• اخر تحديث : 2024-05-15 19:58
news-details
أبحاث

ورقة بحثية: الحياد الأوكراني.. السياقات التاريخية والضرورات السياسية والتصورات المستقبلية


تشكل مسألة حياد أوكرانيا عنصراً ومحوراً رئيسيين في جملة التفاعلات والسياسات الروسية الغربية، منذ نهاية الحرب الباردة في نوفمبر 1989، وانهيار الاتحاد السوفييتي السابق في ديسمبر 1991، لاسيما في ظل التوسع المستمر لحلف الناتو صوب حدود روسيا وضم معظم دول أوروبا الشرقية وبعض دول الاتحاد السوفييتي السابق، فرغم أن مسألة “حياد” أوكرانيا كانت مسألة شبه محسومة من النخبة الأوكرانية نفسها، وتوافقت عليها روسيا والولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا طبقاً لمذكرة بودابست الشهيرة عام 1994، فإن هذا التوافق الداخلي والدولي حول مسألة “الحياد” الأوكراني ما لبث، كغيره من الوعود والتعهدات الغربية، أن تلاشى.

وعلى مدى ما يقرب من ثلاثين عاماً ماضية، جرت عملية “إغواء” صريحة ومضمرة لجذب أوكرانيا نحو الغرب بشقيه الأوروبي والأمريكي، سعياً لضمها إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، وهو ما مثل تخطياً لـ”الخطوط الحمراء” التي تعتبرها روسيا تحدياً وتعدياً خطيرين على أمنها القومي، وكانت مسألة “حياد” أوكرانيا السبب المحوري والحيوي الذي تدور حوله جملة الضمانات التي قدمتها روسيا للغرب، في 17 نوفمبر الماضي، وكان رفض النخبة الأوكرانية والغرب لهذه الضمانات، هو الذي فجّر الحرب الروسية الواسعة في أوكرانيا في 24 فبراير الماضي، في أول حرب شاملة وواسعة في القارة الأوروبية منذ الحرب العالمية الثانية.

وفي هذا الإطار، ترصد هذه الورقة مفهوم الحياد بأنواعه وأصوله، وسياقاته التاريخية وضروراته السياسية، وأقرب النماذج (فنلندا) التي يمكن الاحتذاء والاقتداء بها من جانب أوكرانيا، وأخيراً قيود وتصورات تطبيقه على الحالة الأوكرانية.

أولاً: مفهوم الحياد وأنواعه

الحياد في أبسط صوره هو “حالة عدم دعم أو مساعدة أي طرف في النزاع”. وقد تطور نطاق الحياد وطبيعته بمرور الوقت، إلى أنواع فرعية مختلفة: مثل التحييد، والحياد، والحياد المسلح، والحياد الإيجابي، وعدم الانحياز، وعدم الانحياز العسكري وقد تم توسيع المعنى لمواءمة مصالح الدول والتغيرات في السياسة العالمية أيضاً. و”التحييد” هو النوع الرسمي والصارم من الحياد الذي يمارس أثناء الحرب والسلام. ويشار إليه بالحياد الدائم أيضاً. وتُعرَّف الدولة المحايدة بأنها الدولة التي يضمن استقلالها السياسي وسلامة أراضيها بشكل دائم بموجب اتفاق جماعي للقوى العظمى، بشرط ألا تحمل الدولة المحايدة السلاح ضد دولة أخرى، إلا للدفاع عن نفسها، ولن تتحمل المسؤولية والالتزامات التعاهدية التي قد تضر بوضعها المحايد.

