صوّت البرلماني الألماني (البوندستاغ) في 8 ديسمبر 2021 على تولي أولف شولتز مستشاراً جديداً لألمانيا لينهي حقبة المستشارة ميركل التي حكمت فيها البلاد مدة استمرت 16 عاماً عبر أربع دورات متتالية، منها ثلاث دورات تشريعية تحت ما يسمى “الائتلاف الكبير” (تحالف الاتحاد المسيحي بفرعيه + الاشتراكيون)، فيما ظلت حقبة الخارجية من نصيب الاشتراكيين في ظل هذا التحالف. ويحكم ألمانيا الآن تحالف ثلاثي من أحزاب (الاشتراكيين + الخضر + الليبراليين)، وطبقاً لبرامجهم الانتخابية وأيديولوجياتهم ثمة تباين، لكن من المفترض أن وثيقة الائتلاف التي تم التوافق عليها في 25 نوفمبر2021 حددت ملامح السياسة الخارجية وأولوياتها لألمانيا، في ضوء تحديات عديدة من بينها التوتر بين روسيا والغرب، وأزمة قيادة أوروبا، والعلاقات الأطلسية، وكيفية التعامل مع التمدد الصيني.
وتهدف الورقة إلى بحث محددات السياسة الخارجية لألمانيا والسيناريوهات المحتملة في ضوء ما رسمته أولاً وثيقة الائتلاف الحاكم التي شهدت تخلي الأحزاب المكونة للحكومة عن بعض بنود من برامجها الانتخابية حتى يمكن تشكيل الحكومة وعدم تعطيلها على غرار ما حدث في الانتخابات السابقة عام 2017 التي شهدت مفاوضات تشكيل الحكومة فيها نحو ستة أشهر، وثانياً في ضوء المتغيرات التي جرت بعد تصويت البرلمان الألماني وعلى رأسها الأزمة الأوكرانية، فضلاً عن التوجهات الحاكمة للسياسة الألمانية الحاكمة منذ إعادة توحيد ألمانيا 1990.
أولاً- أولويات السياسة الخارجية
رسمت وثيقة الائتلاف – الذي سيحكم ألمانيا السنوات الأربع المقبلة – ملامح التوجهات الخارجية، ورؤى الائتلاف تجاه القضايا الإقليمية والدولية، بما يعني كيفية التعامل والمسارات المتفق عليها بناء على ركائز ثابتة بعضها محدد في الدستور كثوابت لا تختلف عليها الحكومات المتعاقبة في ألمانيا مثل العلاقة مع الاتحاد الأوروبي ودور ألمانيا داخله، وبعضها بحسب مقتضى المصالح الاقتصادية التي تحكمت في مسار العلاقات الدولية والإقليمية لألمانيا. جاء ملف السياسة الخارجية في وثيقة الائتلاف بداية من صفحة 130 حتى صفحة 157، وشمل عدداً من القضايا الرئيسية، بالإضافة إلى توصيفات يظهر منها اتجاهات ألمانيا نحو الدول الكبرى، مثل: الولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا، والصين، وغيرها من الدول التي ترتبط استراتيجياً بألمانيا، ويمكن توضيح ذلك في النقاط التالية:
1. التكامل والإصلاح الأوروبي: حرصت وثيقة الائتلاف الألماني على ربط سياساتها ورؤيتها الخارجية في بداية الجزء المختص بذلك، بمسؤولية ألمانيا تجاه الاتحاد الأوروبي ذلك الكيان الديمقراطي ذو السيادة الاستراتيجية، الذي هو الأساس لسلام ألمانيا وازدهارها. وبالتالي فإن الحكومة الجديدة سوف تحدد مصالح ألمانيا وفق المصالح الأوروبية في ضوء نظام عالمي متعدد الأطراف قائم على قواعد القانون الدولي (أي قواعد) ويستند إلى أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة (SDG). طرحت الوثيقة مفهوم “الدولة الأوروبية الفيدرالية” التي تقوم على أساس لا مركزي وفقاً لمبادئ الحقوق الأساسية، وتقريباً يمثل هذا المفهوم إلى حد ما رؤية مغايرة لتلك التي طرحها ماكرون في عام 2017 تحت مسمى “الولايات الأوروبية” التي تقترب من النظام الأمريكي أو الولايات الأمريكية. طرحت الوثيقة بعض المقترحات لإصلاح عمل مؤسسات الاتحاد الأوروبي أيضاً، ومنها: تقوية البرلمان الأوروبي عبر "حق المبادرة"، وتوسيع نظام التصويت بالأغلبية المؤهلة في المجلس الأوروبي، وإنشاء قانون انتخابي أوروبي موحد بقوائم وطنية جزئية.
2. الهجرة واللجوء: حظيت قضية الهجرة واللجوء في وثيقة الائتلاف بمساحة جيدة، في سياقين الأول تناول المسؤولية الإنسانية لألمانيا تجاه اللاجئين، والإجراءات المنتظر تطبيقها خلال السنوات الأربع المقبلة ما بين الحد من الهجرة غير النظامية، وتنظيم الهجرة النظامية، وذلك عبر الخطوات التالية:
• منح الشباب المندمجين فرصة البقاء في ألمانيا بعد ثلاث سنوات من الإقامة.
