• اخر تحديث : 2024-11-15 12:27

سيعرّف المؤرخون يوماً ما المدة الزمنية بين العامين 2014 و2022 بأنها نوع من الفترة الانتقالية في تطور السياسة الأوروبية في القرن الحادي والعشرين. إذا نظرنا إلى الوراء، يمكننا أن نستنتج أن العديد من الأحداث الدراماتيكية وغير المتوقعة منذ العام 2014 لم تنتج في النهاية سوى نوع من الهدنة المؤقتة بين موسكو والعواصم الغربية، ما يعكس توازن القوى غير المستقر الذي نشأ في ذلك الوقت وعدم الاستعداد للمزيد من التصعيد لدى الطرفين... تلك المدة انتهت، فكيف سيكون "الواقع الأوروبي الجديد" في السنوات، بل العقود، المقبلة؟

هذا ما يراه الكاتب أندريه كورتونوف في مقال له في صحيفة "نيزافيسيمايا غازيتا" الروسية، قائلا: يعتمد ذلك على النتيجة النهائية للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وعلى طبيعة عملية "الانتقال السياسي" الأوكرانية المقبلة ونتائجها، إضافة إلى استقرار التوجه الغربي الموحّد المناهض لروسيا، وديناميكيات التوازن العام للقوى حول خطورة المشاكل المشتركة التي تواجه الطرفين، وعلى عوامل أخرى كثيرة. ومع ذلك، ظهرت بالفعل بعض الافتراضات.

بعد تثبيت تلك الهدنة المؤقتة في العام 2014، بدأ الجانبان استعداداتهما النشطة لجولة جديدة من المواجهة. لم تتأثر تلك الاستعدادات بالسنوات الأربع المضطربة لرئاسة دونالد ترامب في الولايات المتحدة، والخروج الدراماتيكي للمملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، والأزمات المزمنة في الشرق الأوسط، وعوامل استمرار تعزيز مكانة بكين العالمية، أو حتى جائحة "كوفيد 19" التي غطَّت العالم.

واصلت روسيا التحديث المتسارع لقواتها المسلحة، وراكمت احتياطاتها من النقد الأجنبي، ووسعت العلاقات التجارية مع الصين، وعمَّقت التعاون السياسي والعسكري التقني مع الشركاء في منظمة معاهدة الأمن الجماعي.

في المقابل، وضع الغرب آليات الضغط الخاصة بالعقوبات وصيغها، وعزَّز الجناح الشرقي لحلف شمال الأطلسي، وزاد مستوى تنسيق السياسات داخل الناتو والاتحاد الأوروبي، وعزّز المساعدة العسكرية الفنية لأوكرانيا، وهاجم روسيا باستمرار في أماكن دولية مختلفة، من منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة، إلى اجتماعات وزراء خارجية المجلس الأوروبي ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا.

هل كانت المواجهة الثانية والأكبر حتمية؟ خلال 8 سنوات من الهدوء النسبي، كانت هناك محاولات متكررة لتحويل تلك الهدنة إلى سلام دائم ومستدام. عمل الدبلوماسيون والخبراء الدوليون من كلا الجانبين بإصرار على حل هذه المشكلة المعقدة، وقُدم العديد من المقترحات المعقولة في ما يتعلّق بكل من أوكرانيا والمشاكل العامة للأمن الأوروبي.

لسوء الحظ، لم يتمّ الاستماع إلى أيٍّ من هذه المقترحات، أو على الأقل لم تصبح أساساً للاتفاق. اتسعت الهوة بين روسيا والغرب أكثر فأكثر، واستمر التوتر حول أوكرانيا في التزايد. نتيجة لذلك، في شباط/ فبراير 2022، تبين أن الهدنة التي استمرت 8 سنوات تم تفجيرها من خلال اعتراف موسكو الدبلوماسي بجمهوريتي دونيستك ولوغانسك في الدونباس، وبدء عملية عسكرية روسية على الأراضي الأوكرانية. دخل الصراع مرة أخرى مرحلة حادة، ولكن على مستوى مختلف جذرياً. انتهت الفترة الانتقالية بأزمة جديدة ذات عواقب حتمية لا رجعة فيها، ليس بالنسبة إلى أوكرانيا فحسب، ولكن أيضاً على صعيد العلاقات بين روسيا والغرب بشكل عام.

ربما لن يكون من الصَّحيح تماماً إجراء مقارنات مباشرة بين الواقع الأوروبي المقبل في العام 2022 وفترة الحرب الباردة في النصف الثاني من القرن الماضي. وفق جميع الاحتمالات، تنتظرنا أوقات أكثر قتامة وخطورة من تلك التي انتهت بالبيرسترويكا، ثم الانهيار النهائي للنظام الاشتراكي العالمي والاتحاد السوفياتي نفسه.