والدول الحيادية المعترف بها في الوقت الحاضر، هي: آيرلندا، وتركمانستان، والسويد، وسويسرا، وفنلندا، وكوستاريكا، والنمسا. وهناك دول تدّعي الحياد من دون اعتراف دولي، مثل كمبوديا ومولدوفا. وهناك دول أخرى رُفعت منها الصفة بسبب انضمامها إلى أحلاف عسكرية، مثل: بلجيكا، ولوكسمبورغ، ولاوس. أما هولندا فقد فرضت الحياد على نفسها فيما يختص بالنزاعات بين الدول الأوروبية. وقد حددت الأمم المتحدة يوم 12 ديسمبر يوماً دولياً للحياد.

ثانياً: في أصول الحياد

وتعود أصول نظم الحياد بأنواعها المختلفة إلى نظام توازن القوى في أوروبا في القرن التاسع عشر، إذ فُرض على الدول الأوروبية كافة العمل على تحجيم الدولة المتوسعة أو التي تحاول زعزعة هذا التوازن، عبر آلية محددة تقوم على عدد من الخطوات العملية منها: إقامة تحالف ضد الدولة المعتدية أو المتحدية، والتدخل الفعلي ضدها، سواء بالطرق الدبلوماسية أو العسكرية، وعدم القضاء التام على الدولة المعتدية. فعدو اليوم قد يكون حليف الغد. لكن أهم مبدأ جرى تطبيقه في هذه الآلية، هو مبدأ المكافأة المتبادلة. فإذا كان الهدف الأساسي من التحالف هو المحافظة على توزيعات القوة داخل النظام، فإنه لا يجوز لدولة داخل التحالف الاستئثار بمكافأة لتدخلها دون الدول الأخرى، لأن ذلك من شأنه أن يؤثر في توزيعات القوة داخل النظام. ومن ثم، فإن الشريعة الغالبة هي عدم منح أي دولة مكافأة من دون الدول الأخرى المشاركة في التحالف، فإذا ما حصلت دولة من التحالف على ميزة فلابد للدول الأخرى أن تستفيد بالقدر نفسه حفاظاً على التوازن.

ومن هذا المنطلق، وهو ما يعنينا في هذا السياق، فإن التحالف قد يلجأ إلى قلب هذه المعادلة بحيث تكون القاعدة هي الحرمان المتبادل لأي ميزة أو منفعة، أي أن يكون المكسب الوحيد لدول التحالف هو درء الخطر المشترك عنهم، من دون حصول أي من الدول المتحالفة على أي منافع. وتم تحويل هذه الآلية إلى مدونة سلوك ومرجعيةلنظام القوى الأوروبي في مؤتمر فيينا عام 1815 عقب الحروب النابوليونية، والتزمت بها الدول الأوروبية مدة قرن كامل تقريباً. وتم تطبيق مبدأ “الحرمان المتبادل” لضمان حياد كل من سويسرا وبلجيكا، حياد الأولى عقب مؤتمر فيينا مباشرة، في مواجهة أطماع فرنسا والنمسا وبروسيا، وحياد الثانية في ثلاثينيات القرن التاسع عشر في مواجهة أطماع هولندا وفرنسا وبريطانيا. وفيما لا يزال حياد سويسرا قائماً، فإن حياد بلجيكا استمر أكثر من مئة عام ولم ينته إلا عقب الحرب العالمية الثانية.

وكانت سياسة الحياد ظاهرة الحرب الباردة، التي تم التعبير عنها من خلال حركة عدم الانحياز (NAM)، وتشير إلى سياسة النأي بالنفس عن الصراع بين الشرق والغرب مع محاولة الحفاظ على نظرة مستقلة تجاه القضايا العالمية. وقبل كل شيء، محاولة إبقاء التنافس بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي تحت السيطرة ومنعه من أن يتفاقم على حساب آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. لكن حركة عدم الانحياز  تراجعت أهميتها في حقبة ما بعد الحرب الباردة بشكل كبير، كما أن أفعالها في السياسة الخارجية، لاسيما على المستوى الإقليمي، غالباً ما فقدت أي صفة من الحياد.