• تسريع إصدار التأشيرات ورقمنتها بشكل مكثف، بما يضمن انتظام هجرة العمالة المتخصصة، التي تعاني ألمانيا النقص فيها، فبحسب مدير الوكالة الاتحادية للعمل في ألمانيا ديتليف شيله أن سوق العمل الألماني يحتاج سنوياً إلى نحو 400 ألف مهاجر لسد فجوات نقص العمالة.
• تسريع إجراءات اللجوء وتحديد الفئات الضعيفة التي تحتاج الدعم.
• منح الإقامة للأشخاص الذين يعيشون في ألمانيا منذ خمس سنوات تنتهي في 1يناير 2022، شريطة عدم ارتكابهم جرائم جنائية والتزامهم بالنظام الأساسي لألمانيا.
• تقديم دورات اندماج للقادمين إلى ألمانيا منذ بداية وجودهم.
السياق الثاني اختصته الوثيقة بالسعي نحو إصلاح جذري لنظام اللجوء الأوروبي، من خلال:
• توزيع عادل للمسؤولية الإنسانية تجاه اللاجئين بين دول الاتحاد الأوروبي، خاصة الدول المطلة على البحر المتوسط، مع العلم أن هذه النقطة تحديداً كانت مثار الخلاف عند (إيطاليا، اليونان، إسبانيا، مالطا).
• تقديم دعم دائم للدول المضيفة ودول العبور، وهنا لم تشر الوثيقة إلى هل يقصد هنا الدول الأوروبية التي بالفعل يتم دعمها أم دول مثل تركيا التي من المفترض أن الاتفاق الموقع بينها وبين الاتحاد الأوروبي تقريباً انتهى مالياً، ودعمت ميركل – المستشارة السابقة – مواصلة استمرار اتفاق اللاجئين الموقع بين تركيا والاتحاد الأوروبي في مارس 2016 ودعم تركيا من خلاله عبر تقديم مبالغ مالية جديدة لتركيا .
• تعزيز إجراءات إعادة التوطين بناء على الاحتياجات التي وضحتها المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.
3. الناتو ومهام الجيش الألماني: أقرت الوثيقة بدور حلف الناتو في أمن ألمانيا، والتزام الحكومة الجديدة بتعزيز التحالف عبر الأطلسي، والمشاركة في تحمّل الأعباء، و تم ذكر نية الائتلاف بعمل استراتيجية شاملة للأمن القومي الألماني، حيث تستثمر فيها 3في المئة من الناتج المحلي الإجمالي على العمل الدولي بما في ذلك التزامها تجاه حلف الناتو، بما يعني أن الـ 3في المئة سوف تشمل الإنفاق العسكري والتزامات أخرى غير واضح بها هل هناك زيادة في الإنفاق العسكري أم لا. وفيما يخص القدرات الدفاعية ومهام الجيش الألماني، تم التركيز على نقطتي تعزيز قدرات الردع كجزء من المساهمة الأوروبية في الناتو، وبقاء مهام الجيش الألماني وبعثاته الخارجية في حدود الموافقات البرلمانية وفي سياق قرارات الأمم المتحدة.
الملاحظ هنا أن الوثيقة أو الائتلاف تجنبا نقطتين الأولى ذكر أي طموحات عن جيش أوروبي موحد أو أي استقلالية دفاعية عن الناتو، والثانية الوجود العسكري للولايات المتحدة الأمريكية في ألمانيا، الذي هدد ترامب في يوليو 2020 بسحب جزء منه، ثم جاء بايدن وعدل عن هذا التوجه بل قرر إرسال 500 جندي إضافي للقواعد العسكرية الأمريكية في ألمانيا. هذا النهج الألماني يعد بمنزلة ملف خلافي جديد مع الحليف الفرنسي الذي كان يطمح طوال السنوات الخمس الماضية إلى تبنّي مشروع الجيش الأوروبي الموحد.
4. العلاقة بالقوى الكبرى: وضحت الوثيقة ترتيب الدول المهمة لألمانيا وفي مقدمتها الشراكة الأطلسية مع الولايات المتحدة التي تمثل ركيزة أساسية لأنشطة ألمانيا الدولية، مع التأكيد على أهمية العلاقات مع كندا في السياق نفسه أيضاً. بعد الولايات المتحدة وكندا جاءت بريطانيا كأقرب الشركاء التي تهتم بهم ألمانيا من خارج الاتحاد الأوروبي. فيما يخص منطقة التوتر الثلاثية (روسيا – بيلاروسيا – أوكرانيا) فجاءت المقاربة الفكرية على غرار توجهات ميركل السابقة، حيث يعارض الائتلاف الجديد دعم روسيا للرئيس البيلاروسي لوكاشينكو، وتدعم المعارضة الديمقراطية هناك ومطالبهم من الإفراج عن السجناء السياسيين، وإقامة انتخابات رئاسية جديدة وغيرها من المطالب التي يرفضها النظام البيلاروسي وتم توقيع عقوبات عليه من قِبل الاتحاد الأوروبي بسبب ذلك. يدعم الائتلاف كذلك أوكرانيا، مبدياً سعيه لمساعدتها في استعادة سلامتها الإقليمية، مطالباً بوقف زعزعة استقرار أوكرانيا، والعنف في شرق البلاد، والضم غير القانوني للقرم. لم توضح الوثيقة بشكل جذري كيف يتم ذلك وما سبل مواجهة روسيا؟ لكنها في المقابل أكدت عمق العلاقات الألمانية – الروسية، وضرورة العمل معها بشكل موسع في القضايا المستقبلية والتحديات العالمية لاسيما قضايا تغير المناخ، والطاقة، والصحة وغيرها من مجالات التعاون، مع تقديم عروض تحفيزية من ألمانيا لروسيا، حيث تقوم الأخيرة بتحسين أوضاع المجتمع المدني الروسي، والحريات المدنية، مقابل منح بعض الشخصيات ميزة السفر لألمانيا من دون تأشيرة. ووضعت الوثيقة نقاطاً رئيسية أيضاً في التعامل مع الصين ومنطقة نفوذها في الإندوباسفيك وهي:
ا. إن الصين شريك ومنافس استراتيجي، ويلزم وجود قواعد عادلة للمنافسة.
