يسميه الفلسطينيون المقيمون في مدينة البيرة "حي الجنان"! لكنه اسم لِعين ماء تُدعى "عين جنيم" أخذت اسمها من قرية توراتية قديمة تحمل الاسم نفسه. وقرية "عين جنيم" مذكورة لدى أوسبيوس، أحد كبار أساقفة قيسارية (القرن الرابع للميلاد)، وهي واحدة من القرى القريبة من بيت إيل التوراتية. وعلى ما يبدو، عندما جاء الفلسطينيون، أقاموا على أنقاض البئر منتزهاً فيه ألعاب للأطفال! [بالقرب من جامع العين]. على بعد عدة مئات من الأمتار إلى الشرق من هذه العين، تبدأ حدود المنطقة المصنفة "ج" التي بداخلها أقيمت مستوطنات للصهيونيين المتدينين، أهمها بساغوت، التي تحتوي بداخلها "خربة بيسيا". هذه الخربة هي أنقاض لقرية كنعانية قديمة أقيمت عليها لاحقا قرية عبرية إبان فترة الهيكل الأول والهيكل الثاني وصولا إلى العصر البيزنطي. ويمكن رؤية الخربة الكنعانية وشواهدها العبرية من خلال بقايا المباني وكهوف الدفن. وعلى ما يبدو، فإن كل الدلائل تشير إلى أن القرية العبرية المقصودة هي قرية "هاعي"، وهي ثاني قرية سيطر عليها يشوع بن نون في "يهودا والسامرة"، وتقع على الطريق بين "يريحو" [أي مدينة القمر، من يريح، أو أريحا] وبين بيت إيل.
هذا الوصف التوراتي لجغرافيا الضفة الغربية نجده في تطبيق الخرائط والملاحة المسمى "عامود عنان"، وهو أحد أهم التطبيقات التفاعلية المستخدمة من قبل المستوطنين في الضفة الغربية لنسج صلات روحانية، قومية وسياحية، مع الجغرافيا الفلسطينية.
تستعرض هذه المقالة هذا الموقع الإلكتروني، وظيفته، واستخداماته الإسرائيلية، بالإضافة إلى دوره في إعادة كتابة تاريخ المكان وفق سردية صهيونية توراتية.
تطبيق "عامود عنان"
يعود اسم "عامود عنان" إلى فترة ضياع اليهود في صحراء سيناء، حيث أرسل لهم الله، خلال ساعات النهار، عموداً من السحاب (بالعبرية: "عنان" تعني سحابا) يمتد من الأرض وحتى السماء ليسير معهم ويرشدهم إلى طريقهم. ولم يكن لدى الصهيونيين التوراتيين ما هو أدل من هذا الاسم ليتم إطلاقه على تطبيق الملاحة والسياحة والذي يغطي كل "أرض إسرائيل" من البحر إلى النهر. فبينما أن تطبيق وويز (Waze) الشهير، الذي بدأ كتطبيق إسرائيلي قبل أن يتم بيعه إلى شركة غوغل، هو تطبيق ملاحة للسائقين ويمكن استخدامه في الطرقات العامة والشوارع، فإن تطبيق "عامود عنان" هو تطبيق يلائم أكثر السياحة التوراتية. والقائمون على التطبيق يعرفون مهمته كالتالي: "تقديم خرائط لأرض إسرائيل، وإنشاء موسوعة جغرافية على الإنترنت، تكون متاحة للجمهور بشكل مجاني ولتكون أداة للمسافرين والطلاب ومحبي أرض إسرائيل". ويقدم التطبيق أنواعا عدة من الخرائط لأرض إسرائيل، أهمها خرائط بلدية (وهي تبين حدود كل مجلس بلدي أو قروي بما في ذلك المستوطنات) وخريطة قمر صناعي (تبين التضاريس الجغرافية)، وخريطة PEF (وهي اختصار لصندوق استكشاف فلسطين Palestine Exploration Fund) وهي خرائط تعود إلى العام 1880. وعلى الخرائط هناك مئات الآلاف من الإشارات الزرقاء التي وضعها المستخدمون بشكل تفاعلي، لتشير إلى مواقع ملفتة. والمواقع المقصودة هي مواقع سياحية في طبيعتها، لكنها أيضا توراتية في أصلها، وتشمل آباراً، كهوفا، خربا، قرى مدمرة، قلاعا، نباتات كنعانية، مطلات، شوارع، عيون ماء، أحراشا وغيرها. وفي كل "موقع ملفت"، هناك شرح مقتضب يعيد أصل المكان إلى التوراة، ويسعى إلى خلق رابطة صهيونية قومية ما بين الجغرافيا و"شعب إسرائيل".