ثالثاً: ضرورات الحياد الأوكراني

الحياد الدائم هو حل أوروبي للغاية لمشكلة أوروبية للغاية: التهديدات الجيوسياسية المتبادلة. وقد نجح هذا الحل لأن الدول العازلة المحايدة قللت من تصعيد المعضلة الأمنية. الدول المحايدة بشكل دائم، حتى عندما يكون لديها جيوش- وهو ما تفعله جميعها تقريباً- لا تشكل تهديدات هيكلية للقوى العظمى، على التحالفات والتحالفات المضادة. لكن من أجل ظهور حل محايد حقاً، يحتاج المرء إلى ثلاثة مكونات: استعداد أحد الأطراف، واستعداد الطرف الآخر، واستعداد الدولة المعنية لبدء لعب دور محايد.

تاريخياً، كان لأوكرانيا نهج متقطع للحياد كسياسة خارجية. في عام 1990، بينما كانت لا تزال دولة سوفييتية، أقر البرلمان الأوكراني “إعلان السيادة”، الذي حدد أنه إذا أصبحت دولة مستقلة، فإن الدولة الجديدة تعتزم أن تكون دولة “محايدة” بشكل دائم. وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، تبنّت كييف حقاً ركائز السياسة الخارجية المتمثلة في “الحياد، والوضع غير النووي، وعدم التكتل”. بعد تلقي تأكيدات أمنية من بريطانيا العظمى، وروسيا، والولايات المتحدة، عززت أوكرانيا موقفها المحايد من خلال التخلص من الترسانة النووية التي ورثها الاتحاد السوفييتي بموجب مذكرة بودابست في عام 1994. لكن لم يتم دعم هذه السياسة قط بشكل منفرد في العملية السياسية المحلية. وبين الأعوام 1994 و2014، اعتمدت درجة سياسة الحياد الأوكرانية بشكل أساسي على ماهية الحكومة في السلطة. وفيما يتعلق بالوضع قبل الحرب، وجدت دراسة أجريت عام 2020 أن آراء المواطنين الأوكرانيين كانت شديدة التنوع بشكل عام، حيث فضلت الأغلبية (أكثر من 50%) “العلاقات الجيدة والإيجابية” مع الناتو  (وليس الانضمام) بينما فضل أكثر من 60% العلاقات “الجيدة والإيجابية” مع روسيا.

ومن ناحية ثانية، من الواضح أن حياد أوكرانيا يظل عنصراً أساسياً في الاستراتيجية الروسية. ويمكن القول إن السياسة الروسية بشأن أوكرانيا قد دفعت من أجل الحياد الفعلي، ووفقاً لبيان صدر عن الرئيس الروسي السابق، ديمتري ميدفيديف، خلال زيارته إلى كييف في منتصف مايو 2010، على الرغم من أنه كان يود أن يرى أوكرانيا تنضم إلى منظمة معاهدة الأمن الجماعي، فإن روسيا لا تعارض اختيار أوكرانيا مسار الحياد. وأشار كذلك إلى أنه "إذا كانت، ستكون دولة محايدة ومستقلة تماماً، سنكون راضين تماماً". وتوجد سابقة لقبول روسيا مبدأ الحياد لأوكرانيا (تعطي روسيا الاعتبار نفسه لمولدوفا وتركمانستان ومنغوليا ضمن ما تعتبره مجالها الطبيعي من النفوذ)، وكان حياد أوكرانيا هو أحد الضمانات الرئيسية التي قدمتها روسيا للغرب في نوفمبر الماضي، لإزالة “الخنجر من حلق روسيا”، تفادياً للصدام مع أوكرانيا والغرب.

