ترجمة لمقال مهم لمايكل هدسون أستاذ الاقتصاد بجامعة ميسوري الأميركية؛ يلقي فيه الضوء على الأهداف الحقيقية للولايات المتحدة الأمريكية من الحرب الباردة الجديدة التي تشنها ضد روسيا، وأقحمت فيها أوكرانيا، ما دفع روسيا إلى غزوها لمنع استخدامها كنقطة انطلاق لتحركات أمريكية وأطلسية معادية لها في الشيشان وجورجيا. ويرى أن نظاما دوليا جديدا بدأ يتشكل، ستكون فيه الصين لاعبا رئيسيا، وستشارك فيه روسيا، وستتراجع فيه أمريكا وداعميها، وستكون أوروبا ضعيفة.
وبغض النظر عن مدى الاتفاق أو الاختلاف مع الكاتب، فإن أهمية المقال تكمن في تسليط الضوء على مواضيع بالغة الحيوية لفهم السياسة الأمريكية، تتجاوز الحرب الدائرة في أوكرانيا، من خلال تناوله للمحاور التالية:
الأول: يتعلق بأهداف السياسة التي تنتهجها الولايات المتحدة الأمريكية، والتي أسماها الرئيس بايدن "حث الدب". وكانت فيها أوكرانيا مجرد وسيلة لتحقيق الهدف الأمريكي الرامي إلى إحكام إخضاع أوروبا لهيمنتها. بمنع دولها من انتهاج سياسات اقتصادية مستقلة تمليها مصالحها الوطنية. وإحباط تعاونها الاقتصادي مع روسيا والصين، لزيادة اعتمادها على الولايات المتحدة الأمريكية في المجال الاقتصادي، وفي مجال السياسة العامة.
الثاني: يتعلق بالتحول البنيوي في الاقتصاد الأمريكي من الاعتماد في تكوين الدخل على الإنتاج الصناعي (باستثناء الصناعات العسكرية) والإنتاج الزراعي، لصالح الاقتصاد الريعي (الرأسمال المالي ما بعد الصناعة) والناجم عن استخراج النفط والغاز والتعدين، والقطاع المصرفي والعقاري. ورصد الكاتب لتداعيات هذا التحول على موازين القوى داخل المجتمع الامريكي، بتراجع تأثير القطاع الصناعي والزراعي والعمل على السياسات الداخلية والخارجية للولايات المتحدة الأمريكية، لصالح مراكز القوى الثلاث الصاعدة: المجمع الصناعي العسكري، ومجمع النفط والغاز (والتعدين)، والمجمع المصرفي والعقاري.
الثالث: يتعلق بالسيطرة الأمريكية التامة على حلف الناتو (30 دولة)، واستخدامه أمريكيا لتحويل السياسة الخارجية للدول الأعضاء من مجالهم السياسي الداخلي، إلى المجال الخاص بمصالح الولايات المتحدة الأمريكية "بذريعة الأمن". ما جعل الناتو هيئة مقررة للسياسة الخارجية في دول الناتو، حتى وإن تعارضت مع مصالحها الاقتصادية.
الرابع: يتصل بالديموقراطية الأمريكية، وتحول أعضاء مجلس النواب والشيوخ (الكونغرس) من ممثلين لناخبيهم في المقاطعات والولايات، إلى ممثلين للمصالح الاقتصادية والمالية للمساهمين الرئيسيين في حملاتهم الانتخابية. فباتت قوى القلة المهيمنة الثلاث: الصناعيات العسكرية، وقطاع النفط والغاز والتعدين والقطاع المصرفي والعقاري، تسيطر (عبر ممثليهم) على رئاسة اللجان الرئيسية في مجلسي النواب والشيوخ (الكونغرس)، وتتحكم بالتعيينات في وزارتي الخارجية والدفاع.
