جيوش يضم كل منها من 10 إلى 20 مجموعة من 500 إلى ألف رجل، معلقا بأن جيشا واحدا هو ما يستطيع الجيش الفرنسي البري الدفع به كأقصى حد.
وبعد أن قدم العقيد خريطة الاشتباكات على الأرض، وأشار إلى أن معظم هذه الجيوش أوقفتها القوات الأوكرانية من دون تقدم كبير إلا ما كان من الجنوب؛ أوضح أن هذه العملية واجهت مقاومة أوكرانية، لا سيما في المناطق الحضرية، وأنها أخفقت بسبب مشاكل التنسيق العسكري الروسي، وهو أمر مستغرب، إلا أنه يمكن أن يفسر جزئيا بأن هذه هي أول عملية كبيرة للجيش الروسي منذ سنوات، ولا يمكن أن يتم تنظيمها من دون صعوبة.
وأشار إلى أن القوات الروسية واجهت مشاكل في توريد الذخيرة والوقود، حتى إن البعض اضطر إلى التخلي عن سياراتهم، ولكنه يتوقع أن ينتقل الروس الآن إلى عمليات أكثر منهجية وتركيزا للاستيلاء على كييف وخاركيف، مع وصول التعزيزات وزيادة الوسائل المستخدمة، خاصة أن التعليمات كانت حتى الآن عدم استخدام القوة الضاربة الجوية والمدفعية للحد من الدمار والخسائر.
وعند السؤال عن سبب عدم استخدام القوات الجوية الروسية بشكل أكبر، قال غويا إن ذلك كان عنصرا آخر مفاجئا، لأن الهجوم الأولي كان يهدف إلى تحييد الدفاعات الجوية الأوكرانية من خلال تدمير المدارج والقوات الجوية، وبالتالي كان على الروس استخدام صواريخ دقيقة، ولكن لأمر ما، ربما أنهم استهلكوا بعض مخزونهم في سوريا، استخدموا قنابل غير دقيقة وكان التحييد غير مكتمل، مما حد من القدرة على استخدام القوات الجوية، وقد يكون ذلك أيضا بسبب مشكلة التنسيق مع القوات البرية والخوف من النيران الصديقة.
ما الذي سيحدث؟
ردا على هذا السؤال، يقول العقيد المتقاعد إن القوات الروسية ستركز على احتلال المعاقل الحضرية باستخدام قوة جوية ضاربة كبيرة ومدفعية، مثلما بدأ في خاركيف، كما أن هناك حديثا عن استخدام أسلحة حرارية مدمرة، وهو ما يعني تغييرا قد يسير على النمط الذي استخدمته في سوريا، مع احتمال قتال في المدن طويل ومدمّر.
ومع احتمال قيام الروس بقصف عشوائي، كما فعلوا في غروزني أو في سوريا، يرى غويا أن الفكرة التي يعملون عليها هي تطويق المدن، وخاصة كييف وخاركيف وماريوبول، والضغط عليها ثم اختراق المحاور الرئيسية، إما بقوات خفيفة أو بقوات آلية، ولكنهم حتى الآن قلقون نسبيا بشأن صورة الصراع، وهم يواجهون معضلة الخشية من إثارة السخط، ومن إثارة حماس المقاومة الأوكرانية، وبالتالي لا يعرفون كيف يتصرفون.
ومع أن ميزان القوى لا يزال لصالح روسيا في الوقت الحالي، وانتصارهم العسكري هو الأكثر ترجيحا، فإن التوقعات أصبحت متحفظة أكثر مما كانت قبل أسبوع، كما أن الجيش الروسي سيخرج من هذه الحرب منهكا وغير منظم وقليل المصداقية، وفق رأي غويا.
أما بالنسبة لحجم الخسائر، فيرى غويا أن الجانب الأوكراني يمتلك جيشين، أحدهما نظامي، بمعدات مماثلة لتلك التي يمتلكها الروس، لكنها أقدم وأقل عددا، والآخر غير نظامي تسنده المقاومة الإقليمية، ولكن الجيش الأول تعوقه سيطرة الروس على الجو، وهو مع ذلك يحقق نتائج جيدة باستخدام المسيرة التركية من طراز "تي بي2" (TB2)، وإن كانت قدرات المناورة لديه محدودة.
حرب على الطريقة العراقية
ويقود الأوكرانيون معركة دفاعية وحرب استنزاف فعالة نسبيا توقع خسائر كبيرة في صفوف الروس الذين فقدوا معدات رئيسية أكثر مما خسروا في 6 سنوات في سوريا، إلا أن الأوكرانيين يعانون من الخسائر أيضا مع أن قدرتهم أقل على التعويض، وإمكانات جيشهم النظامي تتضاءل، في حين تتزايد قدرة قواتهم غير النظامية، مما يعني الانتقال نحو حرب عصابات طويلة في المناطق الحضرية، وإن كان الروس لديهم قوات غير نظامية من الشيشان وداغستان والمرتزقة، ويمكنهم الانتقال إلى حرب على الطريقة السورية.
وعند السؤال عن وصول المساعدات العسكرية الغربية في الوقت المناسب ومدى تغييرها لمسار الصراع، قال العقيد الفرنسي المتقاعد إن وجود الجيش الروسي الثامن في بيلاروسيا، يعني احتمال شن هجوم جديد على "لفيف"؛ لعزل أوكرانيا تماما، وهو أمر كان ينبغي أن يقوم به الروس عاجلا، ولكنه بسبب الموارد سوف يستغرق وقتا، وبالتالي يجب على أوروبا إرسال هذه المساعدات بسرعة، لأن هذه الأسلحة قد يكون لها تأثير على الأرض ولكن في أسابيع قليلة، ولا أحد يعرف ما سيكون عليه الوضع في غضون أسابيع.
أما كيف تنتهي الحرب، فهو كما قال مكيافيلي، نبدأها عندما نريد، ونوقفها عندما نستطيع، وسيكون ذلك في اللحظة التي يقبل فيها أحد الجوانب الهزيمة أو يضع السلاح، وفي ذلك الوقت لا حاجة إلى مفاوض، سيتمكن الكرملين من تنصيب حكومة موالية له، ولكن الحرب يمكن أن تستمر بالطريقة العراقية غير النظامية، وتستمر بعد ذلك سنوات.