على الرغم من أنَّ النزاع الروسي الأوكراني الذي يتكشف أمام أعيننا يمكن اعتباره على الأغلب أزمة إقليمية (أوروبية)، فإنَّ عواقبه المتعددة بلا شكّ لها طابع عالمي. وفق تقديرات صندوق النقد الدولي، أصبحت الأحداث التي بدأت 24 شباط/فبراير 2022 على الأراضي الأوكرانية أحد العوامل الرئيسية التي تعوق تعافي الاقتصاد العالمي من الأزمة الناجمة عن جائحة فيروس كورونا.
ويبدو أنَّ الصراع في أوروبا أصبح حافزاً لتفاقم الأزمات في مناطق أخرى من العالم. ومما يثير القلق بشكل خاص، العواقب المحتملة للصراع في أوروبا على المناطق غير المستقرة بشكل مزمن، والوجود العسكري والسياسي الروسي المؤثر، كالشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فضلاً عن الدول الأخرى الهشة للغاية في القارة الأفريقية. وهناك ما يكفي للاعتقاد بأننا سنشهد في الأشهر المقبلة تصعيداً جديداً للأزمات السياسية الإقليمية والمحلية.
تتضمَّن تقييمات الخبراء للعواقب الدولية الطويلة المدى للأزمة الأوكرانية مجموعة واسعة من السيناريوهات، بدءاً من التفاؤل إلى حد ما، وصولاً إلى الحديث صراحة عن نهاية العالم، لكن السؤال الأهم في رأينا: هل يمكن اعتبار الأزمة انحرافاً مؤسفاً للتاريخ، واستثناء للقواعد الراسخة التي تحكم بشكل عام نظاماً عالمياً مستقراً، ووهجاً عشوائياً على شاشة الكمبيوتر، أو أننا بتنا أمام تثبيت الاتجاهات التي ستحدد المسار العام للتطور العالمي في المستقبل المنظور؟
بمعنى آخر، هل سيعود العالم إلى حالته الطبيعية إلى حد ما بعد انتهاء المرحلة الحادة من الصراع الروسي الأوكراني أو أن النظام الدولي تجاوز نقطة اللاعودة، ولن تعود حياتنا إلى سابق عهدها؟
هذه الأسئلة موجودة في النقاشات الجارية حول المستقبل المحتمل والمطلوب لجميع أبعاد النظام الدولي، بما في ذلك قضايا الأمن والاقتصاد والمالية والقانون الدولي والتفاعل الاجتماعي والإنساني العابر للحدود وتعاون الدول في حل المشاكل العالمية. وبما أنَّنا نشهد المرحلة الأولى فقط من الأزمة التي أثارها الصراع في أوروبا، فإنَّ الاختلافات في تقييمات مراحلها اللاحقة كبيرة للغاية.
لتحليل التأثير المحتمل للنزاع الروسي الأوكراني في نظام العلاقات الدولية، يجب إبداء تحفّظين مهمين. أولاً، لا يزال التصعيد بعيداً عن نهايته. وفي الدول الغربية، يقولون ويكتبون عن أن هذا الصراع يمكن أن يستمر بشكل أو بآخر لعدة أشهر، وحتى لسنوات. وبناء عليه، ستتراكم التداعيات الدولية مع مرور الوقت.
ثانياً، يدور الصراع بين موسكو وكييف على خلفية أزمات واضطرابات أخرى مهمة ليست أقلّ أهمية، كعدم انتهاء جائحة فيروس كورونا بالكامل، وتفاقم العلاقات الأميركية الصينية، وتغيير النظام السياسي في أفغانستان، وعدم الاستقرار في منطقة الساحل الأفريقي، والحرب الأهلية في اليمن، وتكثيف برنامج الصواريخ النووية لكوريا الشمالية، وغيرها.
ويبدو من الإنصاف تحديد 3 سيناريوهات محتملة على الأقل للتحول المستقبلي للنظام الدولي بعد الأزمة، يمكن وصفها مبدئياً بالترميم والإصلاح والثورة. ويمكن للمرء أن يجادل في احتمال تنفيذ أي من هذه السيناريوهات، ولكن لكلٍّ منها منطقه الخاص، ومجموعة الحجج الخاصة به، وفهمه للعمليات التي تحدث في العالم، وتصوراته الخاصة للآفاق القصيرة والطويلة الأجل لتطور النظام الدولي، وأيضاً المجتمع العالمي.
