بعد شهور من الحرب ووسط أزمة إنسانية متصاعدة في إقليم تيغراي شمال إثيوبيا، أعلنت الحكومة الإثيوبية فى 24 مارس 2022، الهدنة من جانبها كمقدمة لإجراء مفاوضات أوسع، وكخطوة لاتخاذ مزيد من التدابير لبناء الثقة، الذي يمكن أن يساعد في إنهاء الصراع الذي استمر أكثر من 17 شهراً. هذه الخطوة أيضاً تعزز الاعتراف من الحكومة الإثيوبية بأن لا سبيل للخروج من الأزمة إلا عبر الحوار والمفاوضات بين طرفي النزاع في شمال البلاد، بعد أن ثبت أن التعويل على الخيار العسكري فحسب لم يحقق نتائج بارزة.
وكان الصراع الذي اندلع في شمال إثيوبيا بداية من نوفمبر 2020، ولا زال مستمراً لقرابة العامين قد تسبب في أسوء أزمة إنسانية، حيث يحتاج أكثر من تسعة ملايين شخص إلى مساعدات إنسانية عاجلة وفقاً لبرنامج الأغذية العالمي. ومن جانبها، أبدت قوات جبهة تحرير تيغراى تجاوباً مع إعلان الحكومة الإثيوبية، وأكدت أنها سوف تلتزم بوقف أنشطتها العسكرية بشكل فوري، وستبذل قصارى جهدها لمنح السلام فرصة، تنفيذاً لتلك الخطوة التي اتخذتها الحكومة المركزية. ومع ذلك لم يتضح بعد كيف ستطبق الحكومة وقوات تيغراى الهدنة، لتسهيل وصول قوافل المساعدات الغذائية إلى عاصمة الإقليم "ميكيلى"، وكيف يمكن تجاوز التحديات التي يمكن أن تحول دون ذلك.
حسابات طرفي الصراع
يمكن تفسير إقدام الحكومة على إعلان الهدنة في ضوء دوافع عديدة يتمثل أبرزها في:
1- تصاعد حدة الأزمة الاقتصادية: تعاني الحكومة الإثيوبية من العقوبات الاقتصادية التى فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية خاصة المساعدات التى تقدمها مؤسسات مالية ودولية وهيئات إنمائية أمريكية لإثيوبيا، خاصة أن ذلك توازى مع اندلاع الأزمة الروسية-الأوكرانية بداية من 24 فبراير الماضي، والتي كان لها دور في تفاقم الأزمة الداخلية.
2- تردي الأوضاع الإنسانية: تواجه الدولة الإثيوبية واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية والغذائية، حيث أن 30% من السكان فى حاجة إلى مساعدات غذائية، ولا يمكن لإثيوبيا أن تواجه تلك الأزمة بدون مساعدات خارجية من المنظمات الدولية.
3- اتساع نطاق الضغوط الغربية: سعت الحكومة عبر تلك الخطوة إلى التماهي مع الاهتمام الدولي بالأزمة الداخلية، حيث كان لافتاً أن إعلان الهدنة جاء بعد وقت قصير من زيارة المبعوث الأمريكي الخاص للقرن الأفريقي ديفيد ساترفيلد للعاصمة أديس أبابا. وقد واجهت الحكومة ضغوطاً متزايدة لضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى المنطقة، خاصة في ظل الاتهامات التي توجه لها بالعمل على عرقلتها.
ومن جانبها وافقت قيادات قومية تيغراى على الهدنة، في ضوء الدوافع التالية:
1- الخوف من الهزيمة العسكرية: سعت قوات دفاع تيغراي إلى عدم تكرار الحملة التي شنتها الحكومة على الإقليم والتي كبدتها خسائر هائلة، حيث ترى أن وقف إطلاق النار سوف يسهم في حماية الإقليم الذي مزقته الحرب. وقد أعاقت المعارك الدائرة حالياً فى إقليم العفر عبور القوافل والمساعدات الغذائية، بعد قطع الطريق الوحيد الرابط بين سمرا عاصمة الإقليم العفرى، وميكيلى عاصمة إقليم تيغراى.
2- تفاقم الأزمة الإنسانية في الإقليم: يشهد الإقليم أسوأ كارثة إنسانية بسبب نقص الغذاء والمواد الأساسية، حيث لا تصل المساعدات الإنسانية لقرابة 4.6 ملايين شخص. وقد تسبب الحصار المفروض على الإقليم من قبل القوات الحكومية فى انعدام الأمن الغذائي، وأصبحت أغلب مناطق الإقليم متأثرة وعرضة للجفاف، ولهذا وافقت قيادات تيغراى على الهدنة من أجل السماح بإيصال المساعدات الإنسانية إلى ملايين من الأشخاص الذين يواجهون المجاعة.
