• اخر تحديث : 2024-11-15 12:27
news-details
أبحاث

ملخص

شهدت السنوات العشر الأخيرة تحولاتٍ كبيرةً على الصعيدين السياسي والاقتصادي في الشرق الأوسط ككل، تجسدت بحالة من عدم الاستقرار السياسي، وتردٍ اقتصادي، فاقم من تبعاته ما بات يعرف بالربيع العربي (أو الحراك العربي). وفي خضم حالة عدم الاستقرار تلك، كانت الولايات المتحدة الأمريكية على الدوام راعية للسلام والفوضى في آن معاً. ولطالما اعتبرت الوسيط الأقوى بين الوسطاء الدوليين، لاسيما في النزاع بين العرب ودولة الاحتلال الإسرائيلي. إلا أنها كانت وسيطاً غير نزيه، إذ ظهر ذلك جلياً في النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي، بالإضافة إلى غيره من النزاعات، مما شكل لدى الجانب العربي قناعة بأن أمريكا غير قادرة على إحلال السلام في المنطقة. من هنا برز الدور الصيني، لاسيما بعد الحرب الأخيرة على غزة في مايو ٢٠٢١، والذي أظهر الصين بصورة الوسيط النزيه الذي يسعى بشكل جدي لإحقاق الحق وصنع السلام.

تهدف هذه الورقة إلى الإجابة على التساؤل الرئيسي المتمثل بإمكانية لعب الصين الدور الذي عجزت أمريكا عن أدائه. وتفترض الدراسة أن الصين تلجأ من خلال التنمية الاقتصادية إلى إيجاد أساليب جديدة لحل النزاعات. وتستند في ذلك إلى منهج الدور، الذي يوضح الأساليب المستخدمة من قبل الصين في رسم سياستها الخارجية تجاه الشرق الأوسط. وقد خلصت الورقة إلى أن الصين قادرة على لعب دور في عملية السلام لا تستطيع أمريكا مجاراته لكون الصين تمتلك خصوصية في رسم سياستها وعلاقاتها الخارجية، والذي يؤهلها لأن تكون طرفاً موثوقاً لدى أطراف النزاع في الشرق الأوسط.

مقدمة

في الآونة الأخيرة، تحول الشرق الأوسط إلى ساحة منافسة أمريكية-صينية جديدة. فالقوتان العظميان، أمريكا والصين، تتنافسان في الشرق الأوسط، ولكن بإستراتيجيتين مختلفتين كلياً ولأهداف مختلفة. الإستراتيجية الصينية تعتمد على التنمية الشاملة، وتهدف من خلال ذلك إلى إيجاد أرضية من التعاون المشترك يؤسس لعلاقات قوية تقود لحل النزاعات على أسس من المصالح المتبادلة والتفاهم المشترك. أما الإستراتيجية الأمريكية، فتقوم على سياسة الإملاءات، توجيه الضغوطات والتدخل المباشر في سياسات الدول، ورفع مستويات الردع بما يتناسب مع أهدافها ويخدم مصالحها الحيوية (السلمي، ٢٠٢١).

وفيما يخص القضايا الشائكة، فقد سعى كل الرؤساء الأمريكيين منذ جيمي كارتر لصنع السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين وفشلوا. ووصلوا أخيراً إلى طريق مسدود. وذلك بسبب تعنت إسرائيل الدائم، وسعيها لتحقيق انتصارات على حساب العرب على قاعدة رابح-خاسر (win-lose) وكانت النظرة الإسرائيلية الاستعلائية والعنصرية تدفعها دائماً لعدم القبول بأي تسويات أو تقديم تنازلات مهمة وجدية للطرف الآخر. هذا الأمر كان يتعزز بالدعم الأمريكي اللامحدود للجانب الإسرائيلي. لذلك، فإن أي خرق في هذا الجانب وأخذ الصين للدور الأمريكي سيغير بالضرورة شيئاً ما في هذا الواقع.

