• اخر تحديث : 2024-04-26 21:42
news-details
مقالات عربية

جرت الانتخابات الرئاسية الفرنسية على جولتين في 10 و24 إبريل الجاري. وقد أسفرت جولتها الأولى عن تصدر مرشح يمين الوسط وزعيم حزب “الجمهورية إلى الأمام” الرئيس إيمانويل ماكرون ومرشحة اليمين المتطرف زعيمة حزب “التجمع الوطني” ماريان لوبان قائمة المرشحين. واستطاع ماكرون الفوز في الجولة الثانية بحصوله على 58.5في المئة من الأصوات، مقابل 41.5في المئة لـ”لوبان”. ومع هذا، فبالمقارنة مع نتائج انتخابات 2017، نلاحظ أنّ انتصار ماكرون أضيق، عندما اكتسح الجولة الثانية بنحو 66في المئة من الأصوات مقابل نحو 34في المئة لمنافسته. كما أنّ نسبة التي نجح بها ماكرون أقل بكثير عن النسبة التي فاز بها الرئيس جاك شيراك (82.2في المئة) عام 2002، عندما احتشد أغلب الفرنسيين خلفه للحؤول دون وصول جان ماري لوبان مرشح اليمين المتطرف لقصر الإليزية في الجولة الثانية من السباق الرئاسي.

ثمة دلالاتٌ ومضامين عدة لنتائج الانتخابات الفرنسية، لعل أولها أنّ نجاح ماكرون في تأمين فترة رئاسية ثانية هي المرة الأولى لرئيس قائم منذ العام 2002، وهي المرة الأولى التي يُعاد فيها انتخاب رئيس منتهية ولايته في ظل بلد منقسم دون أن يكون رئيس حكومته من حزبٍ مختلف، منذ بدء اختيار رئيس الجمهورية الفرنسية بالاقتراع العام المباشر في 1962. كما يعكس انتصار ماكرون إدارته الفعّالة لأزمة جائحة كوفيد-19، وإنعاشه للاقتصاد، وبراعته السياسية في احتلال مركز الوسط بالكامل في السياسة الفرنسية

والحق أنّ نتائج الانتخابات الفرنسية أبانت عن مجتمعٍ منقسم، إذ إن خريطة ما بعد الانتخابات أظهرت تفاوتاتٍ إقليمية صارخة، حيث تمتع ماكرون بالتأييد بصورةٍ كبيرة في باريس، والغرب، والجنوب الغربي، ووسط البلاد، بينما حازت لوبان على تأييد الناخبين في المعاقل الصناعية بشمالي البلاد، والجنوب المتوسطي، وأقاليم ما وراء البحار. كما أنّ غالبية أصوات البر الرئيسي ذهبت إلى ماكرون، فيما حصلت لوبان على معظم أصوات أقاليم ما وراء البحار (جزر الكاريبي الرئيسية، وجزر المحيط الهندي، وجويانا الفرنسية).  ولم يحصل، في المقابل، ماكرون سوى على غالبية الأصوات في جزر المحيط الهادي. والحقيقة أنّه يمكن وصف هذا النمط من التصويت لـ”لوبان” بأنه تصويت عقابي، ويُضعف الرؤية العالمية التي تتضمنها سياسة ماكرون. علاوة على هذا، من الواضح أنّ المراكز الحضرية الكبرى، وأبناء الطبقة المتوسطة العُليا، وكبار السن صوتوا لمصلحة ماكرون، بينما مجموعات الدخل الأقل – بأغلبية ساحقة – لمصلحة لوبان؛ غير أنه، مع هذا، سيكون من الخطأ تصور انقسام البلاد بين مناطق حضرية تؤيد ماكرون ومناطق ريفية تؤيد لوبان، فالانقسامات الأكبر في المجتمع هي انقسامات جيلية واجتماعية.

وبالحديث عن الانقسام الجيلي في فرنسا، يَدِين ماكرون لكبار السن (71 سنة فأكثر) بانتصاره في الجولة الثانية، فيما أدار نحو 41في المئة من الشباب (بين 18-25 عاماً) ظهورهم للتصويت بالكلية، طبقاً لبيانات مؤسسة “إبسوس” للدراسات والأبحاث الفرنسية. كما أن ماكرون ذو الـ44 ربيعاً حقق هامش فوز ضيق في الفئات العمرية (24-34، 35-39)، فيما تفوقت لوبان في الفئة العمرية بين 50 و59 عاماً.