كيف غزى المجمع الصناعي العسكري (MIC) ومجمع النفط والغاز والتعدين (OGAM) والمجمع المصرفي والعقاري (FIRE) حلف الناتو؟
كان مديري السابق هيرمان كان - الذي عملت معه في معهد هدسون في السبعينيات -قد أعد خطابا لإلقائه في الجلسة العامة. قال فيه إن معلميه في المدرسة الثانوية في لوس أنجلوس، كانوا سيقولون ما كان يقوله معظم الليبراليين في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي: "بإن الحروب لم تحل أي شيء أبدا "، وأنها لم تغير أي شيء قط - وبالتالي فلا ينبغي لنا أن نقاتل.
لم يوافق هيرمان على ذلك، وقدم قائمة بكل الأشياء التي حلتها الحروب في تاريخ العالم، أو على الأقل غيرتها. لقد كان محقا. وهذا بالطبع هو هدف كلا الجانبين في الحرب الباردة الجديدة الدائرة في أوكرانيا هذه الأيام.
السؤال المطروح هنا: ما الذي تحاول الحرب الباردة الجديدة اليوم تغييره أو "حله"؟
للإجابة على هذا السؤال، من المفيد التساؤل عن الطرف الذي يبدأ الحرب. فهناك دائما طرفان: المهاجم والمهاجم. يعتزم المهاجم تحقيق أهداف معينة. ويبحث المهاجم عن أهداف غير محددة يمكنه الاستفادة منها. في هذه الحالة، يكون لكلا الجانبين غايات محددة ومصالح خاصة.
الولايات المتحدة الأمريكية هي القوة العسكرية النشطة والمعتدية منذ العام 1991. فقد رفضت نزع السلاح المتبادل لدول حلف وارسو وحلف شمال الأطلسي. ولم يكن هناك "عائد للسلام". وعوضا عن ذلك، حققت السياسة الأمريكية التي نفذتها إدارة كلينتون والإدارات اللاحقة على مدى ثلاثين عام مكاسب من خلال التوسع العسكري عبر الناتو. إذ تم تحويل السياسة الخارجية لأوروبا الغربية وحلفاء أمريكا الآخرين من مجالهم السياسي الداخلي، إلى المجال الخاص بمصالح الولايات المتحدة الأمريكية "الأمن القومي"(مصطلح المصالح الخاصة التي لا ينبغي تسميتها). لقد بات الناتو هيئة صنع السياسة الخارجية في أوروبا، إلى حد الهيمنة على المصالح الاقتصادية لدولها.
كان الدافع وراء التصعيد الروسي مواجهة توسع العنف العرقي الأوكراني المناهض لروسيا من جانب النازيين الجدد والنظام الجديد في أوكرانيا بعد العام 2014، الهادف إلى إنهاء المخاوف الأمريكية من فقدان السيطرة الاقتصادية والسياسية على حلفائهم في الناتو ومنطقة الدولار. بعد أن تبينت هذه الدول وجود فرص كبيرة لتحقيق المكاسب عبر زيادة التجارة والاستثمار مع الصين وروسيا.
لكي نفهم ما هي أهداف الولايات المتحدة الأمريكية ومصالحها المهددة، من الضروري أن نفهم آلية صنع السياسة الأمريكية "الفقاعة/ the blob". أي التخطيط المركزي للحكومة الذي لا يمكن تفسيره من خلال النظر إلى السياسات الديمقراطية ظاهريا. فهي ليست سياسة أعضاء مجلسي النواب والشيوخ الأمريكيين الذين يمثلون مناطقهم أو ولاياتهم في الكونغرس.
القوى الأمريكية الثلاث التي تسيطر على السياسة الخارجية للولايات المتحدة
تقتضي الواقعية النظر إلى السياسة الاقتصادية والخارجية للولايات المتحدة من منظور المجمع الصناعي العسكري، ومجمع النفط والغاز (والتعدين)، والمجمع المصرفي والعقاري، مقارنة بسياسة الجمهوريين والديمقراطيين.
الأعضاء الأساسيون في مجلسي النواب والشيوخ الأمريكي (الكونجرس) لا يمثلون ولاياتهم ومقاطعاتهم، بقدر ما يمثلون المصالح الاقتصادية والمالية للمساهمين الرئيسيين في حملاتهم الانتخابية.
