• اخر تحديث : 2024-12-25 15:52
news-details
مقالات عربية

بعض الأصوات الإسرائيلية الصافية: المشكلة كانت وستظل كامنة في العقيدة الصهيونية!


بأصوات ما زالت قليلة، كي لا نقول معدودة، لكن شديدة الصفاء وبالغة الدلالة، تتواتر في إسرائيل في الآونة الأخيرة دعوة إلى التحرّر من العقيدة الصهيونية، بوصف ذلك الطريق الأنسب لمعالجة أهم أسباب استمرار الصراع مع الفلسطينيين، كما سنوضّح في سياق لاحق.

وهي دعوة أتت، بادئ ذي بدء، في الأعوام القليلة الفائتة، على خلفية سنّ "قانون القومية" الإسرائيلي في العام 2018، وتنامت أكثر فأكثر في ظل الأزمة الحكومية التي شهدتها إسرائيل تحت تأثير محاولات وضع حدّ لعهد حُكم بنيامين نتنياهو، وأسفرت في نهاية المطاف عن تأليف حكومة جديدة ضم ائتلافها لأول مرة حزباً عربيا- إسلامياً، ما أجّج مواقف عنصرية.

ما ينبغي قوله أيضاً في هذا السياق، أن هذه الدعوة موجهة في الوقت عينه إلى جهات تحاول إعادة إنتاج العقيدة الصهيونية عبر تجميل صورتها، في مواجهة آخر مظاهر التطرّف والتوحش، كما تنعكس في الوقت الراهن على سبيل المثال في الأراضي المحتلة منذ 1967 وفي القدس، على أساس الادعاء أن ما وقف وراءها هو حركة قومية علمانية سعت لتحرير اليهود من ظلم الشتات، منطلقة من علمنة الديانة اليهودية، من ضمن أمور أخرى.

في الأحوال جميعاً فإن أهمية هذه الأصوات تكمن في أنها تقرأ على نحوٍ صائبٍ جوهر العقيدة الصهيونية. وفي واقع الأمر فهي تعيد إلى الأذهان ماهية قراءات سابقة لها، ولا سيما تلك القراءات التي تزامنت مع انطلاقها، وبالأساس من طرف حركة "البوند".

هناك الكثير من الشواهد على ما ذكرت ولا يسمح المجال للتوقف عندها جميعها، وهي بالتأكيد تحتاج إلى وقفة أو وقفات أخرى. وأكثر ما يهمنا هو ما تخلص إليه من تبصرات أو استنتاجات فكرية. وسأكتفي بالإشارة إلى اثنين من هذه الاستنتاجات، وهما استنتاجان متصلان: الأول، أن العقيدة الصهيونية لم تُلطّخ تحت وطأة الاحتلال في 1967 فقط بل ولدت ملطخة في الأصل، وأن احتلال ذلك العام هو استمرار مباشر للنكبة الفلسطينية في العام 1948؛ الثاني، أن الطريقة الوحيدة لإنهاء الكولونيالية والأبارتهايد هي النضال ضد إسرائيل وضد الصهيونية، وليس التحالف معهما من أجل "تخفيف حدّة" تطرفهما أو "صوغ" طابعهما. ينطوي هذا الاستنتاج على رسالة موجهة بالأساس إلى من يصفون أنفسهم بأنهم "يسار صهيوني" فحواها أن لفظتي اليسار والصهيونية "أوكسيمورون" فاقع!

عند هذا الحدّ يجدر أن نستعيد أن من بين ما ترتب على الجدل بشأن "قانون القومية" الإسرائيلي، الذي تم تشريعه العام 2018 كما ذكرنا أعلاه، عدة محاولات تمحورت بشكل عامد حول تأطير الحركة الصهيونية، انطلاقاً من قاعدة التأصيل والمآل. ومع أن النتائج الناجزة لأغلب تلك المحاولات لم تُصب الهدف المطلوب وانهمكت بقدر متفاوت من التطييف، فإن بعضها تميّز بأنه وضع الأمور في نصابها، على غرار ما فعل كثيرون ممن سبقوه، منذ تأسيس هذه الحركة في أواخر القرن التاسع عشر.

وداخل هذا البعض سبق لنا أن توقفنا، مرّات عدّة، عند عدد من الأصوات الأكثر صفاء برأيي، وعلى وجه الخصوص صوت الأكاديمي نيف غوردون، والأكاديمي عيدان لنداو، وكلاهما من جامعة بئر السبع.

فالأول كتب بصريح العبارة أن الفكرة الصهيونية هي رديف التهويد، ونقيض الحرية والمواطنة المتساوية. وجزم بأنه حان الوقت للانفصال عن الصهيونية والتمسك بكل قوة بالأيديولوجيا التي تدفع بالمساواة قدماً، وشدّد على أنه لا ينبغي بالمرء أن يكون راديكالياً حتى يصل إلى مثل هذه الخلاصة، بل يكفي أن يكون ليبرالياً مستقيماً وعادلاً.