ويتصل بهذا زيادة معدل الامتناع عن التصويت لتصل إلى أكثر من 28في المئة من الناخبين؛ وهو أكبر معدل من نوعه منذ العام 1969. فقد بلغت نسبة المشاركة في الانتخابات بالجولة الثانية نحو 72في المئة من الناخبين، مقابل 74.6في المئة في الجولة الثانية في انتخابات 2017. كما عمد، في إشارة تحذيرية للرئاسة الثانية لماكرون، 8.6في المئة من الناخبين إلى إبطال أصواتهم بإرسال رسالة مفادها عدم رضاهم عن أيٍّ من المرشحين.

والأهم من ذلك أنّ الانتخابات الفرنسية أبانت عن اتجاهٍ متزايد لتطبيع اليمين المتطرف في فرنسا. وصحيح أنّ ظاهرة تطبيع اليمين المتطرف هي ظاهرةٌ أوروبية بل وعالمية، إلّا أنّ الحالة الفرنسية معبرة في هذا الخصوص، حيث يتزايد التأييد الانتخابي لتيار اليمين المتطرف، ويتم تبني آرائه ولاسيما المتعلقة بوضع الإسلام والمسلمين في فرنسا من جانب حكومة ماكرون. فقد تمكنت لوبان من تجاوز الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية 2022 كما فعلت من قبل في الانتخابات السابقة بحصولها على أكثر قليلاً من 23في المئة من الأصوات، مقابل نحو 27.9في المئة لماكرون. وبرغم هزيمتها في الجولة الثانية، فقد كسبت لوبان 7.6في المئة من أصوات الناخبين عما حصلت عليه في انتخابات 2017 التي حلت فيها في المرتبة الثانية أيضاً؛ ضف إلى هذا أنّ الجولة الأولى من الانتخابات أبانت عن وجود استياءٍ عارم من السياسات التي تابعها ماكرون طيلة السنوات الماضية، إذ دعم أكثر من نصف الناخبين مرشحين ينتمون لأقصى اليمين أو أقصى اليسار.

وفي تقريرها عن جولة الإعادة للانتخابات الرئاسية الفرنسية، أشارت صحيفة "الفاينانشال تايمز" إلى فقدان الناخبين المسلمين في فرنسا الثقة في الرئيس ماكرون بسبب، ضمن عوامل أخرى، تحوله للاتجاه المحافظ وتركيزه على الأمن بين مسلمي فرنسا الذين يبلغ عددهم حوالي 5 ملايين نسمة، وأنهم لا يرون أنّ الوضع سوف يكون أسوأ لو فازت لوبان بالرئاسة. بعبارة أخرى، يتم تبني أطروحات اليمين المتطرف من جانب إدارة الرئيس ماكرون سواء لسحب البساط من تحته، أو للمزايدة عليه، وهي ظاهرة ليست مقصورة على فرنسا، بل شائعة في كثيرٍ من الدول الأوروبية.

ويخطئ من يتصور أنّ الصراع بين تيار اليمين المتطرف وكتلة يمين الوسط انتهت بفوز ماكرون بالرئاسة الفرنسية؛ ذلك أنّ الجولة المقبلة في الانتخابات التشريعية (يونيو 2022) سوف تكون حاسمة بالنسبة لمآلات هذا الصراع، ولجهة تطبيع اليمين المتطرف وقدرة تيار ماكرون على قيادة فرنسا في السنوات المقبلة. فالانتخابات البرلمانية المقبلة سوف تُحدد تركيبة الحكومة التي سيعتمد عليها الرئيس ماكرون في خطط الإصلاح، خاصةً وأنّ لوبان اعتبرت أن ما حصدته من أصوات في الانتخابات الرئاسية يشكل “انتصاراً مدوياً”، وتعبيراً من جانب الفرنسيين عن “رغبة” في إقامة “سلطة قوية مضادة لماكرون”. وما أشك أنّ معظم الناخبين الفرنسيين إما أن يعطوا أصواتهم لتيار اليمين المتطرف، ولاسيما إذا تكونت كتلة ائتلافية بين التجمع الوطني وحزب “الاسترداد” (حصل زعيمه على 7.7في المئة في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية)، وحزب “انهضي فرنسا” (حصل قائده على 2.1في المئة في الجولة نفسها)، ومن ثم ترسيخ وجود اليمين المتطرف في الجمهورية الفرنسية، وإمّا أن تذهب هذه الأصوات إلى اليسار؛ ومن ثم تختبر البلاد مخاض فترة تعايش أخرى قد تتسبب في جمود تشريعي.