ووفقا لمخطط Venn (رسم بياني لتوضيح العلاقات) في عالم ما بعد المواطنين العالميين. لا يمثل السياسيون الأمريكيون جمهور الناخبين، وإنما المساهمين في حملاتهم الانتخابية. وينقسم هؤلاء المساهمون أساسا إلى ثلاث كتل رئيسية.
الكتل الرئيسية الثلاث المهيمنة التي اشترت السيطرة على مجلسي النواب والشيوخ (الكونغرس) من أجل التحكم بتعيين صانعي القرار المرغوب بهم في وزارتي الخارجية والدفاع.
الكتلة الأولى: هي المجمع الصناعي العسكري (MIC)
قام مصنعو الأسلحة (مثل رايثون Raytheon وبوينغ Boeing ولوكهيد - مارتين Lockheed-Martin) بتوزيع مصانعهم وموظفيهم في كل الولايات الأمريكية تقريبًا، وخاصة في المقاطعات التي يتم فيها انتخاب رؤساء اللجان الرئيسية للكونغرس، وترتكز قاعدتهم الاقتصادية على الريع الاحتكاري، الذي يتم الحصول عليه من مبيعات الأسلحة إلى الناتو، وإلى مصدري النفط في الشرق الأوسط، وإلى البلدان الأخرى التي لديها فائضا في ميزان المدفوعات.
لقد قفزت أسعار أسهم هذه الشركات فور ورود أنباء الهجوم الروسي. ما أدى إلى تحقيق طفرة في سوق الأوراق المالية استمرت يومين. وباعتراف المستثمرين، فإن الحرب في عالم "الرأسمالية البنتاغونية" - كما وصفها سيمور ميلمان - سوف توفر مظلة أمنية وطنية مضمونة للأرباح الاحتكارية للصناعات العسكرية.
كان أعضاء مجلس الشيوخ وممثلوا الكونجرس من كاليفورنيا وواشنطن يمثلون تقليديا المجمع الصناعي العسكري، إلى جانب الجنوب المؤيد القوي للعسكر. سيسهم الارتفاع الشديد في مبيعات الأسلحة إلى حلف الناتو وغيره من حلفاء الولايات المتحدة بعد التصعيد العسكري في الأسبوع الماضي (سرعان ما وافقت ألمانيا على رفع الإنفاق على الأسلحة إلى أكثر من 2% من الناتج المحلي الإجمالي) في تعزيز القواعد الانتخابية لهؤلاء الساسة.
الكتلة الرئيسية الثانية للأقلية المهيمنة هي: قطاع النفط والغاز، والذي انضم إليه قطاع التعدين (OGAM)
يحوز هذا القطاع على المعاملة التفضيلية الضريبية الأمريكية الممنوحة للشركات التي تستخرج الموارد الطبيعية من الأرض، وتضعها في الغالب في الغلاف الجوي والمحيطات وإمدادات المياه.
ومثل القطاع المصرفي والعقاري الذي يسعى إلى تعظيم الريع الاقتصادي وتعظيم أرباح رأس مال قطاع الإسكان والأصول الأخرى.
فإن هدف قطاع النفط والغاز والتعدين (OGAM) هو زيادة أسعار الطاقة والمواد الخام لتعظيم ريع الموارد الطبيعية. وقد شكل احتكار سوق النفط في منطقة الدولار، وعزلها عن النفط والغاز الروسي، أولوية رئيسية للولايات المتحدة الأمريكية لأكثر من عام. إذ كان خط أنابيب الغاز الطبيعي نورد ستريم 2، يهدد بربط اقتصادات أوروبا الغربية والروسية بشكل محكم.