وقد أوضح غوردون، في سياق جدل خاضه مع إحدى طالباته على صفحات جريدة "هآرتس"، أن الأيديولوجيا الصهيونية، في جوهرها الحقيقيّ، تنصّ على أن الجماعة الإثنية اليهودية تمتلك حقوقاً زائدة في البلد (فلسطين)، بما في ذلك الحق في السيطرة على منظومات القوة السياساتية. ومن أجل ضمان مثل هذا الأمر وعلى مدار كل الأعوام المنصرمة منذ النكبة الفلسطينية في العام 1948، كان الصهاينة بحاجة إلى أن يقوموا بممارسات آثمة كثيرة، تشمل من بين ما تشمل تهويد الحيّز بواسطة اقتلاع سكان المكان الأصلانيين وتركيزهم في مناطق صغيرة وذات كميات أرض محدودة، وترتيب منظومة العلاقات بين الجماعات المتعددة في المجتمع الإسرائيلي بشكل يكون فيه المواطنون اليهود هم المسيطرون بالمطلق والمواطنون الفلسطينيون هم الخاضعون إلى السيطرة.

ويشير غوردون إلى أن كتاب "العقد الاجتماعي" لجان جاك روسو هو أحد أهم الأسفار الفكرية التي كُتبت في عصر النهضة والتنوير في الغرب، وقد جرى استهلاله بالكلمات التالية: "يولد الإنسان حُرّاً، ويوجد الإنسان مُقيّداً في كل مكان"، وربط فيه بين الحرية والمساواة. وقد شرح روسو أن حرية الإنسان مرهونة بالمساواة الأساسية في المجتمع، وعندما تكون لجماعة ما حقوق زائدة فإن الجماعة الأخرى تفقد ليس حقوقها فحسب إنما أيضاً تُصادر حريتها. وبناء على ذلك، حسبما يؤكد غوردون، عندما تقوم الصهيونية بالتضحية بمسألة مساواة المواطنين الفلسطينيين على مذبح "مشروعها القومي" فإنها لا تصادر منهم المساواة فقط بل وتسلبهم حريتهم أيضاً. وفي ضوء هذا فإن الاستنتاج المنطقيّ هو أن اختيار أي مواطن إسرائيلي الصهيونية كعقيدة يعني بصورة آلية قبوله التضحية بقيمتي المساواة والحرية لكل من هو غير يهوديّ. وفي قراءته فإن محاولة الصهاينة، الذين يُعرّفون أنفسهم بأنهم ليبراليون، أمثال أنصار حزب ميرتس، أن يرفعوا في الوقت ذاته رايتي الصهيونية والديمقراطية الليبرالية لا تعدو كونها أكثر من مجرّد وهم.

ويتابع غوردون أنه وفقاً لما يؤكد عليه روسو، فإن التنازل عن الحرية مثله مثل التنازل عن الإنسانية، وعن الحقوق والواجبات المكفولة لكل إنسان لمجرّد كونه إنساناً. ونظراً إلى أن كل عقد اجتماعي يقوم على أساس توزيع معيّن لحقوق مواطني الدولة وواجباتهم، وإلى أن الإنسان المنزوع الحرية هو مواطن من دون حقوق وواجبات، فإن المواطنين الفلسطينيين في أراضي 1948 لا يمكنهم أن يكونوا شركاء حقيقيين في العقد الاجتماعي الإسرائيلي. وكما يؤكد تقتضي الاستقامة الفكرية القول إن المواطنين الفلسطينيين بالنسبة إلى الصهيونية، بما في ذلك التيارات الليبرالية، هم لا أكثر من عائق أو مصدر إزعاج.

أمّا لنداو فأكد أن "الأبارتهايد الإسرائيلي"، كما يصفه، هو "جزء حيّ منّا، من تكويننا. وليس فقط أن لغالبية الإسرائيليين حصة فيه ودوراً، وإنما هي تستفيد منه أيضا"! ولذا فـ "من الصعب التجنّد ضده، لأن النضال ضده يعني، في الوقت ذاته، النضال ضد مجتمعك، ضد أقاربك، وأحيانا كثيرة ـ ضد نفسك أنت، أو ضد أجزاء من شخصيتك"!

وعلى ذكر ما تتسبّب به العقيدة الصهيونية من تضحية المنضوين تحت لوائها بقيمتي الحرية والمساواة، لا بُدّ من أن نشير كذلك إلى أن الشاعر والأديب اليوناني نيكوس كازانتزاكي نشر في العام 1927 مقالات في صحف يونانية كانت تصدر في مصر اشتملت على انطباعاته من رحلة قام بها إلى فلسطين لحضور أعياد الميلاد هناك، ومن ضمن ما تضمنته عبارات وجهها إلى فتاة يهودية تبنّت الصهيونية ورد فيها: "لقد بدأتِ بفقد حريتك، وتقييد نفسك، وتضييق مساحة قلبك، الذي أصبح الآن يميّز ويفرّق ويختار ولا يتقبّل سوى اليهود... ويجب أن تشعري بالخطر!".