إن وصمة رسم خطط وسياسات “للفوضى الخلاقة”، والانخراط بحروب الشرق الأوسط، وخلق النزاعات وتأجيجها، لم تتلطخ بها الأيادي الصينية. وظل تاريخ العلاقات العربية – الصينية ناصعاً من هذا الجانب. كما ظلت المصالح المشتركة، والصداقة والسلام، الأساس الذي بنيت عليه تلك العلاقات. وعلى الرغم من متانة العلاقات بين الجانبين العربي والصيني، تمكنت الصين من نسج علاقات طيبة مع دولة الاحتلال الإسرائيلي دون أن يؤثر ذلك على علاقاتها مع الجانب العربي، ودون أن تفقد ثقة الجانب العربي والشرق أوسطي رغم النزاعات المستمرة بين إسرائيل وبعض دول الإقليم (شرعان، ٢٠١٧). وهذا ما يميز السياسة الصينية الفريدة من نوعها، القادرة على نسج علاقات طيبة مع الأضداد بشكل لا يؤثر على متانة علاقتها مع أي من تلك الأطراف.

مشكلة الدراسة

في خضم أزمات الشرق الأوسط اللامتناهية، كانت الولايات المتحدة الأمريكية على الدوام الوسيط الأهم والأقوى بين الوسطاء الدوليين لحل الأزمات، لاسيما النزاع بين العرب ودولة الاحتلال الإسرائيلي. ورغم تباين الإدارات الأمريكية في وساطتها بين مد وجزر، واختلاف الأدوار، تارة كوسيط منحاز يسعى للظهور بصورة المعتدل، وأطواراً كوسيط منحاز بشكل صارخ نحو الجانب الإسرائيلي، تشكل لدى الجانب العربي قناعة بأن أمريكا غير قادرة على تحقيق السلام في المنطقة. تبع ذلك اعتقاد بعجزها عن لعب دور الوسيط النزيه بين العرب ودولة الاحتلال الإسرائيلي، بالإضافة إلى اتهامها بخلق أزمات في أماكن مختلفة وذلك من خلال اتباع أمريكا لسياسة “الفوضى الخلاقة”، الأمر الذي ترتب عليه زيادة في تأزيم الأوضاع في الشرق الأوسط على مدار سنوات طويلة، وخلق أزمات لا تنتهي. فلا يكاد يخمد وهج أزمة حتى يشتعل لهيب أزمة أخرى، وهكذا دواليك. من هنا برزت الحاجة إلى طرف جديد يمتلك القدرة على التأثير ولعب دور الوسيط النزيه وأن يحوز على ثقة كافة الأطراف. فظهرت الصين لتسد الفراغ وتلعب هذا الدور، وقد تجلى ذلك من خلال مواقفها الأخيرة، لاسيما بعد الحرب على غزة في مايو ٢٠٢١.

تهدف هذه الورقة للإجابة على التساؤل الرئيسي التالي: هل الصين قادرة على لعب دور في صنع السلام في الشرق الأوسط في الوقت الذي عجزت أمريكا عن ذلك؟ هذا التساؤل ستتم الإجابة عليه من خلال الإجابة على التساؤلات الفرعية التالية:

١- ما أهمية السلام في الشرق الأوسط للجانب الصيني؟

٢- هل يشكل العامل الاقتصادي الصيني دوراً في خلق حالة من الاستقرار في المنطقة؟

٣- ما مقومات وأساليب الصين لاستحداث وسائل جديدة لحل النزاعات في الشرق الأوسط؟

أهداف الدراسة

تهدف الدراسة إلى الإجابة على التساؤلات السابقة من حيث:

١- شرح وتوضيح أهمية السلام في الشرق الأوسط بالنسبة للصين ومشروعها الكبير (الحزام والطريق).

٢- توضيح الدور الاقتصادي الذي رسمته الصين لتعزيز علاقاتها مع الشرق الأوسط وخلق الاستقرار.

٣- دراسة مقومات وأساليب الجانب الصيني التي تؤهله لاستحداث وسائل جديدة لحل النزاعات في الشرق الأوسط.