الترميم
يفترض سيناريو الترميم أن الأزمة الحالية سيتم حلها بطريقة أو بأخرى وفقاً لشروط الولايات المتحدة وحلفائها، لأن أي خيار تسوية آخر ستكون له عواقب مؤسفة ولا رجعة فيها بالنسبة إلى الغرب.
ويفترض أن يُجبر الجانب الروسي، عاجلاً أم آجلاً، على العودة إلى الوضع الذي كان قائماً قبل 24 شباط/فبراير 2022، من خلال سحب قواته من الأراضي الأوكرانية، من دون أن يحصل في المقابل على اعتراف لا لبس فيه بالوضع القانوني الدولي الجديد لشبه جزيرة القرم والدونباس.
ستستمر العقوبات ضد روسيا لفترة طويلة. وعلاوة على ذلك، ستصل إلى مستوى جديد متزايد من كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. يفترض هذا السيناريو أن الغرب سيخرج من الصراع أقوى مما كان عليه في أي وقت في التاريخ منذ نهاية الحرب الباردة، ولن تكون وحدة الدول الغربية، المكتسبة حديثاً خلال الصراع على أراضي أوكرانيا، ظرفية، بل استراتيجية، أي أنها ستبقى بعد نهاية المرحلة الحادة من الأزمة الروسية الأوكرانية، وستبقى أيضاً خلال الفترة الأولى لإدارة جو بايدن، وستتجاوز اختبار الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة في تشرين الثاني/نوفمبر 2024.
كجزء من سيناريو الترميم، ستساعد الأزمة الأوكرانية على جلب الجزء الرئيسي من العالم غير الغربي إلى التحالف الغربي تحت قيادة الولايات المتحدة، معيدة النظام الدولي بهذا الشكل إلى "أحادية القطب"، وتعديله ليناسب الظروف الجيوسياسية والجغرافية والاقتصادية التي تغيرت على مدى ربع قرن.
كما أن قواعد القانون الدولي، العامة والخاصة، لن تتعرض لأية تغييرات جوهرية، ولن تصبح شيئاً من الماضي، ولكن سيتم استكمالها بـ"نظام قائم على القواعد"، بما في ذلك التطبيق الانتقائي لمعايير عالمية معينة تعتمد على المصالح السياسية الآنية للولايات المتحدة وحلفائها.
سيبقى الغرب، الذي يمثله الاتحاد الأوروبي في المقام الأول، المصدر الرئيسي لمعايير القانون الدولي الجديدة. أما المشاركون الآخرون في السياسة العالمية، فسيُجبرون، بطريقة أو بأخرى، على التكيف مع الدور القيادي للولايات المتحدة والغرب في "النظام العالمي" القائم على هذه القواعد.
إن متانة "ترميم النظام العالمي" على المدى الطويل، إذا أمكن إنشاؤه أصلاً، تثير شكوكاً جدية. نظراً إلى موازين القوى المتغيرة في العالم وتراكم المشاكل الداخلية في الغرب، فإن هذا "الترميم" سيكون هشاً. وبشكل أو بآخر، ستتم إعادة تشكيله. وعلى الأرجح، ستؤدي محاولات "الترميم" عاجلاً أم آجلاً إلى إصلاحه باتجاه إصلاح النظام السياسي والاقتصادي العالمي.
إعادة التشكيل
يعتمد سيناريو إعادة التشكيل (الإصلاح) على فكرة أنَّ من الممكن التوصل إلى تسوية سياسية بين موسكو وكييف، وكذلك بين روسيا والغرب، في المستقبل المنظور. وتستند التسوية السياسية إلى فهم القيادة الأميركية أن أوكرانيا لا تنتمي إلى مجال المصالح الحيوية الأميركية، وأن بكين، وليس موسكو، هي الخصم الاستراتيجي الرئيسي لواشنطن.