وإن لم تكن شركات النفط والغاز والتعدين موجودة في كل منطقة انتخابية أمريكية، فإن مستثمروها موجودون. إذ يشكل أعضاء مجلس الشيوخ من تكساس وغيرها من الولايات الغربية المنتجة للنفط والتعدين جماعات الضغط الرائدة في قطاع النفط والغاز والتعدين (OGAM). إضافة الى وزارة الخارجية التي لها تأثير كبير على قطاع النفط والتعدين، من خلال توفير مظلة أمنية وطنية للإعفاءات الضريبية الخاصة الممنوحة للقطاع لتعزيز تنافسيته في الأسواق العالمية. فضلا عن هدفها السياسي الفرعي المتمثل بتجاهل ورفض محاولات نشطاء البيئة للضغط من أجل الاستعاضة عن النفط والغاز والفحم (الملوث للبيئة) واستبداله بمصادر بديلة للطاقة.
وانطلاقا من ذلك، دعمت إدارة بايدن التوسع في عمليات الحفر البحرية، ودعمت، أيضا، خط الأنابيب الكندي في رمال قطران أثاباسكا، أكثر مصادر البترول قذارة في العالم. واحتفلت بإحياء عمليات التنقيب الأمريكي.
تمتد السياسة الخارجية الأمريكية، أيضا، إلى منع الدول الأجنبية إدامة سيطرتها على قطاع النفط والغاز والتعدين، لإتاحة الفرصة أمام شركات النفط والغاز والتعدين الأمريكية /OGAM / والموردين الأمريكيين للتنافس في الأسواق العالمية.
فضلا عن أن عزل روسيا (وإيران) عن الأسواق الغربية من شأنه خفض المعروض من النفط والغاز في الأسواق، ما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار وزيادة أرباح الشركات.
الكتلة الرئيسية الثالثة للأقلية المهيمنة هي: القطاع المصرفي/التمويل التكافلي والتأمين/ والعقاري (FIRE)
خلف القطاع الرأسمالي المالي الحديث الأرستقراطية القديمة ما بعد الإقطاعية في أوروبا، التي تعيش على إيجارات الأراضي والعقارات. ونظرا لأن معظم المساكن باتت اليوم مشغولة بمالكيها (على الرغم من ارتفاع معدلات الملكية الغائبة بشكل حاد منذ موجة إخلاء أوباما التي أعقبت أزمة العام 2008). أصبح يتم دفع إيجار الأراضي والعقارات على نحو كبير إلى القطاع المصرفي في شكل فوائد على الرهن العقاري وإطفاء الدين (على ارتفاع نسبة الدين إلى رأس المال السهمي مع تضخيم الإقراض المصرفي لأسعار الإسكان). إن نحو 80% من القروض المصرفية الأميركية والبريطانية تقدم إلى القطاع العقاري، الأمر الذي أدى إلى تضخيم أسعار الأراضي لخلق مكاسب رأسمالية ــ وهي معفاة من الضرائب للمالكين الغائبين.
تستند هذه الكتلة المصرفية والعقارية المتمركزة في وول ستريت على نطاق أوسع من مركز العمل المصرفي والعقاري، على أساس كل مقاطعة على حدة. ويترأس مجلس الشيوخ في نيويورك من وول ستريت، تشاك شومر، بدعم طويل من عضو مجلس الشيوخ السابق في ولاية ديلاوير المدعوم من صناعة بطاقات الائتمان جو بايدن، وأعضاء مجلس الشيوخ المدعومين من قطاع التأمين الذي يتركز في تلك الولاية.
ويتمثل هدف هذا القطاع على الصعيد المحلي في تعظيم إيجار الأراضي ومكاسب "رأس المال" الناتجة عن ارتفاع إيجار الأراضي.
وعلى الصعيد الدولي يتمثل هدف قطاع معلومات الاستثمار الأجنبي في خصخصة الاقتصادات الأجنبية، وذلك لضمان جعل ميزة إنشاء الائتمان في أيدي الولايات المتحدة) بغية تحويل الهياكل الأساسية الحكومية والمرافق العامة إلى احتكارات تسعى إلى الحصول على الريع لتوفير الخدمات الأساسية (مثل الرعاية الصحية والتعليم والنقل والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات) بأعلى الأسعار، بدلا الأسعار المدعومة لخفض تكاليف المعيشة وتكاليف ممارسة الأعمال. وكان وول ستريت دوما يندمج عن كثب مع صناعة النفط والغاز (مجموعة سيتي غروب وتشايس مانهاتن المصرفية التي تهيمن عليها شركة روكفلر).