ويمكن القول إن ثمة متغيرات عديدة تسهم في تحديد المسارات المحتملة للهدنة الحالية، منها تحديد النطاق الزمني والجغرافي معاً للهدنة لأسباب إنسانية خلال الفترة الأوّلية، بحيث يجب أن تطبق على جميع مناطق تيغراى، وبعض الأجزاء من إقليمي أمهرا والعفر. فضلاً عن أنه على طرفي النزاع الالتزام بحماية المدنيين العزل والامتثال للقوانين الدولية، والإفراج عن جميع أسرى الحرب وإعادتهم إلى مناطقهم، إلى جانب وقف أي تحركات عسكرية، كبادرة حسن نية، والحصول على ضمانات ومراقبة دولية وإقليمية للهدنة، كتمهيد لإجراء مفاوضات مستقبلية، والالتزام بنزع سلاح بعض المناطق المعينة، مع الكشف عن حالة بعض الأصول العسكرية ومواقعها، على نحو قد يساعد في استمرار الهدنة حتى الوصول إلى تسوية شاملة للنزاع واتخاذ مزيد من التدابير فيما يتعلق بحسن النوايا.
فرص وتحديات نجاح الهدنة
يعتبر وقف إطلاق النار بين الأطراف المتحاربة- حتى لو كان لأغراض إنسانية- خطوة مهمة ربما تشكل جزءاً رئيسياً من ترتيبات أمنية ضرورية فى إثيوبيا، تفادياً لعدم انزلاق البلاد فى صراعات ذات نزاعات انفصالية، وتأجيج مشاعر العداء بين القوميات والسلطة الحاكمة، خاصة فى ظل استمرار النزاع الحالي. وقد يؤدي وقف إطلاق النار بين طرفى النزاع إلى تحسن ملحوظ فى الوضع الإنساني على الأرض، وأيضاً ربما يمهد الطريق لحل الصراع فى شمال البلاد دون مزيد من إراقة الدماء، لأسباب إنسانية، من أجل مواصلة مساعي الوساطة التي يقودها الاتحاد الإفريقي لإطلاق محادثات سلام بين الفرقاء في الدولة الإثيوبية.
وتمثل عملية إيصال المساعدات الإنسانية بدون شروط أو قيود آلية مهمة لبناء الثقة، التى بدورها تمهد الطريق أمام إجراء مفاوضات للوصول إلى تسوية نهائية للنزاع. ولكن يبقى وقف الأعمال العدائية بين طرفى النزاع فى إثيوبيا عاملاً محورياً على المدى القريب يتطلب مزيداً من الجهود لتحقيقه، بسبب تصلب وتشدد مواقف طرفي النزاع حول بعض نقاط التسوية السياسية.
وعلى الرغم من أنه لا تزال هناك حاجة إلى إجراء مفاوضات أوسع نطاقاً في مختلف أقاليم إثيوبيا لمعالجة الأسباب الأساسية للصراع القائم، إلا أن هذه الهدنة تمثل لإقليم تيغراى فرصة تساعد في ضمان انحسار العنف واحتواء تردي الوضع الإنساني. كما أن الهدنة تمثل بدورها فرصة للحكومة من أجل تقليص حدة الضغوط الدولية والإقليمية التي تتعرض لها بسبب تصاعد حدة الصراع في الإقليم.
ومع ذلك، فإن هناك مجموعة من التحديات التي يمكن أن تحول دون نجاح الهدنة، يتمثل أهمها في:
1- تزايد احتمالات تجدد الصراع: وذلك في ظل غياب الثقة بين طرفيه، إذ أن عبور القوافل الإنسانية إلى تيغراى سوف يفرض على الحكومة الفيدرالية وقف الحملة العسكرية، وهو أمر قد لا تتجاوب معه بسهولة، خاصة أنها قد ترى أن جبهة تحرير تيغراى سوف تستغل تلك الهدنة لصالح تعزيز قدرة جيش تحرير الأورومو على تنفيذ هجمات ضد الجيش الإثيوبي، مما يعنى فتح جبهات قتال أخرى تتمكن من خلالها قوات دفاع تيغراى من إعادة التموضع. كما أن الجبهة بدورها لا تستطيع التنازل عن ذلك، خاصة أنها توجه اتهامات للحكومة بالمسئولية عن عرقلة وصول المساعدات إلى المناطق المستهدفة.
2- إشكالية المناطق المتنازع عليها: تمثل المناطق المتنازع عليها بين قوميتى الأمهرا والتيغراى فى غرب إقليم تيغراى، والتي تنتشر فيها قوات أمهرا الخاصة ومليشيات فانو غير الخاضعتين مباشرة للحكومة الفدرالية، تحدياً آخر للهدنة، حيث ربما تصطدم القوميتان مرة أخرى. وعلى الرغم من بدء الهدنة لم يتضح حتى الآن كيف ستنفذ الحكومة المركزية الإجراءات الخاصة بها في المناطق المضطربة، على نحو يضع حدوداً للقدرة على تطبيق الهدنة في تلك المناطق.
خلاصة القول، إنه من غير المرجح أن تؤدي هذه الهدنة إلى سلام دائم، فعادةً ما تفشل الهدنة في ظل غياب الثقة بين طرفى الصراع. وتلك الخطوة تحديداً كانت تتطلب تهيئة الظروف المناسبة لتطبيقها، على غرار اتخاذ إجراءات متبادلة لبناء الثقة. وربما يمكن القول إن أخطر ما يمكن أن يفرضه فشل الهدنة من تداعيات يتمثل في تعزيز احتمالات تجدد الصراع من جديد بشكل أكثر ضراوة.