ب. التعامل مع الصين مرتبط بثنائية حقوق الإنسان والقانون الدولي.
ج. تحتاج ألمانيا لاستراتيجية شاملة للصين في إطار السياسات المشتركة مع الاتحاد الأوروبي.
د. تلتزم ألمانيا بناء على استراتيجيتها تجاه منطقة الإندوباسفيك بتعزيز التعاون، وسيادة القانون، والحوار المكثف حول السلام والأمن، وتوسيع الشراكات مع دول (أستراليا، واليابان، ونيوزيلندا، والهند، وكوريا الجنوبية) لاسيما أن هذه الدول لها مصالح ووجود في الإندوباسفيك. الملاحظ في الفقرات التي ذكرت فيها الوثيقة المنطقة تحدثت عن الاتحاد الأوروبي الذي له استراتيجية مستقلة، وكذلك عن الشراكات مع الدول ذات الأهمية ومنها الهند التي ركزت الوثيقة على سرد العلاقات معها ومع الاتحاد الأوروبي كله، مع العلم أن هذه المنطقة ليس فيها وجود فعلي أوروبي إلا لفرنسا التي توترت العلاقات بينها وبين أستراليا، مؤخراً، على خلفية اتفاق أوكوس. ويمكن تفسير ذلك بأن ألمانيا سوف يكون لها نهج منافس ومخالف لفرنسا في المنطقة بدأت ملامحه أولاً من تأخير التضامن مع فرنسا بعد اتفاق أوكوس، وثانياً سرعة ألمانيا في التواصل مع أستراليا، آنذاك، لعقد اتفاق تحالف عسكري فضائي جديد، ترجح اختلاف توجه ألمانيا عن فرنسا في منطقة الإندوباسفيك ويجعلها أقرب لتحالف أوكوس عن التضامن مع فرنسا.
5. الشرق الأوسط وأفريقيا: لم تفرد الوثيقة مساحات كبيرة لمنطقتي الشرق الأوسط وأفريقيا، لكنها وضحت ما الملفات والدول الأهم للائتلاف وهي كما يلي:
• أهمية تركيا كجارة للاتحاد الأوروبي وشريك في الناتو، خاصة في وجود مواطنين من أصول تركية في ألمانيا. حيث تم التأكيد على سوء حالة الديمقراطية في تركيا، وحقوق الإنسان، والمرأة، والأقليات. لذا لن تفتح ألمانيا فصولاً جديدة من مفاوضات انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي.
• التأكيد على أهمية أمن إسرائيل، والسعي نحو حل الدولتين على أساس حل حدود عام 1967، وتقديم الدعم المالي لمنظمة الأونروا.
• يتوقع الائتلاف اختتام المفاوضات النووية سريعاً مع إيران، ويبدأ العمل بالاتفاقية قريباً من قبل الدول (5+1). في ضوء دعوة إيران إلى الامتثال بالتزاماتها تجاه الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وتحسين أوضاع حقوق الإنسان، والإفراج عن السجناء السياسيين، مع التنويه عن مخاطر تهديد أمن اسرائيل، وبرنامج الصواريخ الباليستية، والسياسات الإقليمية العدوانية في المنطقة.
• تعزيز بناء الثقة مع شركاء الخليج، والعمل على احتواء الكوارث الإنسانية في سوريا واليمن.
• العمل على تحقيق استقرار ليبيا ضمن جهود الأمم المتحدة، والقيام بدور في استقرار العراق، ومواصلة دعم الشعب الأفغاني.
