من المرجّح أن ترافقنا فترة طويلة التحليلات المتعلقة بالتحوّلات السياسية التي ستسفر عنها الحرب الروسية ضد أوكرانيا أو ما بات يُعرف بـ"الأزمة الأوكرانية"، ولا سيما بعد أن تخفت حدّة ألسنة اللهب.
ومن المؤكد أن هذه التحولات ستنطوي على انعكاسات تتعلق بمنطقة الشرق الأوسط، وسيكون لها تأثير في إسرائيل.
ويبدو أن التأثير بالنسبة إلى إسرائيل سيكون إلى درجة كبيرة رهن سلوكها حيال الحرب وتداعياتها، ولا سيما موقفها من روسيا والذي لا ينطوي حتى الآن على جانب مُعلن من الصدامية، كي لا نقول إنه منطوٍ على قدرٍ من الممالأة.
فهمُ هذا الموقف الإسرائيلي يتطلّب قراءة مُجدّدة لتاريخ العلاقات بين الدولتين منذ انهيار الاتحاد السوفييتي العام 1991، كون قراءة كهذه قادرة على وضع الأمور في نصابها وسياقاتها. ومن أجل ذلك سنستعين بمواد نُشرت سابقاً في "المشهد الإسرائيلي".
بداية لا بُدّ من التذكير بأن العلاقات الثنائية بين البلدين شهدت تقلبات حادّة، بدأت مع دعم غير محدود قدمه الاتحاد السوفييتي السابق إلى دولة إسرائيل، عشية قيامها ولدى تأسيسها في العام 1948. ولكن رئيس الحكومة الأول في إسرائيل، ديفيد بن غوريون، اختار في بداية الخمسينيات اعتبار إسرائيل جزءا من "معسكر الدول الديمقراطية الغربية" فأخذت السياسة الإسرائيلية بالتقرب إلى الدول الغربية، وفي مقدمها الولايات المتحدة، والابتعاد عن الاتحاد السوفييتي تدريجياً، حتى الانحياز الإسرائيلي التام إلى المعسكر الغربي. وفي شباط 1953، وقعت عملية تفجيرية في الممثلية السوفييتية في تل أبيب، فكان الرد السوفييتي قطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل.
لكن هذه العلاقات استؤنفت في تموز 1953. وعاد الاتحاد السوفييتي إلى قطع علاقاته الدبلوماسية مع إسرائيل في إثر عدوان حزيران 1967 ولم يتم استئنافها إلا بعد مضي 24 عاماً، في تشرين الأول 1991، قبل نحو شهرين من تفكك الاتحاد السوفييتي وانهياره. وفي كانون الأول 1991، قدم سفير الاتحاد السوفييتي، ألكسندر بوبين، أوراق اعتماده إلى رئيس الدولة الإسرائيلية آنذاك، حاييم هرتسوغ، وبعد أسبوعين تقريباً، في 25 كانون الأول 1991، تفكك الاتحاد السوفييتي نهائيا فأصبح بوبين السفير الأول للجمهورية الروسية في إسرائيل، بينما قدم أرييه ليفين أوراق اعتماده إلى الرئيس الروسي، بوريس يلتسين، ليكون السفير الإسرائيلي الأول في الجمهورية الروسية.
ويمكن القول إن العلاقات الإسرائيلية ـ الروسية تسير على خطٍ منهجيّ متصل من التعميق والتعزيز منذ العام 2009 تحديداً، ويعيد البعض الفضل في ذلك إلى وزير الخارجية الإسرائيلي في ذلك الوقت، أفيغدور ليبرمان (وزير المالية الحالي)، على الرغم من أن الزيارة الرسمية التاريخية التي قام بها الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إلى إسرائيل في العام 2005 شكّلت دفعة قوية لهذا الخط. وحققت هذه العلاقات قفزة كبيرة على خلفية التدخل الروسي العسكري النشط في كل ما يجري على الساحة السورية ابتداء من أيلول 2015، بما في ذلك إرسال قوات عسكرية وأسلحة روسية متطوّرة إلى هناك، مما جعل تعزيز العلاقات بين البلدين "ضرورة ماسة لكلا الجانبين، إذ أصبحنا ـ نحن والروس ـ جيراناً، بكل ما يعنيه ذلك وبكل ما يترتب عليه"، بحسب ما صرّح به "مسؤول إسرائيلي رفيع المستوى يعمل في مجال العلاقات بين الدولتين" ("هآرتس"، 7/6/2016).