ينطلق مؤيدو هذا السيناريو أيضاً من فكرة أن الغرب، والولايات المتحدة في المقام الأول، يتحمل جزءاً من المسؤولية عن الأحداث التي تجري الآن في أوكرانيا. ويبدو أن مبادرة التسوية السياسية يجب أن تأتي في الدرجة الأولى من القيادة الأميركية.
وفق هذا السّيناريو، يتم الاعتراف بالوضع المتغير لشبه جزيرة القرم ودونباس من قبل كييف والعواصم الغربية، إن لم يكن بحكم القانون، فبحكم الأمر الواقع (مع خيار إجراء استفتاء في المستقبل تحت الرقابة الدولية على الوضع النهائي للمناطق المتنازع عليها)، وتؤكّد أوكرانيا رفضها الانضمام إلى الناتو مقابل ضمانات أمنية متعددة الأطراف وملزمة قانوناً.
في إطار هذا السّيناريو، يتمّ التوصل إلى اتفاق مقبول من قبل الأطراف بشأن معايير الترسانة العسكرية لأوكرانيا، ونظام تدابير بناء الثقة العسكرية على الحدود الروسية الأوكرانية. ويتم جزئياً رفع العقوبات المفروضة على روسيا من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وتتفق روسيا والغرب على إجراءات موازية أو حتى مشتركة لإعادة الإعمار (بعد انتهاء الصراع) في كل من دونباس وأوكرانيا.
يفترض هذا السيناريو أنَّ الأزمة الأوكرانية يمكن أن تكون حافزاً لبدء عملية تعديلات كبيرة طال انتظارها داخل النظام الدولي، ولكن لسبب أو لآخر تم تأخيرها أو تخريبها من قبل النخب السياسية والاقتصادية في الولايات المتحدة والغرب ككل.
لن تنتهي المواجهة بين الغرب وروسيا بالتوصل إلى حل وسط بشأن أوكرانيا، بل سيتم اعتبار موسكو عامل التحدي الرئيسي للأمن الدولي من قبل الولايات المتحدة وأوروبا.
لذلك، يجب أن تدفع الأزمة الولايات المتحدة إلى تقديم تنازلات إضافية لمصلحة الصين والجنوب العالمي، من أجل ضمان ولاء نسبي على الأقل للاعبين غير الغربيين في السياسة والاقتصاد العالميين في المواجهة بين واشنطن وموسكو.
ويفترض خيار "الإصلاح" أنَّ العزلة الدولية الطويلة الأمد لروسيا ليست مستحيلة فحسب، ولكنها لا تلبي أيضاً المصالح الاستراتيجية للغرب. ووفق هذا السيناريو، ستبقى روسيا في وضع العزلة الجزئية لبعض الوقت، لكن ستتم مسامحتها تدريجياً، وتعود إلى معظم المنظمات والأنظمة الدولية.
بعد انتهاء المرحلة الحادة من الصراع الروسي الأوكراني، سيتعين على المسؤولين في الغرب أن ينطلقوا من حقيقة أن تغيير النظام السياسي في موسكو في المستقبل المنظور لا يمكن اعتباره هدفاً واقعياً للغرب. علاوةً على ذلك، فإنه لا يلبي بالضرورة المصالح الغربية. ستتم عودة روسيا إلى "التيار الرئيسي الدولي" في المقام الأول من خلال اندماجها في الأنظمة الآسيوية (الأوراسية) المتعددة الأطراف.
سيصبح هذا التكامل أمراً طبيعياً، نظراً إلى أن الكرملين سيربط روسيا بشكل متزايد بالأنظمة السياسية الآسيوية غير الليبرالية. ومع ذلك، إنّ التكاليف الطويلة الأجل للصراع مع أوكرانيا ستبقي نفوذ موسكو الدولي تحت السيطرة لفترة طويلة قادمة.
كما أنَّ المطالب بدور "القطب الثالث" للسياسة العالمية (إلى جانب الولايات المتحدة والصين) سيتم تأجيلها لفترة طويلة، وسيزداد اعتماد روسيا على الصين، على الرغم من محاولات تصدي الغرب لهذا التوجه.