ومن ناحية ثالثة، يجادل الواقعيون الأمريكيون البارزون من هنري كيسنجر وقبله جورج كينان، مهندس استراتيجية احتواء الاتحاد السوفييتي، خلال الحرب الباردة، بأن السلام والاستقرار في المنطقة يمكن ضمانه من خلال الاعتراف بمجال نفوذ روسيا. وعندما سعى الرئيس الأمريكي الأسبق، جورج دبليو بوش، رسمياً إلى جعل جورجيا وأوكرانيا عضوين في منظمة حلف شمال الأطلسي “ناتو” في قمة عُقدت في بوخارست عام 2008، جادل كيسنجر بأنه ينبغي ترك هذين البلدين على الحياد بدلاً من إضافتهما إلى الناتو. وأعرب عن قلقه من أن روسيا قد تعتبر توجه الناتو نحو الشرق إشارة إلى تغييرٍ في الوضع الراهن.

وكتب ريتشارد هاس، رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي، مقالاً في الخامس من مايو 2014 بعنوان: مصادر السلوك الروسي، قال فيه: "إن مقاومة التدخل الروسي في أوكرانيا لا تسوغ دمج أوكرانيا في حلف الناتو. فالقيام بهذا يتطلب التدخل للدفاع عن أوكرانيا عسكرياً، وهو ما ينطوي على مخاطر وصعوبات هائلة، أو عدم الوفاء بهذا الالتزام، وهو ما من شأنه أن يثير شكوكاً كبيرة في مختلف أنحاء العالم حول مصداقية الولايات المتحدة"، وخلال زيارته لكييف في 15 فبراير 2022، قال المستشار الألماني أولاف شولتز إنّ موضوع انضمام أوكرانيا إلى الناتو غير مطروح حالياً.

وفي الواقع، فإن إمكانية أن تصبح أوكرانيا دولة محايدة وفيدرالية بشكل دائم هي الطريقة الأكثر واقعية لإنهاء الحرب فيها وإعادة تأمين أوروبا لعقود مقبلة. وهنا سيكون ميسوراً على روسيا التراجع عن الاعتراف باستقلال الجمهوريتين الانفصاليتين في شرق أوكرانيا (في 22 فبراير 2022) إذا حصلت على تعهد قاطع من كييف بمنح الإقليم حكماً ذاتياً كاملاً في إطار نظام أوكراني فيدرالي غير مركزي، فكل المؤشرات تقول إن هذا الاعتراف ليس إلا ورقة ضغط تفاوضية موجعة وليس تخلياً حقيقياً عن التزام موسكو في اتفاقيتي مينسك الأولى والثانية على احترام استقلال أوكرانيا وسيادتها .

وبغض النظر عن الخسائر الإجمالية في الأرواح في أوكرانيا بسبب التدخل العسكري الروسي، كان من الممكن تجنبها بسهولة؛ ومن المحتمل أن يكون الوضع المحايد لأوكرانيا هو الخيار الأفضل ليس لأنه الأفضل لأي طرف ولكن بالضبط لأنه يترك جميع الأطراف غير راضين قليلاً ولكنهم قادرون على الادعاء بالرضا السياسي، فهذا يعني أن أوكرانيا محظورة على الجميع

رابعاً: أوكرانيا وخيار الحياد الفنلندي

تكرّرت كثيراً في الآونة الأخيرة عبارة الفَنلَنْدة Finlandization أو تطبيق أوكرانيا لـ “النموذج الفنلندي” كحلّ مقترح للأزمة مع روسيا. وتعني العبارة استنساخ أوكرانيا ما أمكن من تجربة الحياد لدى فنلندا خلال الحرب الباردة حين وقّعت الأخيرة معاهدة مع موسكو عام 1948 أبقتها خارج حلف شمال الأطلسي (ناتو) كما خارج “حلف وارسو”. في مقابل تعهد سوفييتي بعدم غزوها. وكتب هنري كيسنجر في “واشنطن بوست” في 5 مارس 2014، أي بعد نحو أسبوعين من ضم روسيا شبه جزيرة القرم الأوكرانية، مقالاً استعرض فيه طبيعة الصراع في أوكرانيا.