أهمية الدراسة

تكمن أهمية الدراسة في البحث عن أساليب جديدة لحل النزاعات في الشرق الأوسط. سيتم ذلك من خلال اختبار فرضية لجوء الصين للتعاون والتنمية الاقتصادية كأساس لإيجاد أساليب جديدة لحل النزاعات، كما تختبر الدراسة قدرة الصين على لعب دور في صنع السلام في الشرق الأوسط. وسيتم ذلك من خلال تطبيق منهج الدور على السياسة الخارجية الصينية تجاه الشرق الأوسط.

خطة الدراسة

أولاً: السياسة الصينية – الشرق أوسطية وأهميتها.

ثانياً: الاقتصاد كأساس للأمن والاستقرار في الشرق الأوسط.

ثالثاً: استحداث أساليب جديدة في الدبلوماسية الصينية لحل النزاعات، حيث اعتمدت الصين على دبلوماسية جديدة في سياستها الخارجية تقوم على الأخلاق والمصلحة.

أولاً: السياسة الصينية-الشرق أوسطية وأهميتها

تمتاز علاقات الصين مع أطراف فاعلة إقليمياً في الشرق الأوسط مثل إيران، تركيا، السعودية، وغيرها بالجيدة، وتوصف بالممتازة مع بعض تلك الدول. هذا في مقابل علاقات أمريكية متوترة، بدرجات متفاوتة، مع بعض الأطراف في الشرق الأوسط. وتثبت بعض الدراسات العلمية الحديثة بأن بعض الأطراف والقوى الفاعلة إقليمياً في الشرق الأوسط تثق بالصين بدرجة أعلى من ثقتها بأمريكا (الباروميتر العربي، ٢٠٢٠). هذا يعود إلى تاريخ من التعامل مع كل من الصين وأمريكا الذي أوصل تلك الأطراف الى هذه النتيجة.

وفي دراسة نشرت في مطلع العام ٢٠٢٠ في موقع الباروميتر العربي الذي يصدر عن جامعتي ميتشغان وبرينستون الأمريكيتين وعدد من المؤسسات البحثية العربية، أثبت التقرير الذي أجري ليقيس الرأي العام العربي في ١٢ دولة عربية هي: الأردن، تونس، لبنان، الجزائر، المغرب، فلسطين، ليبيا، اليمن، الكويت، مصر، السودان، والعراق، أن ٦ من هذه الدول تفضل علاقات أقوى مع الصين، وأنها تطمح بأن تصبح علاقاتها مع الصين أقوى من علاقاتها مع الولايات المتحدة. كما بينت الدراسة بأن ٦١% من عموم الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة يفضل تلقي المساعدات الخارجية من الصين، ويرى بأن تزايد الدور الصيني سيكون مرحب به من قبل شعوب المنطقة (الباروميتر العربي، ٢٠٢٠). هذا مؤشر مهم على المستوى الشعبي العربي للطريقة التي ينظر من خلالها الشعب العربي للصين والولايات المتحدة على حد سواء. فالحروب والتدخلات في المنطقة تركت أثراً ملموساً على وجهة النظر العربية لاسيما على الصعيد الشعبي.

وينقسم اهتمام الصين بالشرق الأوسط إلى قسمين: أولاً: تأمين حاجاتها من مصادر الطاقة المختلفة سواء النفط أو الغاز الطبيعي، ثانياً: توفير الأمن والحماية للطريق التجاري البري والبحري لمشروعها الكبير “الحزام والطريق”، حيث أن اقتصادها معتمد جداً على تصدير منتجاتها للخارج، وجزء مهم جداً من صادراتها يمر بشكل أساسي من خلال الشرق الأوسط (سكوبيل، ونادر، ٢٠١٦). ومن أجل أن تتدفق التجارة الصينية نحو العالم، ينبغي للصين أن تصل إلى الموانئ والممرات والمضائق البحرية في الشرق الأوسط ومحيطه مثل قناة السويس وباب المندب ومضيق هرمز.