ثانياً- التحديات والخيارات
اتسمت فترة المستشارة ميركل بكونها إدارة العلاقات والأزمات الصعبة، تلك المرحلة التي استطاعت فيها ألمانيا توفيق أوضاعها ومصالحها مع قوى متنافسة ومتصارعة، فهي حليف للولايات المتحدة الأمريكية، وشريك تجاري كبير للصين، وتحافظ على علاقات قوية مع روسيا التي تمتلك ورقة ضغط إمدادات الغاز، بالإضافة إلى أزمة الهجرة وإدارة القضية من سياق إنساني وبراغماتي، فهي الدولة الأكثر ترحيباً باللاجئين وهي أكثر الدول احتياجاً لعمالة ماهرة سنوياً أيضاً، كل ماسبق وغيره من مستجدات على الساحات الدولية والإقليمية، تمثل تحديات خارجية تواجه حكومة شولتز الجديدة، ويمكن بيانها كما يلي:
1. إدارة التناقضات مع الولايات المتحدة: شهد عام 2021 محطات جديدة في العلاقات الألمانية – الأمريكية، بدأت برحيل ترامب الذي كان سبباً في توتر العلاقات بين الطرفين، ثم جاء الرئيس بايدن الذي أحدث قدومه توقعات بعودة العلاقات كما كانت بين المستشارة ميركل والرئيس أوباما، وفي نهاية عام 2021 رحلت ميركل وجاءت حكومة ائتلافية (الاشتراكيون- الخضر- الليبراليون) لتبدأ الفصول الجديدة في مسارات العلاقات الألمانية – الأمريكية. تمتلك إدارة بايدن نظرة إيجابية تجاه الحكومة الألمانية الجديدة، مفادها أن سياسات إدارة بايدن والحكومة الألمانية الجديدة ستكون أكثر اتساقاً، على الرغم من وجود انتقادات وتخوفات من السياسات الألمانية المتوقعة تجاه الصين وروسيا. في المقابل أشارت اتفاقية الائتلاف إلى أهمية الشراكة الأطلسية كركيزة أساسية تستند إليها السياسة الخارجية الألمانية، وعلى الرغم من وجود رسائل إيجابية بين الطرفين، فإنه ثمة معضلات تواجه العلاقات الألمانية – الأمريكية في الفترة المقبلة من بينها:
• أزمة الثقة: بدأت الحكومة الألمانية عملها في عام 2022، ولديها مآخذ تثير عدم اليقين في الحليف الأمريكي: أولها طريقة انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان في أغسطس 2021 دون التنسيق مع حلفائها وشركائها الأوروبيين. ثانيها إعلان اتفاق أوكوس في 15سبتمبر2021 وهو الاتفاق الذي بموجبه ألغيت صفقة الغواصات الفرنسية، مع العلم أن اتفاق أوكوس جاء في اليوم الذي أعلن الاتحاد الأوروبي استراتيجيته تجاه منطقة الإندوباسفيك أيضاً. بالتالي ثمة مؤشرات تعزز عدم الثقة بالولايات المتحدة وتجعل الحكومة الألمانية الجديدة حذرة أمام وعود بايدن وإدارته.
• التعامل مع الصين: من بين انتقادات الإدارة الأمريكية لألمانيا سواء في حقبة ميركل أو حتى المتوقع من الائتلاف الجديد، هو آلية التعامل مع الصين. ويكمن الاختلاف بين ألمانيا والولايات المتحدة، في أن الأولى ليس بينها وبين الصين سوى أزمات تتعلق بقيود المنافسة التجارية والخشية من احتكار التكنولوجيا أو محاولات الصين امتلاك العقول أو المشروعات التكنولوجية وهو ما جعل ألمانيا تسن قانوناً يمنع استحواذ أي جهة أو شركة أجنبية لشركة ألمانية دون المرور على وزارة التجارة الخارجية التي بدورها تراجع الصفقة وتحدد إذا ما كان استحواذ المستثمر الأجنبي يمثل خطراً على النظام العام أم لا. في المقابل ما بين الصين والولايات المتحدة صراع وتنافس على النفوذ في منطقة الإندوباسفيك، وبحر الصين الجنوبي، وأفريقيا، وكذلك أوروبا ومناطق أخرى، ما جعل ألمانيا ترفض في عهد ميركل أو – شولتز – تبعية الولايات المتحدة في سياستها تجاه الصين، خاصة والأخيرة هددت ألمانيا بعواقب اقتصادية حال فعلت ذلك، لاسيما وهي الشريك التجاري الأول لألمانيا.
2. روسيا وأوكرانيا وورقة الغاز: تعتبر روسيا إحدى أهم تحديات السياسة الخارجية الألمانية، وهي تهديد أمني في الجوار الشرقي لأوروبا أيضاً، كما أن مشاركتها العسكرية في الشرق الأوسط (ليبيا- سوريا) تؤثر في مسار موجات الهجرة واللجوء القادمة إلى ألمانيا والاتحاد الأوروبي. حرصت ميركل منذ عام 2014 على دعم استمرار العقوبات الأوروبية على روسيا عقب ضم القرم، ودعم رموز المعارضة الروسية وفي مقدمتهم “أليكس نافلني” الذي تعرض لحادثة تسمم وانتقل للعلاج إلى ألمانيا في أغسطس 2020. ورغم استمرار التوتر الأوروبي – الروسي طوال سبع سنوات، فإن روسيا أهم مورد للغاز في الاتحاد الأوروبي، بل ومن أهم شركاء الاتحاد الأوروبي التجاريين. فبحسب بيانات موقع الإحصاء الأوروبي “يوروستات” ترواحت نسبة مساهمة روسيا في واردات الاتحاد الأوروبي من الغاز ما بين 37في المئة عام 2014، و43.9في المئة عام 2020.