ولفت كيسنجر الانتباه إلى أن المسألة الأوكرانية تُصوَّر كمواجهة، فهل تنضم كييف إلى الشرق أم إلى الغرب؟ لكنه رأى أن استمرار أوكرانيا وازدهارها يعتمد على عدم تحولها إلى “قاعدة أمامية” للشرق في مواجهة الغرب أو العكس بالعكس، “فهي يجب أن تبني جسراً بين الطرفين”. ووضع كيسنجر نقاطاً عدة رأى أن تطبيقها كفيل بتوليد حل يناسب رؤى الأطراف كلها ومصالحها الأمنية، ويتضمن ألا تلتحق أوكرانيا بالناتو، وأن عليها السعي إلى موقف شبيه بموقف “فنلندا” تلك الدولة التي لا تترك شكاً في استقلالها المتين وتتعاون مع الغرب في مختلف المجالات، لكنها تتجنب بحذر العداء المؤسسي إزاء روسيا.

وتساءل زبيجينيو بريجنيسكي، مستشار الأمن القومي للرئيس الأمريكي الأسبق، جيمي كارتر، ما بين الأعوام (1976-1980): “كيف ستبدو أوكرانيا في المستقبل؟”، متوقعاً أن تصبح أوكرانيا مثل فنلندا بالنسبة إلى روسيا، وهو ما يعني أن تتمتع كلتا الدولتين بعلاقات اقتصادية مفتوحة مع توسيع أوكرانيا لعلاقاتها مع الاتحاد الأوروبي لكن من دون شراكة في أي تحالفات عسكرية. كما اقترح غراهام أليسون، من مركز “بيلفر” في جامعة هارفارد، “حلاً على الطريقة البلجيكية”، يتضمن الانفتاح على الشرق والغرب في آن واحد.

وفي أوائل ديسمبر 2021، دعا رئيس مؤتمر ميونيخ للأمن الدولي الدبلوماسي الألماني، فولفجانج إيشينجر، أوكرانيا للسير على خُطا “فنلندا” والنأي بنفسها عن حلف “الناتو”، لأن عضويتها فيه خط أحمر بالنسبة إلى روسيا. وقال لصحيفة “هاندلسبلات”: “يمكننا أن نوصي أوكرانيا على المدى البعيد بالبدء في اتباع خُطا الفنلنديين في التعامل مع حلف الناتو”، مضيفاً: “فنلندا عضو في الاتحاد الأوروبي، ولكنها ليست عضواً في الناتو”، مشيراً إلى أن “انضمام أوكرانيا للناتو خط أحمر بالنسبة إلى روسيا”.

وذكرت صحيفة “لوموند” الفرنسية في 9 فبراير الماضي عبارة لماكرون قالها أثناء ذهابه إلى موسكو (7/2/2022) عندما استشف أن الخروج من المأزق يمكن أن يكون من خلال أن تكون أوكرانيا في وضع يشبه وضع “فنلندا” حالياً التي ليست عضواً في الناتو ولكنها “شريك” له؛ الأمر الذي يمكّن أوكرانيا من الحصول على ضمانات أمنية ولكن من غير الانضمام الفعلي إلى الحلف في المديين القريب والمتوسط على الأقل.

خامساً: التفاوض حول خيار الحياد الأوكراني

بدا الرئيس الأوكراني فولاديمير زيلنيسكي مستعداً للتفاوض حول شروط التسوية الروسية النهائية للصراع في أوكرانيا، التي اعتبرها سابقاً “تعجيزية”. ففي مقابلة مع قناة “ABC” الأمريكية، في 8 مارس 2022، قال زيلنيسكي إن لدى كييف “حلاً ممكناً” لهذه المسائل، موضحاً أنه “بخصوص الانضمام إلى الناتو، فإن التحالف لا يفضل الأمور الجدلية ويتجنب المواجهة مع روسيا”. ولفت زيلنيسكي النظر إلى أن بلاده “فقدت الاهتمام بمسألة انضمام بلاده إلى حلف شمال الأطلسي، منذ فترة طويلة، بعد أن أدركنا أن الناتو غير مستعد لقبول أوكرانيا، لأن الحلف يخشى التناقضات والمواجهة مع روسيا”. وكان زيلنيسكي اعتبر، في منتصف فبراير 2015، وخلال مؤتمر صحفي مع المستشار الألماني أولاف شولتز، أنّ عضوية بلاده في الحلف الأطلسي “حلم بعيد”.