قطاع الصناعات العسكرية (MIC) وقطاع النفط والغاز والتعدين (OGAM) والقطاع المصرفي والعقاري (FIRE) هي القطاعات الريعية الثلاث التي تهيمن اليوم على الرأسمالية المالية ما بعد الصناعية. وقد ارتفعت ثرواتهم المتبادلة مع زيادة مخزون قطاعي الصناعات العسكرية والنفط والغاز.
وتعد التحركات لاستبعاد روسيا من النظام المالي الغربي (وجزئيًا الآن من نظام سويفت/SWIFT)، إلى جانب الآثار السلبية لعزل الاقتصادات الأوروبية عن الطاقة الروسية، بتحفيز التدفق على سوق الأوراق المالية المُدولَرة.
كما ذكر في البداية، من المفيد النظر إلى السياسة الاقتصادية والخارجية للولايات المتحدة الأمريكية من منظور المجمعات القائمة على هذه القطاعات الريعية الثلاث، أكثر من النظر إليها من منظور سياسة الجمهوريين والديمقراطيين. إذ لا يمثل أعضاء مجلسي النواب والشيوخ (الكونجرس) ولاياتهم ومقاطعاتهم، بقدر ما يمثلون المصالح الاقتصادية والمالية للممولين الرئيسيين لحملاتهم الانتخابية. ولهذا السبب فلا الصناعة ولا الزراعة تلعبان الدور المهيمن في السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية اليوم.
إن تقارب الأهداف السياسة للمجموعات الريعية الثلاث المهيمنة في أمريكا يطغى على مصالح العمال وحتى على مصالح رأس المال الصناعي خارج نطاق الصناعات العسكرية.
هذا التقارب هو السمة المميزة للرأسمالية المالية ما بعد الصناعية اليوم. إنها في الأساس عودة إلى البحث عن الريع الاقتصادي المستقل عن سياسات العمل ورأس المال الصناعي.
وعليه، فإن الديناميكيات التي يتعين تتبعها اليوم، هي السبب في أن هذه القلة المهيمنة وجدت مصلحة بدفع روسيا إلى ما تعتبره بوضوح موقف "افعل أو تموت" لمواجهة الهجمات العنيفة المتزايدة على المقاطعات الأوكرانية الشرقية الناطقة بالروسية، لوهانسك ودونيتسك إلى جانب التهديدات الغربية الأوسع ضد روسيا.
العواقب المتوقعة من الحرب الباردة الجديدة
كما أوضح الرئيس بايدن، فإن التصعيد العسكري الحالي الذي تنظمه الولايات المتحدة الأمريكية (حث الدب) لا يتعلق فعليا بأوكرانيا. تعهد بايدن في البداية بعدم مشاركة أي قوات أمريكية. لكنه ظل يطالب منذ أكثر من عام بأن تمنع ألمانيا خط أنابيب "نورد ستريم 2" من إمداد صناعتها ومساكنها بالغاز منخفض السعر، والتوجه إلى الموردين الأمريكيين ذوي الأسعار المرتفعة.
حاول المسؤولون الأمريكيون في البداية وقف بناء خط الأنابيب ومنعه من الاكتمال. فتمت معاقبة الشركات التي تساعد في انشائه. لكن في النهاية أكملت روسيا نفسها خط الأنابيب. ثم انقلب الضغط الأمريكي على السياسيين الألمان المطيعين تقليديا، مدعين أن ألمانيا وبقية أوروبا تواجه تهديدا للأمن القومي من قيام روسيا بإيقاف الغاز، على الأرجح لانتزاع بعض التنازلات السياسية أو الاقتصادية. لا يمكن التفكير في أي مطالب روسية محددة، وبالتالي فإن طبيعتها ظلت غامضة. رفضت ألمانيا السماح لـ Nord Stream 2 ببدء التشغيل رسميا.