وفي مناسبة مرور ربع قرن على استئناف العلاقات بين الدولتين قام رئيس الحكومة الروسية ديمتري ميدفيديف بزيارة إلى إسرائيل في تشرين الثاني 2016، وكتب يعقوب ليفنه، مدير دائرة أوروبا - آسيا في وزارة الخارجية الإسرائيلية، مقالاً في موقع وزارة الخارجية قال فيه إن ربع القرن هذا كان مختلفاً للغاية، وخلاله تطوّرت علاقات مهمة مع روسيا من دون المساس بعلاقة إسرائيل مع الولايات المتحدة ودول أخرى. فقد أحدث تفكك الاتحاد السوفييتي في نهاية العام 1991 انقلاباً في العلاقة بإسرائيل؛ استؤنفت العلاقات الدبلوماسية، وفُتحت السفارتان، وأعيد من جديد بناء العلاقات بين الدولتين والشعبين، وسُمح لليهود بالخروج بحرية، واختار أكثر من مليون يهودي الهجرة إلى إسرائيل وبناء حياتهم فيها، وهم بذلك غيروا مصيرهم الشخصي وقدموا مساهمة ثمينة جداً من أجل نمو دولة إسرائيل وازدهارها. كما أشار إلى أن جميع حكومات إسرائيل أدركت أهمية العلاقات مع روسيا الجديدة وعملت على تطويرها. وجميع رؤساء الحكومات، بدءاً من إسحق رابين، زاروا موسكو مراراً وأقاموا علاقات عمل وعلاقات شخصية حيوية مع القيادة الروسية. كما أسست وزارة الخارجية الإسرائيلية علاقات يومية نشطة مع نظرائها من الدبلوماسيين الروس. ونتيجة لذلك وقعت إسرائيل وروسيا مجموعة اتفاقيات اقتصادية تحولت بسببها روسيا إلى واحدة من أهم الشركاء التجاريين لإسرائيل مع تبادل تجاري بقيمة مليارات الدولارات. كما يوجد تعاون ممتاز على صعيد الصناعات التكنولوجية المتقدمة والابتكار والعلوم. وفي العام 2008 وقع اتفاق إلغاء تأشيرات الدخول، ومنذ ذلك الحين ازداد تدفق السياح من روسيا، وتحولت إسرائيل إلى نقطة جذب للروس الراغبين في الترفيه عن أنفسهم والحج إلى الأماكن المقدسة وزيارة الأقرباء والأصدقاء. كما يزداد عدد الإسرائيليين الذي يزورون روسيا.
ومع مرور الأعوام ازداد الوعي بالحاجة إلى الاعتراف والاعتزاز بالإرث المشترك بين الشعبين اللذين وُصفا بأنهما "يعيشان إلى جانب بعضهما البعض منذ آلاف السنوات". ويتمتع يهود روسيا حالياً بحرية دينية كاملة، والطائفة اليهودية هناك مزدهرة أكثر من أي وقت مضى. ويشكل اليهود الذين يتحدثون باللغة الروسية جسراً بشرياً متيناً وحياً يساهم في توطيد العلاقات وفي بناء الثقة.
وفي الحرب العالمية الثانية قاتل أكثر من نصف مليون يهودي في صفوف الجيش الأحمر. ومن أجل تخليد مقاتلي هذا الجيش الذي هزم النازيين وحرر معسكرات الإبادة، أقيم نصب تذكاريّ رسمي في نتانيا دشنه في العام 2012 رئيس الدولة شمعون بيريس، ورئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، خلال زيارة ثانية قام بها بوتين إلى إسرائيل في ذلك العام. كما قام بوتين بزيارة ثالثة العام 2020 للمشاركة في "المنتدى العالمي الخامس لإحياء ذكرى الهولوكوست" الذي عقد في مؤسسة "ياد فشيم".
وبرأي هذا المسؤول الإسرائيلي استدعى تدخل روسيا عسكرياً في الحرب الأهلية في سورية علاقة وثيقة أكثر من السابق بين المستويين السياسي والعسكري في كلا البلدين، وأصبح كل منهما يعرف أفضل من السابق الحاجات الأمنية للآخر، ونمت بين الجيش الروسي والجيش الإسرائيلي علاقة تمنع وقوع أي احتكاك.
وهكذا إذ تنطبع العلاقات بين روسيا وإسرائيل بهذه التوصيفات، فإنها في الوقت ذاته يمكن أن تُعبّر عن مواقف أو رؤى مشتركة حيال العالم والعديد من الأشياء.