ومن الواضح أن الرئيس الأوكراني، الذي يشعر بمرارة من مواقف الدول الغربية التي خذلته و”لم تَفِ بوعودها”، لم يعد متحمساً للانضمام إلى (الناتو)، الذي يرفض الدخول في صراع مع روسيا، أو فرض حظرٍ للطيران فوق أجواء بلاده، كما أنه “على استعداد لقبول إجراء مفاوضات مع روسيا حول الوضعية المحايدة لبلاده شريطة أن تتلقى كييف ضمانات أمنية”، مشيراً إلى أن الحوار سيبدأ، عاجلاً أم آجلاً، بين روسيا وأوكرانيا، وأنه “لا يخشى مناقشة أي قضايا مع موسكو، بما في ذلك الوضع غير التحالفي”، أي البعيد عن الانضمام إلى أي أحلاف عسكرية.

وكان رؤساء دول وحكومات الاتحاد الأوروبي، خلال قمتهم في باريس في 10 مارس 2022، قد بددوا آمال أوكرانيا في انضمام سريع لعضوية التكتل، خلال اجتماع عاجل لمناقشة انعكاسات الغزو الروسي. ورغم أن التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا أسهم في تصاعد التأييد داخل الاتحاد الأوروبي للرئيس الأوكراني فولاديمير زيلنيسكي، غير أن القادة أكدوا في المحادثات أن مساراً سريعاً للعضوية في الاتحاد غير ممكن. وقال رئيس الوزراء الهولندي، مارك روته، لدى وصوله إلى المشاركة في المحادثات: “ليس هناك مسار سريع.. وانضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي مسألة للمدى البعيد، إن حدث ذلك أصلاً

سادساً: شكوك الحياد الأوكراني وهواجسه

يجب أن يكون المرء متشككاً في حل الحياد على غرار السوابق التاريخية مثل بلجيكا وفنلندا والنمسا. والمشكلة الأولى التي تواجه هذه الفكرة هي قضية الضمانات. فمن الممكن أن توافق أوكرانيا على أن تصبح دولة محايدة عسكرياً. وقد يؤدي ذلك إلى إنهاء الحرب الحالية مع روسيا أو يمنع حدوث صراعات مستقبلية بين الجانبين أيضاً. لكن أوكرانيا ستحتاج بالطبع إلى الحصول على ضمانات من روسيا والغرب بأن أمنها سيكون مضموناً. وستصر أوكرانيا على التعاونين السياسي والاقتصادي مع أوروبا، بهدف الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي يوماً ما .

ومن جهة أخرى قد تكون “الفنلندة” عاجزة عن تأمين الازدهار والاستقرار لأوكرانيا كما أمّنتهما لفنلندا. فأوكرانيا أضعف ممّا كانت عليه فنلندا في بداية الحرب الباردة واقتصادها وسياستها متعثّران إلى جانب أنّ روسيا ووكلاءها يسيطرون على القرم ودونباس، فـ”الفنلندة” قد تسمح لأوكرانيا بتفادي اجتياح – لكن الدولة ستكون بقوّة في قبضة موسكو.