ويؤكد ذلك أنّ ماكرون أكّد، في خطاب النصر، أنّ تصويت كثير من المواطنين لمصلحته لم يكن اقتناعا ببرنامجه الانتخابي، أو إيماناً بأفكار حزبه، ولكن للحؤول دون فوز اليمين المتطرف. وبحسب آخر استطلاعات رأي لمؤسسة “إبسوس”، فإنّ 56في المئة من الفرنسيين المستطلع آراؤهم يريدون خسارة حزب الجمهورية إلى الأمام في الانتخابات التشريعية، مقابل 20في المئة يؤيدون حصوله على أغلبية مريحة تتيح له “تطبيق برنامجه”، و24في المئة يرون أنه من الأفضل حصوله على أغلبية لتجنب اضطراره إلى "تعايش سياسي".

وأخيراً، وليس آخراً، ثمة دلالة مهمة لنتائج الانتخابات الرئاسية الفرنسية تتعلق بالسياسة الخارجية ومستقبل الاتحاد الأوروبي؛ وذلك أنّ اختيار غالبية الناخبين لماكرون يعني رفضهم لمرشحٍ يحمل اتجاهاً عدائياً للناتو والولايات المتحدة ولتيارٍ مشكك في جدوى الاتحاد الأوروبي. كما أنّ فوز ماكرون يُسهم في دعم وحدة التحالف الغربي في مواجهة روسيا في الحرب الأوكرانية، وتقوية التجربة الاتحادية الأوروبية التي يقوم محركها على التزام فرنسي-ألماني مشترك؛ ومن الصحيح أنّ لوبان، في حملتها الانتخابية، عبرت عن تخليها عن فكرة “الفيركسيت”، إلّا أنّ فوزها كان يعني تعزيزاً للاتجاه المشكك، وإبقاء التجربة الأوروبية في حدها الأدنى؛ اتحاد ضعيف مقابل تقوية المؤسسات الوطنية والسياسات بين الحكومية. كما كان يعني إضعاف وحدة التحالف الغربي ضد روسيا على أساس إعجاب لوبان بسياسات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

ومن هنا نفهم تعبير زعماء التحالف الغربي عن سعادتهم بفوز ماكرون، بل وحثهم الفرنسيين على التصويت لمصلحته في خطوة غير مسبوقة. فقد هنأ الرئيس الأمريكي جو بايدن نظيره الفرنسي على إعادة انتخابه، واصفاً فرنسا بأنها “شريك رئيسي في مواجهة التحديات العالمية”، متطلعاً إلى استمرار الشراكة الأمريكية-الفرنسية “في دعم أوكرانيا والدفاع عن الديمقراطية ومواجهة تغير المناخ” . فيما اعتبر المستشار الألماني أولاف شولتز فوز ماكرون “تصويت ثقة في أوروبا”. وكان الأخير رئيسا وزراء إسبانيا والبرتغال قد حضوا الفرنسيين على دعم ماكرون في مواجهة لوبان في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، وذلك في مقالٍ بصحيفة لوموند الفرنسية. ومن جانبهم، أعرب قادة الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك رئيس المجلس الأوروبي والمفوضية الأوروبية، عن إمكانهم “التعويل على فرنسا لخمسة أعوام إضافية” لجهة تعزيز مستقبل الاتحاد الأوروبي.

صحيح أنّ الرئيس الفرنسي يسيطر على تخطيط وتنفيذ السياسة الخارجية، إلا أنّ الانقسام المجتمعي والسياسي الذّي أبانت عنه الحملات الانتخابية ونتائج الانتخابات سيؤثر على نمط السياسة الخارجية الفرنسية، ومن المتوقع أن تكون غير متماسكة وضعيفة مما سيؤثر على دور باريس تجاه حلفائها أو خصومها.