تم إنشاء التطبيق في العام 2004، وتم عرضه للاستخدام العام في العام 2007. وتم تطوير التطبيق من قبل المستوطن يوآف روفا، الذي قال في معرض تسويقه للتطبيق إنه يريد أن يخلق ارتباطاً بين الطلاب والصغار الذي يتجولون في أرض إسرائيل والجغرافيا نفسها، "فعادة لا يدرك المتجولون الصهيونيون أين هم في أرض إسرائيل، وما هي المواقع التي تمتد على طول المسار الذي يسلكونه" في المقابل، يوفر التطبيق ليس مجرد خرائط صماء، وإنما يتيح شرحاً توراتياً لكل المسار بحيث يدرك المتجول موقعه من كامل الرواية التوراتية التي لطالما نظرت إلى أرض إسرائيل كمكان عجّ في السابق بالأحداث العبرية، والمعارك، والاستيطان اليهودي، ومحاولات لبناء البلدات ومن ثم اعتداءات من الأغيار لتخريبها، وعيون المياه التي خدمت العبريين القدماء وغيرها. ومنذ العام 2014، يتوفر التطبيق على أجهزة android بالإضافة إلى أجهزة iOS. وفي آذار 2022، تم تحديث الخرائط من خلال إضافة طبقة ثلاثية الأبعاد تتيح للمتجولين، ومحبي المسارات، المرور بتجربة جديدة تبين الارتفاعات، التضاريس الجغرافية، بالإضافة إلى المعلومات التوراتية.
سياحة استعمارية في الضفة الغربية
أكثر ما يمكن أن يلفت الانتباه في هذا التطبيق، هو عدم اعترافه بالخط الأخضر، وتعامله مع كل البلاد كفضاء مفتوح للسياحة اليهودية، وكحيز واحد لا يتجزأ في خرائط التطبيق، تماما كما كان غير مجزأ في الرواية التوراتية القديمة. وبشكل خاص، فإن معظم أراضي الضفة الغربية هي أراض خالية، ومواقع طبيعية. فالمناطق الفلسطينية التي تحتوي على كثافة سكانية عالية تشكل فقط 12% من مساحة الضفة (مناطق "أ"). أما المناطق التي تحتوي على قرى فلسطينية فتشكل نحو 28% من مساحة الضفة (مناطق "ب"). وباقي المناطق (أي مناطق "ج") هي أراض واسعة تضم مستوطنات وتجمعات فلسطينية مبعثرة. هذا يعني أن منطقة "ج" تضم مساحات واسعة جدا، يسيطر على معظمها المستوطنون، والذين يعتبرونها أراضي توراتية جميلة يمكن التنزه بها. مثلا، يمتد شارع 458 بشكل حر في مناطق "ج" الواقعة بين الأغوار وجبال وسط الضفة الغربية. والشارع بطول 88 كم، ويبدأ من مفترق دوما- مجدل بني فاضل في الشمال، حتى منطقة الخان الأحمر جنوبا. الشارع يلتف بين قرى وبلدات عربية (تم تصنيفها كمناطق "ب" لكنها في معظمها تتوارى عن مرأى المارين بالشارع)، وعلى جانبي الشارع ثمة مئات من الكهوف، والمسارات السياحية الجبلية، التي تتلاءم مع كل أطياف محبي التجوال من المستوطنين. بعض هذه المسارات يصلح للدراجات الهوائية، والبعض الآخر للأطفال السائرين على الأقدام، وبعضها يحتوي على مواقع غير مألوفة، أو مخفية، بحيث أن مستخدم التطبيق يستطيع أن يشعر بالإثارة عند اتباعه التعاليم للوصول إلى بئر قديمة، أو حفرية، أو حتى أنقاض سور قديم مهدوم. ويقدم التطبيق، أيضا، خرائط للشراء، ومفتاح خرائط يشير إلى تنوع المسارات التي يمكن اكتشافها وسلوكها في الضفة الغربية.