من بين الأهداف الرئيسية للحرب الباردة الجديدة اليوم، احتكار سوق شحنات الغاز الطبيعي المسال في الولايات المتحدة الأمريكية. وفي ظل إدارة دونالد ترامب تعرضت أنجيلا ميركل للتنمر، ووعدت بإنفاق مليار دولار لبناء مرافق ميناء جديد لسفن الناقلات الأمريكية لتفريغ الغاز الطبيعي للاستخدام الألماني. غير أن فوز الحزب الاشتراكي الديموقراطي بالانتخابات في تشرين الثاني (نوفمبر) 2020، وتقاعد السيدة ميركل وخروجها من المشهد السياسي الألماني، أدى إلى إلغاء هذا الاستثمار في الموانئ. تاركا ألمانيا فعليا بدون بديل كبير لاستيراد الغاز الروسي لتدفئة منازلها، وتشغيل مرافقها الكهربائية، وتوفير الطاقة والمواد الخام لصناعة الأسمدة، وبالتالي الحفاظ على إنتاجيتها الزراعية.
وعليه، فإن الهدف الاستراتيجي الأكثر إلحاحا الذي تسعى الولايات المتحدة الأمريكية إلى تحقيقه في مواجهة حلف الناتو مع روسيا، يتلخص في ارتفاع كبير لأسعار النفط والغاز، وقبل كل شيء على حساب ألمانيا. لأن ارتفاع أسعار الطاقة سيضعف الكثير من قوة الاقتصاد الألماني. بالإضافة إلى تحقيق أرباح ومكاسب في سوق الأوراق المالية لشركات النفط الأمريكية.
وهذه هي المرة الثالثة التي تهزم فيها الولايات المتحدة الأمريكية ألمانيا خلال قرن - في كل مرة تزيد من سيطرتها على الاقتصاد الألماني، يزداد اعتماد ألمانيا على الولايات المتحدة الأمريكية في التزود بالواردات وفي قيادة السياسة العامة. ويشكل حلف الناتو الضابط الفعال ضد أي مقاومة قومية محلية.
سيؤدي ارتفاع أسعار البنزين والتدفئة وأسعار الطاقة الأخرى إلى الإضرار بالمستهلكين الأمريكيين والمستهلكين في الدول الأخرى (خاصة الاقتصادات التي تعاني من عجز الطاقة في دول الجنوب) وسيترك القليل من ميزانية الأسرة الأمريكية للإنفاق على السلع والخدمات المحلية. ويمكن أن يؤدي ذلك إلى الضغط على مالكي المنازل والمستثمرين المهمشين، مما يؤدي إلى زيادة تركيز ملكية الغائبين للمساكن والممتلكات التجارية في الولايات المتحدة، إلى جانب عمليات شراء أصحاب العقارات المتعثرة في البلدان الأخرى التي تواجه ارتفاع تكاليف التدفئة والطاقة. لكن هذا يعتبر ضررا جانبيا بسبب ازدهار (فقاعة) ما بعد الصناعة.
كما سترتفع أسعار المواد الغذائية وعلى رأسها القمح. (تمثل روسيا وأوكرانيا 25% من صادرات القمح العالمية.) سيؤدي ذلك إلى الضغط على العديد من بلدان العجز الغذائي في الشرق الأوسط ودول الجنوب، مما يؤدي إلى تدهور ميزان مدفوعاتها، ويهددها بالتخلف عن سداد الديون الخارجية.
قد تعرقل روسيا صادرات المواد الخام الروسية ردا على عقوبات العملة وسويفت. وهذا يهدد بإحداث انقطاع في سلاسل التوريد للمواد الرئيسية، بما في ذلك الكوبالت والبلاديوم والنيكل والألمنيوم (التي يستهلك إنتاجها الكثير من الكهرباء باعتباره التكلفة الرئيسية - مما سيجعل هذا المعدن أكثر كلفة).
وإذا قررت الصين أن تنظر لنفسها باعتبارها الدولة القادمة التي تتعرض للتهديد، وانضمت إلى روسيا في احتجاج مشترك ضد الحرب التجارية والمالية التي تشنها الولايات المتحدة الأمريكية، فإن الاقتصادات الغربية ستتعرض لصدمة خطيرة.