من الواضح أنَّ إصلاح النظام الدولي قادر على أن يكون أكثر استدامة واستقراراً من خيار ترميم النظام العالمي القديم، لكنَّ كثيراً من الأمور تعتمد على الكيفية التي ستجري بها إصلاحات النظام العالمي في المجالات التجارية والاقتصادية والنقدية والمالية والعسكرية والسياسية وغيرها. يمكن للنظام القائم على سيناريو الإصلاح أن يتطور نحو ثنائية القطبية الجديدة الصلبة أو الناعمة أو تعدد الأقطاب الأكثر تعقيداً (تعددية مركزية)، مع دور متزايد تدريجياً للجهات غير الحكومية في السياسة العالمية.
الثورة
يعتمد سيناريو الثورة على فكرة عدم إمكانية التوصل إلى اتفاق لإنهاء الصراع في أوكرانيا وحولها، سواء بين موسكو وكييف أو بين روسيا والغرب، فالقوات المسلحة الروسية لن تنسحب من الأراضي التي سيطرت عليها، سواء في الدونباس أو في أي مناطق أخرى في أوكرانيا، وستُبذل محاولات مستمرة لإنشاء "جمهوريات شعبية" جديدة خارج حدود دونيتسك ولوغانسك.
سيتمّ تأجيل قضايا إعادة الإعمار بعد الصراع في دونباس وأوكرانيا إلى أجل غير مسمى، وستزداد تكاليف الصراع بالنسبة إلى روسيا حتماً بمرور الوقت، ما يثير التّساؤل عن الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في البلاد.
وستتحوّل أوكرانيا تدريجياً إلى نقطة انطلاق لنزاع مسلح مزمن بين الشرق والغرب، مع اختبار دوري للقدرات العسكرية لبعضهما البعض. أوكرانيا "ما بعد الحرب" قادرة على أن تصبح مركزاً دولياً متقدماً للراديكالية اليمينية الأوروبية، يمارس تأثيراً ملحوظاً في قوى مماثلة في جميع أنحاء القارة.
ومع ذلك، إذا كان من الممكن أن يتطور توازن متأرجح بين الأطراف في الصراع الأوكراني، فإنَّ التوازن في السياسة العالمية ككلّ سيضطرب حتماً. يفترض هذا السيناريو، خلافاً لما ورد أعلاه، حصول تحول أكثر جذرية وفوضوية في النظام الدولي في السنوات القادمة. إنَّ الثورة في السياسة العالمية تعني عملياً الانهيار الكامل للنظام العالمي القائم، بما في ذلك أبعاده الاقتصادية والمالية والعسكرية والاستراتيجية والجيوسياسية.
في هذه الحالة، لن يكون ممكناً الحفاظ على وحدة الغرب لفترة طويلة. بعد وقت قصير جداً من انتهاء المرحلة النشطة من الصراع الروسي الأوكراني، ستظهر التناقضات عبر الأطلسي في المقدمة مرة أخرى، ولن ينظر إلى الاستراتيجيّة الأميركيّة في سياق الصراع بأنها ضمان للنجاح النهائي، ولكن كطريق إلى هزيمة حتمية ودليل على الضعف والفشل الاستراتيجي للقيادة الأميركية الحالية.
كما يتضمّن سيناريو الثورة احتمالاً كبيراً لتفاقم المواجهة الأميركية الصينية في شرق آسيا وجنوب شرقها. وبطريقة أو بأخرى، سيتم إقحام حلفاء الولايات المتحدة الأوروبيين فيها.
في مثل هذا السيناريو، ستبدأ نزعات "الطرد المركزي" بالظهور بشكل أكثر وضوحاً داخل الاتحاد الأوروبي بين الأعضاء الجنوبيين والشماليين، وبين أوروبا "القديمة" و"الجديدة"، وبين البلدان الكبيرة والصغيرة، وبين مؤيدي تعميق التكامل و"المتشككين في أوروبا"... ستظل الولايات المتحدة أيضاً مجتمعاً منقسماً إلى حد ما، الأمر الذي سيعوق حتماً السعي وراء استراتيجية متسقة وطويلة المدى للسياسة الخارجية.