وطوال الحرب الباردة، تعرضت فنلندا لضغوط للحفاظ على الاستقرار الهش في علاقاتها مع الاتحاد السوفييتي. وعلى عكس جارتها المحايدة السويد، لم يُسمح لفنلندا بالاحتفاظ بمنظمات الحماية المساعدة، وتم الضغط على سياستها الخارجية لإيلاء اهتمام إضافي لإرادة موسكو أكثر مما فعلت السويد أو دول أخرى مختلفة في أوروبا الغربية. واضطرت فنلندا إلى التخلّي عن جزء كبير من مقاطعة كاريليا لصالح الاتحاد السوفييتي. كذلك، اضطرت فنلندا إلى إجلاء الفنلنديين من الأراضي التي سلّمتها إلى موسكو فأحرقت بلدات برمتها؛ كان الأمر مؤلماً لكنه جنب الدولتين أي خلافات حدودية أو مزاعم بحماية الأقليات في الدولة الأخرى، وهو ما ليس متوافراً في الوضع الأوكراني.

ويشير إصرار بوتين الإضافي على “نزع النازية” عن أوكرانيا أيضاً إلى أنه يتصور رأياً مستقبلياً في تكوين الحكومة الأوكرانية، ومن المحتمل جداً تنصيب نظام موالٍ لموسكو نتيجة لأي مفاوضات بشأن وقف إطلاق النار. وسوف تطلب روسيا أكثر من مجرد الترسيخ القانوني والدستوري للحياد الأوكراني، على النحو المنصوص عليه في معاهدة الدولة النمساوية. ومن غير المحتمل السماح بنوع بند الخروج المضمن في المادة 8 من اتفاقية الصداقة الفنلندية – السوفييتية أيضاً، التي تسمح لأي من الجانبين بإنهاء الاتفاقية كل خمسة أعوام مع فترة إشعار مدتها عام واحد.

ومن المرجح أن تصر روسيا على الاعتراف الغربي الرسمي بالحياد الأوكراني أيضاً، فضلاً عن نوع من الآلية الدولية (بمشاركة روسية) لـ “تفسير” ما هو مسموح به لأوكرانيا بموجب شروط حيادها. كما أنه ليس من الواضح ما سيكون في مثل هذه الاتفاقية بالنسبة إلى أوكرانيا. وهناك مسألة أي نسخة من أوكرانيا ستعترف روسيا بها كدولة ذات سيادة إذا وافقت أوكرانيا على أن تصبح “محايدة” أيضاً. إن رؤية موسكو لدولة تابعة شبيهة ببيلاروسيا تتمتع بسيادة مشروطة ومحدودة للغاية هي رؤية رفضتها أوكرانيا بشكل واضح وثابت على مدار الثلاثين عاماً الماضية. ويبدو من غير المحتمل أن يكون الحياد وفقاً لهذه الشروط هو الأساس لكيفية انتهاء هذا الصراع.

 ويعد الانسحاب الروسي أمراً ضرورياً لأي حل، لكنه لن يكفي في حد ذاته ما لم تتعهد الولايات المتحدة وروسيا بضمان حياد أوكرانيا، وهذا يعني البقاء خارج الناتو. لكن لا يُتوقع من أوكرانيا قبول الحياد إلا إذا توقفت روسيا عن التشكيك في حق أوكرانيا في تقرير المصير.

ومن ناحية ثانية، يتجاهل الغرب فكرة الحياد الأوكراني في السياسات الرسمية لأن الغرب كان ببساطة غير راغب في الاعتراف بضرورة ترك أوكرانيا محايدة. بعبارة أخرى، لم يسمح الغرب لأوكرانيا بالتحول إلى موقف محايد (والذي سيكون إلى حد كبير شبه قبول للأولويات الروسية) مادام يمكنه جذبها على الأقل بشكل رمزي إلى المنظومة الغربية (التي تقدم صفعة مرضية أكثر للوجه الأمني/الدبلوماسي الروسي).