تلك الممرات المائية تعج بالسفن الأمريكية، مما يخلق عنصر تهديد لدى الجانب الصيني في حال فكرت الولايات المتحدة باعتراض هذه المضائق والممرات البحرية والموانئ، الأمر الذي قد يعطل حركة التجارة الصينية بشكل كبير (عبد الحي، ٢٠١١). لذلك، أصبح لزاماً على الصين وضع إستراتيجية جديدة لحماية مصالحها في المنطقة سواء في مواجهة الجانب الأمريكي أو غيره. فجاءت مذكرة التفاهم بين الصين وإيران التي وضع إطارها الأولي في يناير عام ٢٠١٦ ثم تم التوقيع عليها رسمياً في آذار عام ٢٠٢١ لتشكل خطوة في هذا الاتجاه، حيث أن أحد بنودها تفعيل ممر (جنوب – شمال) كبديل عن قناة السويس، والذي يقلل تكلفة الشحن إلى ٣٠% ويختصر المدة الزمنية للشحن إلى ٢٠ يوماً. كما أن هذا الممر يعتبر خياراً أفضل في مجال الترانزيت، وبديلاً أكثر أماناً من قناة السويس (فحص، ٢٠٢١).

من المتوقع أن يؤدي تحالف إيران مع الصين الذي تم الإعلان عنه بمذكرة التفاهم الصينية-الإيرانية إلى خلق تحالف أكبر وأوسع يؤسس لتشكيل محور ثلاثي يضم إيران والصين وروسيا، ثم الانفتاح على دول في شرق آسيا مثل ماليزيا وإندونيسيا وغيرها، وبالتالي تشكيل محور يقود العالم على اعتبار أن القرن الحالي يمتاز بصعود آسيوي في المجالات المختلفة من أمن وسياسة واقتصاد وغيرها. كل ذلك جاء على حساب تراجع دور أمريكا ونفوذها الذي كان من أسبابه تراكم الأزمات على نطاق العالم ككل (السلمي، ٢٠٢١).

ثانياً: الاقتصاد كأساس للاستقرار في الشرق الأوسط

إن الشعار الذي ترفعه الصين هو تحقيق السلم والتطور لكافة الدول من خلال التعاون المبني على الثقة المتبادلة والمساواة والمنفعة المتبادلة والفوز والتطور والازدهار المشترك. إن ما يميز الإستراتيجية الصينية هو السعي للسلام والتنمية، والرغبة في التعايش مع الآخر الذي يوصل إلى تفاهم أكبر يتعدى الحكومات ليصل إلى الشعوب، وهذا ما يحقق الاستقرار الفعلي من وجهة النظر الصينية. إذ ترى الصين بأنه في عصر الانفتاح، أصبح المصير مشتركاً. فما يؤثر على بلد ما لابد أن يترك أثراً في أماكن أخرى من العالم (سكوبيل، ونادر، ٢٠١٦).

في عالمنا اليوم، أصبح الاقتصاد هو الذي يقود السياسة. وبناءً عليه، استخدمت الصين في دبلوماسيتها وسياستها الخارجية العامل الاقتصادي كعامل جاذب مع الدول الأخرى لاسيما الصديقة منها. وهذا يفسر سعي الصين لبناء قوة اقتصادية عالمية كبرى. وقد سعت الصين لعقد صفقات تجارية مع دول الشرق الأوسط في كافة المجالات في إطار التأسيس للبنية التحتية لمشروعها الكبير، الذي يتطلب بناء منظومة سكك حديدية ومصانع ومشاريع تخدم المشروع الأكبر، وذلك على امتداد مشروع الحزام والطريق. وبعد توقيع مذكرة التفاهم الصينية-الإيرانية عام ٢٠٢١ التي شملت استثمارات تتجاوز ٤٠٠ مليار دولار، وتوقيع اتفاقيات اقتصادية مختلفة مع دول أخرى في المنطقة، باتت الصين فعلياً الشريك التجاري الأول للعديد من الدول في الشرق الأوسط (بور، ٢٠٢١).