خلال سنوات الحرب الباردة، وخصوصاً بعد أزمة تشرين الأول/أكتوبر 1962 في منطقة البحر الكاريبي، كان الطرفان على دراية جيدة بالخطوط الحمراء، وحاولا تجنّب تجاوزها قدر الإمكان. اليوم، لم يتمّ التعرّف إلى الخطوط الحمراء والاعتراف بأنها حمراء حقاً، ويُنظر إلى الادعاءات المتكررة حول هذه الخطوط من قبل الطّرف الآخر بأنَّها خدعة وخطاب فارغ. خلال الحرب الباردة، تم الحفاظ على توازن مستقر بين الكتلتين العسكريتين في أوروبا. اليوم، حلف الناتو أقوى بكثير من روسيا في معظم المعايير العسكرية والتقنية، حتى مع الأخذ في الاعتبار إمكانيات "مينسك" الحليفة لموسكو.

خلال سنوات الحرب الباردة في العلاقات بين الغرب والاتحاد السوفياتي، مع كلِّ الخلافات والتناقضات القائمة، تم الحفاظ على الاحترام المتبادل، وحتى على مقدار معين من الثقة، ما جعل من الممكن الأمل بإمكانية التنبؤ بالعلاقات.

اليوم، لم يعد هناك حديث عن الاحترام والثقة، فقد دخلت العلاقات مرحلة من عدم القدرة على التنبؤ. إنَّ عدم القدرة على التنبؤ الذي ظهر هنا لا يسمح لنا بالتوصل إلى استنتاجات نهائية حول ما يمكن أن يصبح عليه "الواقع الأوروبي الجديد" في السنوات أو العقود المقبلة.

أولاً، يبدو أن روسيا انتزعت مرة أخرى من الصين دور الشرير الدولي الرئيسي والمعارض للغرب عن غير قصد. بالطبع، لم تُلغَ مهمة كبح جماح طموحات السياسة الخارجية الصينية من أجندة واشنطن وشركائها الأوروبيين، ولكنها أهملت هذه المهمة، ولو تعد أولوية في الوقت الحالي.

علاوةً على ذلك، في ما يتعلّق بالقضية الأوكرانية، اتخذت بكين موقفاً شديد الحذر، ويمكن للمرء أن يقول موقفاً متحفظاً، مؤكدة احترامها مبادئ السيادة والسلامة الإقليمية لجميع الدول، بما في ذلك أوكرانيا. وحدها المحاولات الصينية الواضحة لحل مشكلة تايوان بالوسائل العسكرية يمكن أن تغير النظام الحالي للأولويات الغربية، لكن مثل هذه المحاولات يبدو غير مرجح في المستقبل القريب.

ثانياً، لم يتبقَّ لموسكو عملياً أيّ حلفاء أو متعاطفين غربيين. بقيت قوى كبيرة في أوروبا بعد العام 2014 تدعو إلى مراعاة المصالح الروسية والجمع بين الضغط على الكرملين وإمكانية تقديم بعض التنازلات من الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي.

أما الآن، فنجد أن شخصيات، مثل زعيم حزب التجمع الوطني الفرنسي اليميني مارين لوبان أو الرئيس التشيكي ميلوس زيمان، تدين الأعمال الروسية. أما بالنسبة إلى الولايات المتحدة، فقد أصبح التوجه المناهض لروسيا في واشنطن أقوى من أي وقت مضى.

ثالثاً، تنتظر روسيا توقفاً حتمياً وطويلاً في الحوار السياسي الرفيع المستوى. في المستقبل المنظور، من غير المرجح أن يستقبل الكرملين سلسلة من الرؤساء ورؤساء الوزراء والمستشارين ووزراء الخارجية ليصطفوا للالتقاء بالقيادة الروسية. يمكن أن تُعزى الزيارات العديدة التي قام بها القادة الغربيون إلى موسكو عشية الأزمة إلى إخفاقات السياسة الخارجية، ولم يكن من الممكن إقناع الجانب الروسي بأيّ شيء، واتّضح أن التسوية السياسية والدبلوماسية غير قابلة للتحقيق. ويبدو أنَّ المقاطعة السياسية الدبلوماسية الجزئية من قبل الغرب أمر محتمل تماماً. في بعض الحالات، ستستكمل من خلال تقليص عمل البعثات الدبلوماسية واستدعاء السفراء، وحتى (على غرار أوكرانيا) قطع العلاقات الدبلوماسيّة.