تولت حكومة شولتز رسمياً في 8 ديسمبر الماضي 2021، وكانت روسيا تحشد قواتها على الحدود الأوكرانية وظلت كذلك حتى 22 فبراير 2022، وخلال تلك الفترة القصيرة واجهت ألمانيا ضغوطاً عدة من حلفائها في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، وذلك بخلاف انقسام الائتلاف، آنذاك، حول طبيعة التعامل مع الأوضاع على الحدود الأوكرانية أيضاً، وجاءت أبرز المطالب الداخلية والخارجية منحسرة بصورة رئيسية في النقاط التالية:
أ. وقف العمل بمشروع “نورد ستريم – 2″، وهو خط الأنابيب الذي كان من المفترض أن ينقل الغاز من روسيا إلى ألمانيا عبر بحر البلطيق دون المرور بدول أوكرانيا – محور الأزمة – وبولندا ما يمنعهما من الاستفادة من رسوم العبور التي تحصل عليها تلك الدول من خطوط الغاز الروسي السابقة. الخلاف على “نورد ستريم – 2” انتهى عبر تأجيل البت فيه لنهاية يونيو المقبل 2022، مع وجود دعم من الديمقراطيين في الكونغرس الذين استطاعوا وقف مشروع عقوبات تبنّاه السيناتور الجمهوري، تيد كروز، حيث كان الأخير يرغب في فرض عقوبات على روسيا وخط الأنابيب آنذاك، دون الانتظار لما سوف تسفر عنه بعد ذلك الحشود الروسية على الحدود الأوكرانية، ولعل دعم إدارة بايدن أسهم في تهدئة الخلاف بين الاشتراكيين والخضر، خاصة أن المستشار الأسبق لألمانيا شرودر يعمل في شركة غاز بروم الروسية التي تعتبر الشركة الأكبر في روسيا في مجال الغاز.
ب. تصدير الأسلحة إلى أوكرانيا: مثل الانقسام حول مشروع “نورد ستريم – 2″، كان هناك الخلاف حول تصدير الأسلحة إلى أوكرانيا أيضاً، لم ترغب ألمانيا في إرسال أسلحتها – الموجودة بالفعل في إستونيا- إلى أوكرانيا، لأسباب عدة أولها عقدة الذنب التي يحتفظ بها الألمان منذ الحرب العالمية الثانية خاصة تجاه روسيا وضحايا الحرب، ثانيها، القانون الذي يمنع ألمانيا من إرسال أسلحتها إلى مناطق الصراع، مع العلم أن حكومات عديدة سابقة تحايلت على هذا القانون وتم إرسال شحنات أسلحة إلى اليمن، وليبيا، والعراق عند تسليح مقاتلي البيشمركة في مواجهة داعش. ثالث الأسباب هو تعلل إدارة شولتز بأن الأسلحة الألمانية لن تغير من معادلة موازيين القوى عند الحدود الأوكرانية، وبالتالي لا حاجة إلى توتر العلاقات مع الشريك الروسي.
ج. عزل روسيا عن نظام سويفت: توقع الدول الغربية على روسيا عقوبات مالية وفردية منذ عام 2014 عقب ضم القرم ومع ذلك لم يتغير سلوك روسيا، لذا مع تصاعد وتيرة الأزمة الأوكرانية، رأت الولايات المتحدة وحلفاؤها اللجوء إلى عزل روسيا عن نظام “سويفت” للتحويلات المالية الذي يربط نحو 11000 بنك على مستوى العالم، ويشترك 300 بنك روسي في نظام “سويفت”، وذلك حتى لا تستطيع البنوك الروسية تنفيذ معاملاتها المالية لاسيما البنوك التي تمول العمليات العسكرية في أوكرانيا، ويصبح أمام البنوك الروسية اللجوء إلى النظام القديم عبر الفاكس ما يعرض روسيا لخسائر اقتصادية كبيرة على غرار تجربة عزل إيران عام 2012، حيث فقدت نحو 50في المئة من عائدات النفط و30في المئة من حركة تجارتها الخارجية. وتكمن الأزمة بالنسبة إلى ألمانيا من هذه الخطوة أنها أكبر شريك تجاري لروسيا وتعتمد على الغاز الروسي لتغطية نصف احتياجاتها، كما أن عزل البنوك الروسية يمهد لخسارة بنوك ألمانية تتعامل في سندات الدين الروسية، فضلاً عن صعوبة دفع ألمانيا أثمان توريد الغاز الروسي، من هنا كانت ترفض ألمانيا في البداية عزل روسيا عن نظام “سويفت”.
ظل الموقف الألماني جامداً حتى أعلن الرئيس الروسي بوتين في 21 فبراير 2022 الاعتراف باستقلال جمهوريتي دونيتسك ولوهانسك الانفصاليتين عن أوكرانيا، تلاها بعد يومين فقط بدء العمليات العسكرية الروسية داخل أوكرانيا في دونباس شرقاً، ثم تمددت حتى بلغت العاصمة كييف. هنا تحول الموقف الألماني تماماً وبدأ هناك توحد في المواقف الغربية بصفة عامة، بالإضافة إلى الموقف الداخلي المشترك للأحزاب المكونة للائتلاف الحاكم (الاشتراكيين، الخضر، الليبراليين)، حيث يبدو أن ثمة تراجعاً في المواقف السابقة أو أنه جرى التوافق بينهم على التنازل عن مواقفهم السابقة كما يلي:
أ. 22 فبراير أعلن المستشار الألماني شولتز تعليق المصادقة على مشروع نورد ستريم – 2.
ب. 26 فبراير الموافقة على عزل بعض البنوك الروسية عن نظام سويفت المالي.