وتسعى الصين لخلق تعاون اقتصادي قوي لدى الدول الواقعة ضمن خط الحزام والطريق، وهذا يعزز نفوذ الصين في مناطق مختلفة من العالم. هذا يضمن وصول الصين إلى منابع الطاقة الأهم في العالم ويضمن استمرارها في الحصول على الطاقة، ويفسر سبب اهتمام الصين بأن تكون المستثمر الأكبر في المنطقة في السنوات الأخيرة. وفي هذا الإطار، لا تتوانى الصين عن تزويد دول الشرق الأوسط بالتكنولوجيا الحديثة اللازمة لبناء اقتصاد تلك الدول، وقد تعدت المساعدات الجانب الاقتصادي لتصل إلى الجانب العسكري.

يأتي ذلك في خضم تغير في السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط والتركيز أكثر على الدول الآسيوية لاسيما الصين، خصوصاً أن أمريكا بدأت تعتمد على نفسها في مجال الطاقة ولم تعد بحاجة إلى الشرق الأوسط من هذا الجانب (مركز الإمارات للسياسات، ٢٠٢١)،   .(Garlick and Havlova, 2020)

إن التحدي الأكبر الذي سيواجه الصين والولايات المتحدة على حدٍ سواء هو اقتسام المصالح المشتركة في الاستقرار والأمن، في إطار امتداد المنافسة بينهما، والذي جعل الشرق الأوسط ساحة جديدة لتصفية الحسابات بين أمريكا والصين (السلمي، ٢٠٢١). فتزايد النفوذ الصيني في الشرق الأوسط سيوازيه تراجع في قدرة أمريكا على لجم الصعود الصيني الذي تسعى لاحتوائه. هذا سيمهد الطريق لدول الشرق الأوسط للاستفادة من التغيير في ميزان القوى، الذي بدوره سيعطي الصين فرصة أكبر لتطبيق سياستها في حل الأزمات وتنفيذ مشاريعها الاقتصادية في المنطقة، مما قد يجلب لدول الشرق الأوسط الاستقرار المنشود، وبالتالي يكسر دوامة الفوضى، ويؤسس لمستقبل جديد مبني على السلام الدائم والشامل والتنمية التي تؤدي للازدهار الذي بدوره يصنع الاستقرار حسب الرؤية الصينية.

ثالثاً: استحداث أساليب جديدة في الدبلوماسية الصينية لحل النزاعات

ترى الصين بوجوب إيجاد تصور جديد للأمن يكمن في التعاون الأمني الجماعي المتبادل والدائم، وأن يبنى ذلك على أساس احترام سيادة الدول، عدم التدخل في شؤون الدول الداخلية (لاسيما التدخل العسكري)، وحل النزاعات بالطرق السلمية؛ وأن يترافق ذلك مع تعاون اقتصادي كبير وعميق. فالأمن الفردي المطلق للدول يتعارض مع السياسة التي تطرحها الصين والتي تتمثل بالأمن الجماعي. هذا عدا ما قد يسببه الأمن المطلق لدول أخرى من حالة من الخوف وفقدان الأمان. لذلك تسعى الصين لخلق وسائل جديدة للتعاون في الجانب الأمني بموازاة غيره من جوانب التعاون.

وضمن هذه الرؤية، تسعى الصين لخلق تحالفات مع دول المنطقة، الأمر الذي يعزز الأمن. وتركز الصين على التطور الاقتصادي المبني على الاحترام المتبادل، إذ ترى وجوب إيجاد حلول طويلة الأمد، وحلول كتلك لا تتأتى بالتدخل العسكري بل بالوسائل السلمية. وتدعم الصين تعزيز قوة الدول في المنطقة لأن الدول الضعيفة أو الفاشلة لا تستطيع أن تواجه التحديات، وقد تشكل تهديداً لنفسها ولغيرها من الدول. فالقائد القوي، والجيش والمؤسسات القوية، تصنع مستقبلاً واضحاً للتطور الاقتصادي وتساعد مؤسسات الدولة القوية على إيجاد حلول للمشاكل المختلفة لها وللمنطقة ككل (سعد، ٢٠٢٠).

