• اخر تحديث : 2024-05-15 19:58
news-details
مقالات مترجمة

لماذا قطع الأوروبيون كل العلاقات بروسيا على نحو حادّ؟


كانت إحدى النتائج غير المتوقَّعة للعملية الروسية في أوكرانيا هي حجم الرد عليها، مالياً واقتصادياً، من جانب الاتحاد الأوروبي. كانت موسكو تعتقد أن أوروبا ستسترشد بالبراغماتية. لكن، بعد كل شيء، فإن أي تأثير اقتصادي جدي للاتحاد الأوروبي في روسيا سيكون بمثابة الخَذوف المرتدّ الذي سيضرب الاقتصاد الأوروبي نفسه.

لكن الاتحاد الأوروبي، مع ذلك، اتخذ الإجراءات العقابية الأكثر قساوة، واعتمدها بسرعة كبيرة في الأيام العشرة الأولى من العملية العسكرية، وهو ما لا يحدث عادة في ظروف المواجهة من خلال العقوبات. إن اللجوء السريع إلى حزمة العقوبات يعني أن الطرف الذي يتعرض للضغوط غير مقيد اليدين، وقد تم إلقاء جميع "القنابل" عليه. ونتيجة لذلك، وفي الشهر الثاني من العملية، استنفدت أوروبا مخزونها من الحرب الاقتصادية تقريباً، وكان التأثير العكسي في اقتصادها عظيماً، ولم يتحقق الهدف المتمثل بوقف روسيا.

فلماذا كان الأوروبيون بهذه القسوة؟ وهل يستحق أن ننتظر منهم سلوكاً أكثر عقلانية في التعامل؟ دعونا لا نغفل من الحسابات الصدمة التي سبّبها اندلاع النزاع المسلح والواسع النطاق في وسط القارة. والتبريرات بشأن العراق وليبيا، أو حتى يوغوسلافيا، لم تنجح. فبُعد المسافة أو محدودية الأعمال العدائية سمحت للأوروبيين بالنظر إلى تلك الحروب كبقايا من العصور الغابرة، أمّا الآن فالصراع يدور تحت أنوفهم ويؤثّر في الجميع، والمسالة تتجاوز حدود العواطف.

لفترة طويلة، كانت العلاقات بين روسيا والاتحاد الأوروبي ظاهرة معقدة، شملت التعاون المربح لكِلا الجانبين، مالياً واقتصادياً، في إطار الاقتصاد العالمي والتاريخ الطويل من التشابك، ثقافياً وتاريخياً، بما في ذلك التجربة الدرامية في القرن العشرين مع حربين عالميتين ومواجهة منهجية واحدة، بحيث دخلت هذه العوامل في علاقة جدلية، بعضها بالبعض الآخر.

الجشع والربح

أصبح النظام العالمي الليبرالي، والقائم على العولمة الاقتصادية، ممكناً بسبب انهيار الاتحاد السوفياتي. وأفسح اختفاء العقبتين العسكرية والسياسية، وكذلك البديل الأيديولوجي والاقتصادي، المجالَ للغرب بنشر مبادئه بشأن تنظيم الدولة والمجتمع في سائر العالم، وفي الحد الأدنى، لمعظم دوله. وكان للاقتصادات الغربية المتقدمة السبق في الأسواق الجديدة التي انفتحت، وأصبح فضاء ما بعد الشيوعية بأكمله في أوراسيا مجالاً للاستحواذ من جانب الشركات الأوروبية.

أمّا سكان هذه المناطق، والذين سئموا العجز الذي رافق الاقتصاد المخطط، فانغمسوا ببهجة في عالم الرفاهية ووفرة البضائع. ومع التغلب على صعوبات أعوام ما بعد الشيوعية الأولى، واستقرار بلدان المعسكر الاشتراكي السابق، بما في ذلك الاتحاد السوفياتي السابق، أصبح عدد متزايد من المواطنين قادراً على التمتع بفوائد النظام الرأسمالي، الشيء الذي زاد في أفضلية الوضع الجديد.

لقد شارك الجميع فيما يسمى "عوائد السلام" التي نشأت بعد نهاية الحرب الباردة، لكن بوسائل متعددة. فبالنسبة إلى البلدان الصناعية، شكلت فرصة في تقوية القاعدة الصناعية وتوسيع الأسواق بصورة كبيرة. أمّا بالنسبة إلى الدول، التي كانت في السابق جزءاً من المعسكر الاشتراكي، فكان الهدف زيادة إمكانات المستهلك، وضمان رفع مستوى معيشة السكان، لكن على حساب التخلي عن الاستقلال الاقتصادي، أو على الأقل انخفاض حاد في حجم الاكتفاء الذاتي.

في حالة روسيا والدول الأخرى، صاحبة الثروات من المواد الخام، سارت الأمور بصورة إيجابية، فلقد تمّ إنشاء منظومة للمنفعة المتبادلة للموارد المعدنية لتحقيق اقتصاد حديث. وعلى الرغم من العوائق السياسية المستمرة، فإنّ الاندماج وفقاً لهذا المبدأ نجح في التطور والتعمق، وأصبح حجمها الحقيقي واضحاً الآن، بعد أن قررت أوروبا، نتيجة مجموعة من الأسباب، "إلغاء" روسيا كشريك اقتصادي، وكسر الروابط القائمة معها.