إن الحلم بعيد المدى للحرب الباردة الأمريكية الجديدة هو تفكيك روسيا، أو على الأقل استعادة حكمها الإداري. أولاد يلتسين / هارفارد، مع سعي القلة إلى جني الأموال من عمليات الخصخصة في أسواق الأوراق المالية الغربية. وما يزال مجمع النفط والغاز والتعدين (OGAM) يحلم بشراء أغلبية الاسهم في يوكوس وجازبروم. وتود وول ستريت إعادة خلق طفرة في سوق الأوراق المالية الروسية. ويتوقع مستثمرو الصناعات العسكرية (MIC) احتمال بيع المزيد من الأسلحة للمساعدة في تحقيق كل هذا.
نوايا روسيا: الاستفادة من العواقب غير المقصودة التي تخلفها أمريكا
ماذا تريد روسيا؟
روسيا تريد على الفور إزالة النواة النازية الجديدة المناهضة لها والتي استحدثت في مذبحة ميدان وانقلاب عام 2014. وسيتم تحييد أوكرانيا، وهو ما يعني بالنسبة لروسيا بشكل أساسي أوكرانيا مؤيدة لروسيا، تهيمن عليها دونيتسك ولوهانسك وشبه جزيرة القرم. والهدف هو منع أوكرانيا من أن تصبح نقطة انطلاق لتحركات أمريكية معادية لروسيا في الشيشان وجورجيا.
وعلى المدى الطويل يتمثل هدف روسيا في ابتعاد أوروبا عن هيمنة الناتو والولايات المتحدة الأمريكية- وفي هذه العملية، إنشاء نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب مع الصين يتمحور حول منطقة أوراسيا متكاملة اقتصاديا. والهدف هو حل الناتو تماما، ثم الترويج لسياسات نزع السلاح ونزع السلاح النووي على نطاق واسع، والتي ما فتئت تدفع من أجله. فلن يؤدي هذا إلى خفض المشتريات الأجنبية من الأسلحة الأمريكية فحسب، بل قد يؤدي في النهاية إلى فرض عقوبات على المغامرات العسكرية الأمريكية في المستقبل. ومن شأن ذلك أن يترك لأمريكا قدرة أقل على تمويل عملياتها العسكرية مع تسارع وتيرة نزع الدولار.
والآن بعد أن أصبح واضحا لأي مراقب مطلع أن:
1) هدف الناتو هو العدوان وليس الدفاع.
2) ليس هناك المزيد من الأراضي التي يمكن أن ينتصر عليها من بقايا الاتحاد السوفيتي القديم.
فما الذي تحققه أوروبا من استمرار العضوية؟
من الواضح أن روسيا لن تغزو أوروبا أبدا مرة أخرى. ليس لديها ما تكسبه - وليس لديها ما تكسبه من محاربة أوكرانيا، باستثناء دحر توسع حلف الناتو عبر العملاء في ذلك البلد، والهجمات التي يدعمها الناتو على روسيا الجديدة.
هل سيسأل القادة القوميون الأوروبيون (اليسار مؤيد إلى حد كبير للولايات المتحدة الأمريكية) لماذا يجب على بلدانهم أن تدفع ثمن الأسلحة الأمريكية التي تعرضهم فقط للخطر، وتدفع أسعارا أعلى للغاز الطبيعي المسال والطاقة، وتدفع أكثر للحبوب والمواد الخام التي تنتجها روسيا، وتفقد خيار القيام بالتصدير وجني الأرباح من الاستثمار السلمي في روسيا - وربما خسارة الصين أيضا؟
تهدد مصادرة الولايات المتحدة للاحتياطيات النقدية الروسية، في أعقاب السرقة الأخيرة لاحتياطيات أفغانستان (واستيلاء إنجلترا على مخزون فنزويلا من الذهب المحتفظ به هناك) التزام كل دولة بمعيار الدولار. ومن ثم دور الدولار كأداة لادخار النقد الأجنبي من قبل الدولة بالبنوك المركزية في العالم. سيؤدي ذلك إلى تسريع عملية إزالة الدولرة الدولية التي بدأت بالفعل من قبل روسيا والصين بالاعتماد على الحيازات المتبادلة من عملات بعضهما البعض.