إن من مصلحة الصين أن تتمتع منطقة الشرق الأوسط بالاستقرار لحماية المصالح الصينية في المنطقة، وهذا سبب يدعم ثقة الجانب العربي والشرق أوسطي بأن الصين صادقة وجادة في سعيها لتحقيق السلام. في هذا الجانب، تسعى الصين لإيجاد توازن في سياستها الخارجية في الشرق الأوسط، وتتلخص سياستها بأنها تحاول أن تحتفظ بعلاقات صداقة مع الجميع وألا تعادي أحداً. لذلك هي تسعى لعلاقات قوية مع الدول على اختلافها واختلاف مكانتها وقوتها، فلا تفرق بين دولة كبيرة أو صغيرة، قوية أو ضعيفة. ووفقاً للرؤية الصينية، من شأن سياسة كهذه أن تخلق جواً من السلام والاستقرار والازدهار والتطور في المنطقة (سعد، ٢٠٢٠).

على سبيل المثال، لو تم تكريس الاتفاق الصيني-الإيراني لإعطاء الصين أوراق قوة إضافية للتأثير في المنطقة، تستطيع الصين استخدام العلاقة القوية مع إيران التي نجمت عن توقيع مذكرة التفاهم بينهما للجم طموحات إيران النووية التي تخيف بعض الأطراف في الشرق الأوسط كدول الخليج العربي وإسرائيل مثلاً. ويمكنها أن تستعمل هذه الورقة للتفاوض مع الجانب الإسرائيلي على قضايا مختلفة، قد يكون من بينها إيجاد حلول للنزاع بين الفلسطينيين والإسرائيليين على قاعدة رؤية الصين للأمن الجماعي. من هنا نرى كيف يمكن للصين، من خلال علاقاتها المتداخلة والاتفاقيات التي تبرمها مع الأطراف المختلفة، أن تكون الطرف القوي القادر على إيجاد الحلول وتقديم الضمانات في القضايا الشائكة في المنطقة.

بموجب الاتفاق الإيراني الصيني الجديد الذي من المقرر له أن يستمر لـ ٢٥ عاماً، ستصبح إيران ممراً للنفوذ الصيني والروسي لمواجهة الدور الأمريكي في الشرق الأوسط (بور، ٢٠٢١). وقد بدأت الصين فعلياً بأخذ دور في أزمات الشرق الأوسط لاسيما القضية المحورية الأهم، وهي النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي، من خلال طرحها استضافة مفاوضات مباشرة بين طرفي النزاع في بكين، والبحث عن سبل جديدة ومختلفة لحل النزاع في إطار ما شرعته الأمم المتحدة لحل هذا النزاع، وهو حل الدولتين (فحص، ٢٠٢١). وتسعى الصين إلى التأثير في قضايا الشرق الأوسط من خلال بلورة مبادرة تشمل المنطقة ككل، وتهدف لحل النزاعات الأهم بين دول المنطقة على أساس من الاحترام المتبادل، والتأسيس لشراكة في السلام والتنمية المتبادلة تساعد على إيجاد حلول وتفاهمات سياسية بين دول المنطقة (شرعان، ٢٠١٧).

على الرغم من وجود شركاء وحلفاء إقليميين للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وتمتعها بنفوذ دبلوماسي وعسكري واسع في المنطقة، والتزامها بتوفير مظلة أمنية للإقليم، إلا أن التحدي الحقيقي للولايات المتحدة يكمن في لعب الصين دوراً لمساعدة الخصوم الإقليميين، وذلك بإيجاد أرضية مشتركة لعلاقاتها مع كافة الأطراف في إطار الاستمرار في تحقيق توازن في علاقاتها مع تلك الدول. هذا يصب في صالح الصين ويعطيها أوراق قوة إضافية في المواجهة بينها وبين أمريكا.