لقد اتضح أنهم، من دون أي برامج استراتيجية شاملة، أو أي شراكة أخرى، تغلغلوا بعمق شديد في معظم مجالات الحياة: روسيا، على نطاق أوسع، وأوروبا، على مستوى استراتيجي أكثر جدية من ضمانات تزويد الطاقة والغذاء.

من حيث المبدأ، تلائم طبيعة العلاقات هذه كِلا الجانبين، على الرغم من أن موسكو اشتكت، بصورة دورية، من عدم رغبة الأوروبيين في رؤية روسيا كشيء آخر غير كونها تبيع المواد الخام وتصدّرها. أمّا محاولات الانضمام الجاد إلى السلاسل التكنولوجية، التي كانت نشطة بصورة خاصة في بداية الألفية الجديدة، فلم تعطِ نتيجة. في المقابل، وخلال الحقبة نفسها، عززت روسيا سيطرتها على الأصول الخام، وفي بعض الأماكن طردت الشركاء الأجانب.

تسببت العوامل السياسية بعدم توازن في المخطط القائم، إذ افترضت العولمة الليبرالية تقارباً بين النماذج الاقتصادية للدول، لكنّ هذا لم يحدث. وبناءً عليه، لم يكن ممكناً إحداث تحول نحو تعزيز الثقة ونوعية التعاون. وأدى ظهور الدول، التي تمثّل "بلدان عبور" للمواد الخام الروسية، والتي لم ينصّ عليها المخطط الأصلي، إلى تحويل التعاون في مجال الطاقة من ضمان لاستقرار العلاقات، إلى سبب في زعزعة استقرارها على نحو متزايد.

ومع استفحال الأزمات الاقتصادية، والتي بدأت مع الأزمة المالية العالمية عام 2008، برزت الحاجة إلى تغيير النموذج بأكمله. كان من المفترض أن يعتمد النموذج الجديد لعمل الاقتصاد العالمي على الأجندة "الخضراء"، والذي يفترض وقف الاعتماد على موارد الطاقة الروسية في المستقبل، ليس فقط للأسباب السياسية، بل المناخية. وتسبّب النزاع الأوكراني في تسريع حاد في تنفيذ خطط قطع التعاون مع روسيا، وتدمير القوى المهتمة بتأخير ذلك، أو شلّها، قدر الإمكان.

رسم خط تحت القرن العشري

إن رد فعل أوروبا القاسي وغير المسبوق على تصرفات روسيا يرجع جزئياً إلى المكاسب التي حصل عليها الاتحاد الأوروبي منذ فترة طويلة من خلال التعامل معها. لقد تم لجم الغضب المتزايد من سياسات موسكو وممارساتها، من أجل عدم خسارة العلاقات المربحة معها في مجالي الاقتصاد والطاقة. أمّا عندما اتخذت الأحداث منعطفاً حاداً للغاية، فانفجرت الصمامات، وشعر كثيرون بالارتياح لأنهم لم يعودوا مضطرين إلى أداء دور الشراكة.

العلاقات بين روسيا وأوروبا لها تاريخ طويل جداً، وعنصرها الأساس هو الجدل بشأن الجذب والتنافر الثقافيَّين والأيديولوجيَّين. كانت الذروة في القرن العشرين. في البداية، قامت روسيا المسلَّحة بالنظرية الأوروبية وإعادة تفسيرها بطريقتها الخاصة، ببناء نوع جديد من الدولة، بينما دخلت أوروبا فترة تدمير الذات من خلال الحروب العالمية، قبل أن أن تتمكن روسيا من الانتصار في الحرب العالمية الثانية، والسيطرة على جزء كبير من أوروبا.

لكنها، في الوقت نفسه، هيَّأَت التربة لبروز نظام علاقات آخر بالجزء الأوروبي الخاضع للرعاية الأميركية، يتباين نوعياً عن ذلك الذي كان موجوداً قبل الحرب.

بالنسبة إلى روسيا، وفّر تقسيم أوروبا استقراراً في المواجهة لمدة 40 عاماً، لكنه حفّز فيها الرغبة في التغلب على الانقسام. وحدث ذلك نتيجة للضعف الداخلي، ثم بسبب اختفاء الاتحاد السوفياتي. وفي المحصلة، جرى توحيد أوروبا على أساس مبادئ أوروبا الغربية، التي كان انتشارها إلى الشرق يُعَدّ ضماناً للمحافظة على السلام والأمن العالميَّين.

تُعدّ تجربة النصف الثاني من القرن العشرين أساسية. فبفضلها، تمكنت أوروبا من التخلص من كوابيس ماضيها (أي النصف الأول من القرن العشرين). صحيح أنهم، بعد عام 1991، توقفوا عن تذكر أن الخط الذي تم رسمه في الماضي جاء بفضل تقسيم أوروبا، وأن التكامل الأوروبي أصبح قادراً على الانطلاق والتطور على وجه التحديد في ظروف المواجهة الخارجية.