كما أن التطبيق يلمح بشكل غير مباشر إلى خطر السكان "الآخرين" القاطنين داخل الضفة الغربية، وإن كان يخفيهم في العديد من المرات. مثلا، يحذر التطبيق من مفترق بيتين/DCO، وهو إذ يقول إنه مناسب أكثر للفلسطينيين حاملي بطاقات VIP، إلا أنه عادة ما يستخدم كنقطة متعارف عليها للاشتباك مع القوات الإسرائيلية، حسب التطبيق. ومع ذلك، فمستخدمو التطبيق يضعون العديد من العلامات الدلالية في عمق مناطق السلطة الفلسطينية، على ما يبدو، لكي لا تبدو الخارطة خالية من المناطق التوراتية والمسارات السياحية في المدن الفلسطينية ذات الكثافة السكانية. ففي حال تم تصغير الخارطة لإلقاء نظرة من الأعلى على كل أرض إسرائيل، فإن هذه المناطق (مناطق السلطة الفلسطينية) ستبدو، في حال كانت خالية من الإشارات، كمناطق بيضاء، كأنها خارج الرواية التوراتية ولا توجد فيها قصص وحكايات عبرية قديمة. لكن التطبيق لا يفعل ذلك، وإنما يقدم كل أراضي الضفة الغربية باعتبارها مساحات ذات إرث عبري مكثف، وإن كانت بعض المناطق "لا ينصح بدخولها حاليا". مثلا، في منطقة قريبة من قراوة بني زيد (وهي في مناطق "أ")، تم وضع إشارة تقول: تم ذكر هذه المنطقة في "المشناه" لأنها تقع بين كاروت بني حسن [وليس قراوة بني حسن!] وكاروت بني زيد. والكاروت بالعبرية، على ما يبدو، تعني "ممر"، وكانت هذه الممرات تسمى قديما "ألفا لاين"، أي الممر الذي منه يتم جلب أجود أنواع النبيذ إلى الهيكل، كما هو مذكور في المشنوت الثامن والسادس (في المشناه). وعلى الرغم من عدم قدرة الإسرائيليين على الذهاب إلى هذه المنطقة حاليا، فإن الأمر لا يجب أن يعني، من وجهة نظر رواد التطبيق، أن تبقى خارج الرواية التوراتية التي يتم استدعاؤها لفهم المكان.
وينطلق التطبيق من مبدأ استعماري نموذجي يتم من خلاله رفد الاستيطان الزاحف للأراضي الفلسطينية بطبقة أيديولوجية تعيد تشكيل ذاكرة المكان وتصيغها لتتناسب مع المستوطن الجديد ولا تترك متسعاً للسكان الأصلانيين الذين سيبدون وكأنهم "غزاة"، أو عابري سبيل "ثقيلي الدم" أطالوا إقامتهم في مكان لا يشبههم. فالتفاصيل التي زودها رواد التطبيق لكل "منطقة ملفتة" في أراضي الضفة الغربية (لكن أيضا في كامل أرض فلسطين)، تدل على المدى الذي قطعه مشروع الاستيطان في أثناء انتقاله من استيطان "أمني" حسب الرواية الإسرائيلية التي أعقبت الاحتلال عام 1967، إلى استيطان عقائدي توراتي. واليوم يعد هذا التطبيق من أكثر التطبيقات استخداما، خصوصا من قبل سائقي الدراجات الهوائية والنارية، والمتنزهين الإسرائيليين، ومجموعات السير الطلابية والمخيمات الشبابية التابعة للشبيبة الاستيطانية.