وبناءً على إستراتيجية أمريكا الراهنة، ستظل مصالح إسرائيل العنصر الأهم في سياسة أمريكا تجاه الشرق الأوسط. لهذا، سيظل الجانب العربي، لاسيما المحور الممانع منه أو ما يعرف بمحور المقاومة والمتمثل بسوريا، ولبنان، وبعض الفصائل الفلسطينية، وأهمها حركة حماس، يرى في أمريكا وسيطاً غير نزيه، مما سيزيد من سعيه لإيجاد وسيط بديل. في هذه الحالة، ستكون الصين البديل الأنسب والأقوى والأجدر لقيادة أي تحرك نحو إيجاد حلول لمشاكل الشرق الأوسط عامة، والنزاع الفلسطيني – الإسرائيلي خاصة (فحص، ٢٠٢١).

خاتمة

تتمثل رؤية الصين نحو التنمية الشاملة التي تسعى إليها بكونها لا ترتبط بالتدخل بخصوصيات المجتمعات وما يميز تلك المجتمعات عن بعضها البعض، بل تدعو إلى الانفتاح على الآخر وتقبله كما هو، والتعاون معه مهما كانت ثقافته أو دينه أو عرقه، وهذا برأيها أساس لانفتاح المجتمعات وتقبل بعضها، ويؤدي إلى تعزيز التعاون فيما بينها.

وتؤكد الصين على أن القوة العسكرية لا تحل النزاعات، بل يكمن الحل في التنمية والازدهار والتطور والتعاون الاقتصادي والتجاري. وترى الصين بوجوب إيجاد حلول طويلة الأمد، وحلول كتلك لا تتأتى بالتدخل العسكري. لذلك فهي تتماشى مع رؤية المجتمع الدولي الذي يشجع دائماً على الحلول السياسية للنزاعات.

وفي خضم هذه الرؤية، تسعى الصين إلى بناء مجتمع المصير المشترك. وهذه نقطة جدلية لدى البعض لأنهم يرون فيها وسيلة للاستعمار الحديث المبني على الاقتصاد لا القوة العسكرية، والذي لا يقل أهمية، وربما يكون أكثر فاعلية من الاستعمار العسكري. لذلك تخشى بعض الدول من السياسة الصينية التوسعية، وتضع حولها علامات استفهام كثيرة. وهنا، فإن الصين مطالبةٌ بطمأنة المجتمع الدولي من هذا الجانب، وعليها تقع مسؤولية إثبات أن مشروعها الكبير إنما هو للتنمية المشتركة والازدهار المشترك والتعاون المتبادل وليس استعماراً من نوع جديد

إن توجه الصين نحو رسم خارطة طريق أساسها التعاون المشترك استناداً إلى مشروعها الكبير “الحزام والطريق”، يمكن أن يؤسس للانتقال لنظام عالمي متعدد الأقطاب قابل للاستمرار والديمومة لفترات طويلة من الزمن. فعلى سبيل المثال لا الحصر، تأتي اتفاقية التعاون بينها وبين إيران لتصب في هذا الاتجاه. الواقع السياسي يتغير، والنظام الأحادي القطب قد انقضى وانتهى، وهناك الآن علاقات جديدة وطموحات جديدة وتوازنات جديدة، والعالم يتجه نحو التعددية القطبية. من هنا يتجلى الدور الصيني كقوة كبرى قادرة على الإمساك بخيوط اللعبة على اختلافها، ونسج تحالفات جديدة تؤدي إلى جعل الصين لاعباً مهماً يملك زمام المبادرة والقدرة على التأثير في الساحة الشرق أوسطية خصوصاً، ويتعداه للتأثير على المستوى العالمي عموماً. مما يؤهلها إلى لعب دور مهم جداً في التأثير في قرارات بعض الدول، لاسيما دول الشرق الأوسط، والذي يؤهلها للعب دور “البطولة” في صنع سلام دائم وشامل لطالما تطلعت إليه وتمنته دول الشرق الأوسط.