ج. 27 فبراير الموافقة على تصدير الأسلحة إلى أوكرانيا بقدر 1000 صاروخ مضاد للدبابات، و500 صاروخ أرض – جو فئة ستينجر.
د. إنشاء صندوق استثمار دفاعي بقيمة 100 مليار يورو لتحديث الجيش الألماني.
ه. التزام ألمانيا بإنفاق ما لا يقل عن 2في المئة من الناتج القومي الإجمالي على الدفاع اعتباراً من العام الجاري 2022، علماً بأن النسبة الحالية فقط 1.4في المئة، ما يجعل ألمانيا تقريباً ثالث أكبر دولة في العالم تنفق على الدفاع بعد الولايات المتحدة والصين.
و. السعي نحو تقليل الاعتماد على الغاز الروسي، وذلك عبر إنشاء محطتين للغاز المسال.
القرارات السابقة للحكومة الألمانية لها دلالات عدة أولها تغير موقف حزب الخضر الذي رفض قبل تصاعد الأزمة الأوكرانية تصدير الأسلحة. ثانيها توافق الليبراليين على حزمة الأعباء المالية التي سوف تؤثر بالطبع في الدين الحكومي وهو توجه يخالف برنامج الحزب الليبرالي. ثالث الدلالات مرونة المستشار الألماني الاشتراكي شولتز وتحوله المفاجئ عبر تلك القرارات السابقة التي أعلنها بعد 3 أيام فقط من بداية العمليات العسكرية الروسية يوم 24 فبراير، رغم أن شولتز يُعَدُّ ومعظم قيادات حزبه الحاليين والقدامى وعلى رأسهم المستشار الأسبق شرودر، من أهم حلفاء بوتين وروسيا، ما يشير إلى أن ثمة تحولاً تدريجياً في خريطة العلاقات الدولية لألمانيا.
3. مواجهة التمدد الصيني: تتعدد التحديات التي تأتي من وراء الصين، فهي الشريك التجاري الأول لألمانيا، وهي المنافس الاقتصادي الأول للولايات المتحدة الأمريكية، التي تضغط بدورها على الحكومة الألمانية والاتحاد الأوروبي حتى يسيروا على نهجها ضد الصين. بخلاف ما سبق فإن الصين سوق كبيرة تتخطى المليار نسمة، وتحتاجها ألمانيا لتصدير إنتاجها الصناعي. بدأ الخلاف في الحكومة الألمانية حول الصين مبكراً، فوزيرة الخارجية “آنالينا بيربوك” صرحت في مناسبات عدة بأنها لن تواصل سياسة ميركل تجاه الصين، وتعهدت بوضع حقوق الإنسان في صميم الدبلوماسية الألمانية، منتقدة معاملة الصين للإيغور. وعلى النقيض من موقف بيربوك يأتي موقف المستشار الألماني الجديد أولف شولتز الذي أرسل رسائل للصين مفادها أنه يسير على خُطا ميركل، ما يشير إلى صدام قادم في الحكومة الألمانية. وما يعمق الخلاف – والاختلاف – أن بين الاتحاد الأوروبي – وألمانيا معه – والصين اتفاقية استثمار شاملة (CAI) انتهت المفاوضات حولها في 30 ديسمبر 2020، لكن البرلمان الأوروبي لم يصادق عليها لسببين: الأول معاناة الشركات الأوروبية من القيود التي تفرضها الصين على سوقها الداخلية، بينما تتمتع الشركات الصينية بالدخول غير المقيد للأسواق الأوروبية. ومن جهة ثانية فرضت الصين عقوبات على مسؤولين أوروبيين ومراكز فكر وباحثين انتقدوا أوضاع حقوق الإنسان لديها. من هنا يواجه شولتز معضلة التوازن بين أهمية اتفاقية الاستثمار – والتجارة عامة – مع الصين، ومطالب الاتحاد الأوروبي – المنقسم – ومعارضة بيربوك للاتفاقية أيضاً، علماً بأن وثيقة الائتلاف أقرت بضرورة وضع استراتيجية ألمانية شاملة تجاه الصين في ضوء سياسة مشتركة مع الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن وجود رأي يدعم اشتراك الولايات المتحدة في هذه الاستراتيجية.