رابعاً، تواجه موسكو سباق تسلّح طويلاً ومكلفاً للغاية. ومع أخذ الأحداث الجارية في أراضي أوكرانيا بعين الاعتبار، سيحدد الغرب مهمة تحقيق أقصى استفادة من مزاياه الاقتصادية والتكنولوجية الواضحة من أجل تقليص الإمكانيات العسكرية الروسية، النووية والتقليدية، بمرور الوقت. على الرغم من أنه لا يزال من السابق لأوانه إعلان موت الحدّ من التسلح بشكل عام، فإنَّ المنافسة مع موسكو في مختلف المعايير النوعية للأسلحة ستشتد في المستقبل المنظور. وفي ظلِّ الظروف الحالية، لن يكون من الممكن العودة إلى الحديث عن وقف توسع الناتو أو خيارات أخرى لضمانات ملزمة قانوناً للأمن الروسي.

خامساً، ستصبح روسيا هدفاً دائماً وأولوية للعقوبات الاقتصادية الغربية لفترة طويلة مقبلة. سوف يزداد ضغط العقوبات تدريجياً، ولكن بشكل ثابت. سيستغرق التخلص تماماً من الاعتماد الحالي على إمدادات الطاقة، وخصوصاً الغاز، وقتاً طويلاً، ومن غير المرجح أن يوقفه الغرب لاحقاً.

سيتبع التخلّي عن مشروع "نورد ستريم 2" انخفاض في مشتريات الغاز الروسي الَّذي يتمّ توفيره عبر خطوط أنابيب الغاز الأخرى، ولو تبيّن أنّ المصادر البديلة أعلى تكلفة. الأمر نفسه ينطبق على المواد الخام الأخرى أو الأسواق العالمية الأخرى، حيث لا تزال روسيا تحتفظ بمكانة بارزة.

سادساً، سيتم دفع روسيا باستمرار بعيداً عن السلاسل التكنولوجية العالمية القائمة التي لا تزال ناشئة، والتي تحدد انتقال الاقتصاد العالمي إلى نظام تكنولوجي جديد. ولهذه الغاية، ستُبذل جهود للحد من مشاركة العلماء الروس في مشاريع البحث الدولية، وستُخلق عقبات أمام أنشطة المشاريع المشتركة في مجالات التقنيات العالية، وكذلك لصادرات التكنولوجيا الفائقة من روسيا. نتيجة لذلك، سينخفض ​​تعاون موسكو التكنولوجي مع الغرب، بينما سيزداد اعتماد روسيا التكنولوجي على الصين.

سابعاً، ستكون هناك معركة شرسة بين موسكو والغرب على عقول الناس وقلوبهم في بقية العالم، وخصوصاً في بلدان الجنوب العالمي. من أجل تحويل روسيا أخيراً إلى دولة مارقة، يحتاج الغرب إلى تحويل روايته عن الصراع الروسي الأوكراني إلى سردية عالمية شاملة.

ولهذه الغاية، ستُبذل الجهود للترويج للسردية في جنوب آسيا وجنوب شرقها والشرق الأوسط وأفريقيا وأميركا اللاتينية. سيتم تقديم روسيا كدولة تتحدى القواعد الأساسية للقانون الدولي، وتقوض أسس الأمن الأوروبي والعالمي. سيتضمن الهدف الاستراتيجي أقصى قدر ممكن من العزلة لروسيا في المسرح العالمي، وهو ما يجب أن يعوّق قدرة موسكو على تنويع ساحات سياستها الخارجية والعلاقات الاقتصادية وغيرها، ويعوق تعويضها الجزئي على الأقل عن الضرر الناجم عن تقليص التعاون مع الغرب.

هل ستتحمَّل موسكو مثل هذا الضغط لفترة طويلة؟ هل ستكون قادرة على إيجاد خيارات لمواجهة فعالة تخلق تهديدات وتحديات مضادة للخصوم الغربيين؟ هل ستعزز روسيا موقعها الحالي في التجارة العالمية، وفي المنظمات الدولية الكبرى، وفي العلاقات الثنائية مع شركائها الرئيسيين؟ هل ستكون قادرة على إيجاد موارد غير غربية واستخدامها للتحديث الاقتصادي؟

في "الواقع الجديد"، كلّ هذه الأسئلة التي لا تعدّ جديدة على موسكو لها أهمية خاصة. في الربع الأخير من القرن الماضي، أظهرت الأنظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية الروسية، على الرغم من جميع أوجه القصور العديدة فيها، درجة عالية من الاستقرار والصمود، لكنَّ روسيا فلاديمير بوتين لم تواجه بعد تحديات بحجم الأزمة الحالية