إنَّ التدهور المستمر للمنظمات الدولية - العالمية والإقليمية - سيتسارع أكثر، فلن يصبح العالم مجزأ فحسب، بل سيصبح مفتتاً أيضاً. ولوقت طويل، يجب نسيان العولمة كظاهرة معقدة للتنمية الاجتماعية، فأبعادها، كالتجارة الدولية والاستثمار الأجنبي المباشر والسفر الدولي، ستصاب بالركود في أحسن الأحوال. وفي أسوأ الأحوال، ستميل نحو التراجع. يفترض سيناريو الثورة أيضاً أنَّ الصراع الروسي الأوكراني سيكون له تأثير مدمر في الجهود المبذولة لتنفيذ البرنامج العالمي لانتقال الطاقة.
وسيؤدي انهيار النظام الدولي الحالي إلى تكوين جيوب كبيرة من عدم الاستقرار المزمن في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وجنوب آسيا وأجزاء أخرى من الكوكب. سيتعين على موسكو البحث عن خيارات لتقليل المخاطر والتحديات في الفوضى المحيطة التي ستلي ذلك، وسيتراجع الصراع مع كييف حتماً إلى خلفية السياسة العالمية في سياق اشتباكات مسلحة جديدة، وربما أكبر وأكثر دموية.
إنَّ النظام الفوضوي الذي ينشأ على أساس سيناريو الثورة غير مستقر بشكل أساسي، لأنه لا يترك مجالاً للتنمية الاجتماعية والاقتصادية المستدامة للدول على حدة أو الإنسانية ككل. ستنتهي الثورة في العلاقات الدولية في نهاية المطاف، مع تغيير في النظام العالمي ينقل البشرية إلى مستوى جديد من الإدارة العالمية، لكن ثمن هذا التحول قد يكون عدة حروب دامية وأزمات اقتصادية ومالية حادة وصدمات أخرى.
من بين الخيارات الثلاثة الموضحة أعلاه لتطوير النظام الدولي بعد نهاية المرحلة الحادة من الصراع الروسي الأوكراني، يظلّ سيناريو الترميم هو الأكثر خطورة وتكلفة بالنسبة إلى موسكو.
ومع ذلك، إنَّ احتمال تنفيذ هذا السيناريو بالكامل يبدو غير مرجح؛ فالرهانات الروسية في الصّراع أكثر أهمية من الرهانات الغربية، وبالتالي إن استعداد روسيا للتصعيد أعلى من استعداد خصومها.
قد يبدو سيناريو الثورة أكثر قبولاً، وحتى مفيداً لموسكو. ومع ذلك، إنّ هذا السيناريو، الذي يعلّق عليه بعض المحللين الروس آمالاً كبيرة، لا يكاد يتوافق مع المصالح الوطنية الطويلة الأجل؛ فـ"اللعب بلا قواعد"، في ظروف تأخر اقتصادي وتكنولوجي كبير للبلاد عن منافسيها الرئيسيين، سيؤدي إلى إرهاق قوى وانتقال قسري إلى "العصبة الثانية" للسياسة العالمية. من نواحٍ عديدة، قد يكون ضعف روسيا في عالم تسوده الفوضى والتعسف أكبر من ضعف خصومها.
ومع ذلك، إنَّ سيناريو الثورة في حد ذاته لن يكون قادراً على تحديد مستقبل النظام العالمي لأي فترة زمنية، لأنه لا يحتوي خوارزميات مقنعة لحلِّ المشكلات الملحة للتنمية العالمية. بدلاً من ذلك، ستصبح الثورة مجرد مرحلة وسيطة في إعادة تنظيم الكواكب، إذ سيتبع الانهيار حتماً "إعادة جمعٍ" للأجزاء المتبقية من النظام العالمي القديم و"استكمال" شظاياها الجديدة. وبالتالي، لن يشكل الترميم والثورة بدائل للإصلاح. وحده النظام العالمي بعد إصلاحه لديه فرصة للعمل بنجاح لفترة طويلة.