4. أزمة القيادة الأوروبية: طرح خروج ميركل من الاستشارية أزمة سوف تواجه ألمانيا والاتحاد الأوروبي معاً، وهي من يقود الاتحاد. خلال وجود ميركل على سدة الحكم 16 عاماً متتالياً، عاصرت زعماء مختلفين من اليمين إلى الوسط لليسار نهاية بالشعبوية، سواء في فرنسا أو بريطانيا أو إيطاليا. وانقسم الاتحاد طوال تلك السنوات إلى كتلتين الأولى تسمى الكتلة الحمائية أو الجنوبية وكان من أبرز دولها (فرنسا – إيطاليا – إسبانيا)، والكتلة الثانية تسمى الليبرالية أو معسكر الشمال تلك الدول الأكثر ثراء في الاتحاد، ومنهم (ألمانيا – بريطانيا – هولندا). بداية من استفتاء بريكست في 23 يونيو 2016، الذي يعد بداية طريق خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي – حتى المفاوضات التي انتهت في ديسمبر 2020 – عانت ألمانيا من خسارة الحليف الاقتصادي الأهم في الكتلة والذي كان داعماً لها عند الدول الإسكندنافية. وقد طرح ماكرون عند قدومه في عام 2017 مجموعة من الإجراءات المالية والسياسية لإصلاح الاتحاد الأوروبي، لكن ميركل لم تتوافق مع الطرح الفرنسي. الآن رحلت ميركل، وماكرون لديه انتخابات رئاسية في إبريل المقبل 2022، ولا يضمن فترة رئاسية أخرى، وإيطاليا يحكمها تحالف من مجموعة أحزاب متنافرة بقيادة الاقتصادي ماريو دراجي وهو رئيس وزراء توافقي لم يأت من حزب أغلبية أو أي من أحزاب الائتلاف الحاكم، ما يعني أنه معرض للرحيل في أي وقت. هنا الزعيم الوحيد الذي يضمن بقاءه حتى الآن هو أولف شولتز الذي تطرح التحديات السابقة الخاصة بسياسة حكومته الخارجية، تساؤلات حول قدرته على قيادة أوروبا. وطرحت بعض الكتابات الغربية تنافساً بين الثلاثي ماريو دراجي وماكرون، وأولف شولتز. يمتلك كل مرشح من الأزمات ما تصعب من مهمته، بداية من ماكرون الذي تنتهي فترته الرئاسية بالعديد من الأزمات الخارجية من توتر علاقاته مع المحور الإنجلو ساكسوني (الولايات المتحدة – بريطانيا – أستراليا)، وهزائم في منطقة الساحل والصحراء، واستمرار معضلة الملف الليبي وغيرها من الملفات الخارجية، بخلاف تراجع شعبيته داخلياً وعدم قدرته على تنفيذ أجندته الداخلية، ما يعني أنه حتى لو استطاع الفوز بفترة رئاسية جديدة فلا يعني ذلك حتماً قدرته على إدارة الدفة الأوروبية. بالنسبة إلى ماريو دراجي فالحديث عن دوره في البنك المركزي الأوروبي والإصلاح الاقتصادي وانعكاس ذلك على فرصه في القيادة الأوروبية بعد ميركل، يعتبر بمنزلة قراءة المشهد من زواية واحدة، فرئيس البنك المركزي الأوروبي سابقاً، لم يكن بمفرده يدير مالية الاتحاد بل كانت ميركل وآخرون معها يشاركونها في القرارات المالية المصيرية، بل وينسب الفضل أحياناً إلى ميركل خاصة في قضية أزمة ديون اليونان، فضلاً عن أن بقاء دراجي على رئاسة الحكومة الإيطالية مرهون باستمرار التوافق السياسي للائتلاف الحاكم. يتبقى لأوروبا حتى الآن شولتز الذي عليه أولاً الموازنة بين مصالح ألمانيا والتحالفات الجديدة في أوروبا ومنها التحالف الإيطالي – الفرنسي بعد معاهدة كويرينالي، التي تمتلك أجندة إصلاحية تختلف تماماً عن تلك التي طرحتها وثيقة التحالف الألماني. ثانياً على شولتز موازنة العلاقات الصعبة وإدارتها بين الصين والولايات المتحدة أيضاً، والدول الأوروبية التي لا تمتلك مقاربات أو مصالح ألمانيا نفسها، وعلى رأسها فرنسا التي تشتبك مع الصين والولايات المتحدة، فمن جهة الصين تمتلك نفوذاً قوياً في دول الجوار القريبة من أقاليم ما وراء البحار الفرنسية في منطقة الإندوباسفيك مثل جزر سليمان، ومن ناحية أخرى تزايد اهتمام الولايات المتحدة بمنافسة الصين ومواجهتها في المنطقة نفسها، وبدأت خطواتها الأولى باتفاق أوكوس الذي تضررت منه فرنسا. هذه المشاهد والعلاقات والمصالح المتداخلة إذا استطاع شولتز التوفيق بينها ربما يكون هو قائد أوروبا القادم.
خاتمة
يعد تشكيل الائتلاف الحاكم الجديد في ألمانيا عبر ثلاثة أحزاب مختلفة في البرامج الانتخابية تجربة هي الأولى من نوعها منذ الحرب العالمية الثانية ما يطرح تحدياً على استقرار الحكومة وتماسكها، لاسيما أن العادة جرت أن تشكل الحكومة الألمانية من حزبين فقط، فهي إما من ائتلاف متقارب أيديولوجياً مثل تحالف الاشتراكيين مع الخضر أو تحالف الاتحاد المسيحي مع الليبراليين، وإما من ائتلاف كبير كالذي قادته ميركل منذ عام 2005 الذي بدا فيه التفاهم إلى حد كبير على حساب الأيديولوجيات السياسية. لذلك فالسياسة الخارجية ورغم اقتران توجهها بالمستشار الاتحادي طبقاً للدستور الألماني، فإن توجهاتها ترتبط بمواقف الأحزاب المشاركة في الحكم. معلوم أنه قبل تفاقم الأزمة الأوكرانية، ظهرت انقسامات داخلية بين أعضاء الحزب الواحد وهو ما اتضح في انقسام الاشتراكيين على نورد ستريم – 2، والخضر على تسليح أوكرانيا، ثم تبدلت الأوضاع وتم التوافق على تعليق الموافقة على خط الغاز الروسي، وتسليم أسلحة لأوكرانيا، وهي الملفات التي ظلت خلافية بين الغرب عامة والائتلاف الألماني. أما عن الملف الصيني فلم يكن هناك جديد يذكر بحكم سيطرة الحرب الأوكرانية على المشهد السياسي، لذا ظلت الخلافات الانتخابية بين أحزاب الائتلاف مؤجلة قليلاً. وفي ضوء القرارات التي اتخذها المستشار الألماني في 27 فبراير، والتي يعتبر بعضها خارج سياق وثيقة الائتلاف، وخارج حدود السياسة الخارجية الألمانية منذ الحرب العالمية الثانية، يمكن عرض أهم السيناريوهات المحتملة للسياسة الخارجية الألمانية كما يلي:
السيناريو الأول: ينصب على اتباع شولتز سياسة ميركل نفسها تجاه كلٍّ من (الولايات المتحدة، والصين) مع فرضية عدم تغيير كبير في سياسات تلك الدول تجاه ألمانيا في ضوء شبكة المصالح التي تربطهم بها، واعتبار روسيا مُهدِّدة لأمن أوروبا ومن ثم لأمن ألمانيا.