ومنذ قمة الناتو في بوخارست عام 2008 تبنّى الحلف رسمياً سياسة تكشف عن تبنّـيه سياسة “الباب المفتوح أمام جورجيا وأوكرانيا”. وهو ما تأكد عقب توقيع كييف وواشنطن “ميثاق الشراكة الاستراتيجية” في 10 نوفمبر 2021، الذي أكد دعم أمريكا حق أوكرانيا في دخول حلف الناتو، وهو ما قدم تشجيعاً لحكومة كييف على تأكيد رغبتها في سرعة الانضمام إلى الحلف العسكري الأكبر في العالم.

ومن الواضح أن المدى الذي يمكن أن تصل إليه المفاوضات بين روسيا وأوكرانيا، مرهون بمدى ما يمكن أن تجنح إليه الولايات المتحدة من تحركات وضغوط على كييف، خصوصاً أن مواقف واشنطن تتجه نحو المزيد من التصعيدين السياسي والاقتصادي مع موسكو لمنعها من تحقيق أي من أهدافها. إذ إن لدى الإدارة الأمريكية قناعة، حتى الآن، بأن الإجراءات القاسية التي تتخذ ضد روسيا سوف تضعفها، وبالتالي ستؤدي إلى إنهاكها واستنزافها، عسكرياً واقتصادياً، وغرقها في الوحول الأوكرانية.

سابعاً: الاحتمالات والتصورات

لقد كان من الممكن أن يكون الحياد الأوكراني مع الهيكل الفيدرالي حلاً كان من الممكن أن ينزع فتيل الوضع برمته منذ سنوات عديدة. حتى قبل أشهر فقط، وهذا سيكون منطقياً لجميع الأطراف المعنية. والآن، لم يعد هناك بديل آخر، وسيكون البديل إما حياداً دائماً، وإما تقسيماً دائماً، و إما في أسوأ الأحوال، احتلالاً دائماً لأوكرانيا. أوكرانيا الفيدرالية والمحايدة هي السبيل الوحيد لتحقيق الاستقرار في أوكرانيا والسلام في المنطقة.

ويمكن القول إن الخيار المثالي لأوكرانيا الجديدة، هو المفاوضات الثلاثية بين الناتو وروسيا وأوكرانيا، التي تكفل حيادها العسكري ونوعاً من الاتحاد الجمركي المشترك بين الاتحاد الأوروبي وروسيا، فليس من مصلحة أحد، وخاصة الأوكرانيين، أن يستمر الصراع بين روسيا والغرب حول مصير بلادهم وتوجهاتها الخارجية.

ولن يؤدي هذا الحل حتى إلى قطع أوكرانيا علاقاتها بأوروبا الوسطى والغربية. ولا يزال بإمكان أوكرانيا المحايدة التجارة والتعاون مع الغرب. وسيظل المزيد من التكامل التجاري مع الاتحاد الأوروبي ممكناً مادام يتماشى مع التكامل مع الاقتصاد الروسي لتحقيق التوازن بين الاثنين. والناتو وروسيا محكوم عليهما بالتعاون إذا كان لابد من إنشاء هيكل أمني فاعل. وبالنسبة إلى روسيا، فإن هذا يعني وقف الحرب دون احتلال دائم، وأن تقبل أوكرانيا وضعاً فيدرالياً ومحايداً، وأن يفهم الغرب أن الأمن الأوروبي هو أكثر من مجرد ناتو كبير الحجم.

وعلى أي حال، وعلى الرغم من نشوب الحرب في أوكرانيا، فإن المجال مفتوح أمامها لتقديم طلب إلى الأمم المتحدة للانضمام إلى مجموعة الدول المحايدة، وإنقاذ الشعب الأوكراني من ويلات الحروب. وإسقاط مسوغات الرئيس الروسي التي اعتبرها كافية لشن حرب، في أخطر أزمة كادت تصبح نووية منذ الحرب العالمية الثانية. والعالم بحاجة ماسة إلى دول محايدة في القارات الخمس لضبط إيقاع السلام، ورفض قرع طبول الحروب.