وتماماً كما في العقود الثلاثة التي تلت عام 1991، تلاشت فكرة أن إلغاء الستار الحديدي أصبح ممكناً بفضل النيّات الحسنة للقيادة السوفياتية. وبدلاً من ذلك، طغت مقولة الدور والمساهمة الحاسمَين في ذلك للمنشقين من بولندا ودول أخرى في أوروبا الشرقية.

إن هذا ليس مجرد تحول في الأولويات السياسية، لكنه مظهر من مظاهر تغير المقاربات بشأن المفاهيم. وعلى الرغم من الحروب والاضطرابات، فإنه كان يُنظر إلى تاريخ القرن العشرين على أنه نتاج أعمال مشتركة، أساسها الانتصار المشترك في الحرب العالمية الثانية، والذي كان من المعتاد الإشادة بها حتى في الأزمات السياسية الحادة.

بيد أن التَّأَكُّل في هذه المفاهيم بدأ منذ وقت طويل، عندما أدى دخول دول أوروبا الشرقية في المؤسسات الأوروبية الأطلسية إلى تغيير سريع في الذاكرة التاريخية في الاتحاد الأوروبي. وشكّل علامةً فارقة اعتمادُ البرلمان الأوروبي، في عام 2019، قراراً يحمّل ألمانيا والاتحاد السوفياتي، بالتساوي، المسؤوليةَ عن إطلاق العنان للحرب العالمية الثانية.

إن العملية الروسية في أوكرانيا، من ناحية، أعطت الساسة الأوروبيين سبباً في إكمال هذا التحول، وقطع هذا الجزء من التاريخ الذي لا يتوافق مع الشرائع الأوروبية الحالية. لكنها، في الوقت نفسه، أخافت أوروبا، وتحديداً من خلال إعادة المظاهر العسكرية والسياسية إلى الحياة اليومية، التي ميّزت النصف الأول من القرن الماضي، أي فترة الكارثة الأوروبية.

تعيد الأحداث القارة العجوز إلى التجربة التي اعتُقد أنه تم التخلي عنها إلى الأبد، وهي الصراعات الكبرى بين الدول، وضم الأراضي، وإعادة ترسيم الحدود. وهذا هو بالضبط الماضي الرهيب نفسه، الذي يبدو أن الأوروبيين، بعد أن دمّروا أسلوب حياتهم السابق وأبادوا عشرات الملايين من الناس، اعتقدوا أنهم تركوه بعد عام 1945.

لدى أوروبا مجموعة معقدة من المخاوف من هذا الماضي. وتعيد الأحداث في أوكرانيا الأوروبيين عقلياً إلى أحلك فترة في تاريخهم. وبناءً على ذلك، لديهم الرغبة في التأكد من أن هذا لا يؤثّر فيهم. ببساطة، كانت أوروبا مرتاحة للغاية، في الأعوام الثلاثين الماضية، إلى درجة أن مجرد التفكير في إمكان العودة إلى أزمنة أخرى، وخصوصاً قبل 80-90 عاماً، كان يسبب رعباً حقيقياً.

قتال جديد ضد الشر

هل نتوقع عودة إلى سياسة أكثر تعاوناً؟ كما هي الحال مع القضايا الأخرى، يتوقف الكثير على نتيجة العملية الروسية. ولا يقل أهمية عن ذلك السؤال عن كيفية تطور أوروبا نفسها. وينظر حلفاء ألمانيا الآن إلى إعادة تسليحها كمثال على الموقف الملائم تجاه هذه الأوضاع. لكن التجربة التاريخية ستجعل كثيرين قريباً يفكرون في العواقب المحتملة.

لم يظهر الترسيم، أيديولوجياً وأخلاقياً، في الـ24 من شباط/فبراير (تاريخ انطلاق العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا)، لكنه ترسخ بعدها. وكلما أصبح الوضع العام أكثر تعقيداً (هناك عدد من الأسباب للأزمة العالمية، والإجراءات الروسية هي أحدها فقط)، زادت حاجة النخب السياسية الأوروبية  إلى مزيد من شيطنة العدو، لأن من الأسهل تبرير المصاعب والحرمان التي يتعرض لها المواطن العادي إذا كانت هناك حرب مقدسة ضد الشر.

صحيح أن نتائج الانتخابات في صربيا والمجر تشير أيضاً إلى مسار آخر - محاولات المحافظة على الحياد وتقليل الضرر ـ لكن الدول الكبرى لا تستطيع تحمل ما يستطيع الأفراد المعارضون من قادة الدول الصغيرة القيام به.

إن القليل من تهدئة المشاعر أمر لا مفر منه. وحتى أكثر نقّاد روسيا حماسةً يعترفون بأن قَطع جميع العلاقات في قطاع الطاقة محفوف بالكوارث، لكن الفجوة، التي برزت بين روسيا وأوروبا، أعمق وأكثر جوهرية من أن يتم التغلب عليها.