على المدى الطويل، من المرجح أن تنضم روسيا إلى الصين في تشكيل بديل لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي اللذين تهيمن عليهما الولايات المتحدة الأمريكية. إعلان روسيا عن رغبتها في اعتقال النازيين الأوكرانيين وإجراء محاكمة لجرائم الحرب يبدو أنه يعني ضمنا إنشاء بديل لمحكمة لاهاي عقب الانتصار العسكري الروسي في أوكرانيا. يمكن لمحكمة دولية جديدة فقط محاكمة مجرمي الحرب من قيادة النازيين الجدد في أوكرانيا، وصولاً إلى المسؤولين الأمريكيين المسؤولين عن الجرائم ضد الإنسانية على النحو المحدد في قوانين نورمبرغ.
أتوقع أن تنسحب روسيا هذا الأسبوع. لا أستطيع أن أتخيل أن لديها أي نية في إنفاق الموارد والعيش على الاحتلال. كانت مهمتها الأولى هي وقف الهجوم على المقاطعات الشرقية الناطقة بالروسية وحماية شبه جزيرة القرم. ومهمتها الثانية هي القضاء على القوات العسكرية للنازيين الجدد والقبض على قادتهم إن أمكن، وتقديمهم للمحاكمة بتهمة ارتكاب جرائم حرب - ثم المضي قدما إلى رعاتهم الأمريكيين.
من الممكن بالطبع أن تنفصل أوروبا. في هذه الحالة، ستتجه روسيا نحو الصين وزملائها الأعضاء في منظمة شنغهاي للتعاون. ستعاني أوروبا من مشاكل سلسلة التوريد الحادة، وتضخم أسعار السلع الأساسية، وضغوط الميزانية لسكانها وحكوماتها.
هل فكرت "الفقاعة" الأمريكية بالفعل في عواقب حرب الناتو؟
يكاد يكون من الدعابة السوداء أن ننظر إلى محاولات الولايات المتحدة الأمريكية لإقناع الصين بضرورة الانضمام إلى الولايات المتحدة في إدانة تحركات روسيا في أوكرانيا. كانت أكبر النتائج غير المقصودة للسياسة الخارجية للولايات المتحدة هي دفع روسيا والصين معا، جنبا إلى جنب مع إيران وآسيا الوسطى ودول أخرى على طول مبادرة الحزام والطريق.
حلمت روسيا بإنشاء نظام عالمي جديد، لكن المغامرة الأمريكية هي التي دفعت العالم إلى نظام جديد تماما- نظام يبدو أن الصين تهيمن عليه باعتبارها الفائز الافتراضي الآن بعد أن تمزق الاقتصاد الأوروبي بشكل أساسي، وتركت أمريكا بما انتزعته من روسيا وأفغانستان، ولكن من دون القدرة على كسب الدعم في المستقبل.
وقد يكون كل ما كتبته أعلاه قد عفا عليه الزمن بالفعل، لأن روسيا والولايات المتحدة قد وضعتا في حالة تأهب نووي. أملي الوحيد هو أن يتمكن بوتين وبايدن من الاتفاق على أنه إذا قصفت روسيا بريطانيا وبروكسل بالقنابل الهيدروجينية، فسيكون هناك اتفاق بين الشيطان (وليس السيد) على عدم قصف بعضهما البعض.
بمثل هذا الحديث، عدت إلى مناقشاتي مع هيرمان كان قبل 50 عام. أصبح لا يحظى بشعبية كبيرة بسبب كتابته "التفكير فيما لا يمكن تصوره"، بمعنى الحرب النووية. كما كان يسخر من دكتور سترينجلوف الذي قال إنه سيكون هناك ناجون بالفعل. لكنه أضاف أنه بالنسبة إليه، كان يأمل أن يكون محقا تحت القنبلة النووية، لأنه لم يكن العالم الذي يريد أن يعيش فيه.