السيناريو الثاني: يميل ناحية التوجه إلى الصين أكثر، حال تعرضت المصالح الألمانية للخطر واعتماداً على عدم الوثوق بالولايات المتحدة على غرار مواقفها السابقة وخوفاً من عودة تيار ترامب وبعض الجمهوريين من أنصاره في انتخابات التجديد النصفي للكونغرس نوفمبر 2022.
السيناريو الثالث: التقرب من الولايات المتحدة بصورة تشبه موقف بريطانيا قبل بريكست، حيث كانت بمنزلة عين أمريكا في الاتحاد الأوروبي، خاصة مع وجود مقاربات قارنت بين فرنسا وألمانيا وأيهما أقرب أن يكون حليف أمريكا الرئيسي الذي يعوض غياب بريطانيا، والتي سوف تحتفظ بمساحات أخرى خارج الاتحاد، على أن يكون هناك شراكة غربية لمواجهة الصين ونفوذها التوسعي، ويرتبط هذا السيناريو بحدود استمرار التوجه الذي بدا على الحكومة الألمانية بداية من الغزو الروسي لأوكرانيا، ثم التوافق مع الولايات المتحدة على شكل العقوبات الغربية ضد روسيا التي من بينها تعليق نورد ستريم – 2.
السيناريو الرابع: بناء تحالف مع فرنسا يتأسس على توجه عسكري جديد لألمانيا يفترض فيه إقامة نظام أمني مستقل للاتحاد الأوروبي، ويقلل تدريجياً من الاعتماد على الولايات المتحدة، وهو سيناريو يحكمه فقط التفكير في إصلاح الاتحاد الأوروبي كقوة عالمية لها مكانتها في معادلة توازن القوى الدولية.
السيناريو الخامس: أن تنتهي الأزمة الأوكرانية بصيغ ترضي الأطراف كلها، بما يجعل السياسات الألمانية تجاه روسيا تعود كما كانت تدريجياً، خاصة أن قرار شولتز فيما يخص مشروع نورد ستريم – 2، يفتح الباب لذلك، حيث إنه كان من المفترض قبل الأزمة أن يتم البت في المشروع بنهاية يونيو الماضي، ما يعني أن قرار التعليق على الأقل حتى الآن حبراً على ورق، حال انتهاء الحرب قبل المدة المفترضة للموافقة على المشروع.
من سياق الأحداث الماضية خلال الأشهر الثلاثة التي تولت فيها الحكومة الألمانية، والتي يتضح منها أن هناك تحولاً بقدر ما عن السياسات الخارجية في عهد ميركل، يلزم أولاً معرفة ما سوف تؤول إليه الأزمة الأوكرانية من نتائج لها تداعيات مباشرة على ألمانيا، وعلى سياستها الدفاعية من جانب، كما لها من المؤشرات الحاكمة على مستقبل العلاقات الألمانية – الروسية من جانب آخر. مع الأخذ في الحسبان أن قرار تحديث الجيش الألماني وزيادة الإنفاق العسكري لا يعني أن ألمانيا سوف تصبح قوة عسكرية عظمى قريباً، فبناء الجيوش وتسليحها وتدريبها أمر يحتاج إلى وقت، فالجيش الذي انخفض قوامه من 500 ألف جندي ليصبح 200 ألف جندي فقط يحتاج إلى جهود كثيرة أولها زيادة الإنفاق العسكري وليس آخرها. كذلك لا يعني زيادة الإنفاق العسكري لنسبة الـ 2في المئة من الناتج القومي الإجمالي أنه بمنزلة تبعية للولايات المتحدة، لكن الأقرب هو رغبة ألمانيا ذاتها في الاستقلال الاستراتيجي، ودمج القوتين الصلبة والناعمة مع براغماتيتها الاقتصادية، لذا فمن المرجح حال انتهت الحرب الأوكرانية قريباً دون الحاجة لقطع أو توتر العلاقات الروسية – الألمانية بما يعرض أمن الطاقة الألماني للخطر أن تتشكل سياسة خارجية جديدة تنهل بعضها من عصر ميركل، وبعضها يتجه نحو استقلال دفاعي لألمانيا.