مع اقتراب تصويت رئيسي في الأمم المتحدة حول مستقبل آلية توفير المساعدات عبر الحدود لشمال غرب سوريا، من الضروري أن تعمل واشنطن على الضغط على تركيا لكي تساعد في تعزيز اقتصاد متنوع ومتوازن في تلك المنطقة التي تسيطر عليها «هيئة تحرير الشام».
في 10 تموز/يوليو، ستقرر عملية التصويت في الأمم المتحدة مستقبل آلية توفير المساعدات عبر الحدود لشمال غرب سوريا، وهي منطقة تديرها الجماعة الجهادية «هيئة تحرير الشام». وتواجه الآلية، التي تسهّل تقديم المساعدات إلى شمال غرب سوريا عبر تركيا دون الحاجة إلى المرور عبر دمشق، احتمال عدم تجديدها للمرة الأولى منذ إنشائها في عام 2014، كنتيجة للغزو الروسي لأوكرانيا. وسيؤدي عدم تجديد الآلية إلى تفاقم سوء الوضع الإنساني المخيف أساساً في شمال غرب سوريا، حيث أن حوالي ثلاثة أرباع السكان هم من النازحين داخلياً. وبينما سيستمر تأمين المساعدات على الأرجح بشكل أكثر محدودية بكثير إذا استخدمت روسيا حق النقض ضد الآلية، إلّا أنه من وجهة نظر الولايات المتحدة فإن زيادة الاعتماد على الذات في الأراضي التي تديرها «هيئة تحرير الشام»، الأمر الذي يتطلب قدراً أقل من المساعدات الدولية، سيكون في الواقع أفضل بكثير من الوضع الذي يظل فيه تجديد المساعدات خاضعاً للتغيرات الدورية في الأحداث.
وعلى مدى السنوات الست الماضية تقريباً، حوّلت «هيئة تحرير الشام» نفسها من فرع تابع لتنظيم «القاعدة» إلى ما يشبه هيئة حاكمة إقليمية تقليدية، حيث انخرطت الجماعة في انتهاكات حقوق الإنسان واعتنقت خطاباً تحريضياً. وبادئ ذي بدء، ركزت بشكل متزايد على تطوير المؤسسات المحلية والاقتصاد. وتم تسهيل التقدم الذي أحرزته الجماعة في الحوكمة، جزئياً، من خلال اتفاق وقف إطلاق النار بين تركيا وروسيا في آذار/مارس 2020، والذي أدى إلى حد ما إلى تجميد خط النزاع. ومنذ ذلك الحين، كرر زعيم «هيئة تحرير الشام» أبو محمد الجولاني التأكيد على القيمة التي يوليها للاكتفاء الذاتي وبناء نظام حكم ومجتمع جديد لا يعتمد على المساعدة الخارجية. وإذا اتبعت «هيئة تحرير الشام» و"حكومة الإنقاذ السورية" التي يقودها المدنيون أفكار الجولاني بالفعل، فقد يجد السكان المحليون سبلاً أخرى لدعم أنفسهم. ومع ذلك، يجب الإقرار هنا أن «هيئة تحرير الشام» لم تُقابِل خطابها النبيل بالجهود المبذولة لتطوير القدرات المحلية. وبدلاً من ذلك، عملت بجهود كبيرة لاحتكار القوة الاقتصادية.
المساعدات الخارجية مقابل التنمية الداخلية
في مقابلة أُجراها الجولاني في شباط/ فبراير 2021 ضمن برنامج "فرونتلاين"، ناقش الحاجة إلى "إنهاء الأزمة الإنسانية"، مما يعني أنه كان يقدّر ضرورة المساعدات الخارجية. لكن بعد حوالي عام، أشار في كانون الثاني/يناير 2022 إلى تفضيله بناء الاقتصاد من خلال تطوير البنية التحتية، والوظائف، وزيادة الإنتاج، مقابل تلقي المساعدات الإنسانية والدعم الخارجي. ثم استشهد الجولاني بالوضع البائس في البلد المجاور، موضحاً أن الوضع الاقتصادي في لبنان كان سيئاً للغاية "على الرغم من ترحيبهم بالمساعدات الأوروبية والغربية..." وقال: "إخواني، يجب أن نركّز على الإنتاج، الذي ننمي من خلاله الاقتصاد في المناطق المحررة". وتابع الجولاني موضحاً أن "الحرية تأتي من القوة العسكرية... والكرامة تأتي من المشاريع الاقتصادية والاستثمارية التي يعيش من خلالها الشعب والمواطنون حياةً كريمةً تليق بالمسلمين".
وأشار الجولاني عبر استخدامه مثل هذا الخطاب إلى إيمانه بالحلول المحلية المستدامة للمشاكل الاقتصادية التي تعاني منها «هيئة تحرير الشام»، وبتعزيز قوة تأثير السكان المحليين مقابل الاعتماد على نزوات الجهات الخارجية. وفي سياق متصل، كاستجابة لظروف البرد القارس الذي ساد مخيمات النازحين داخلياً في كانون الثاني/يناير الماضي، أطلقت إدارة الجولاني حملة "دفؤكم واجبنا". وأوضح الجولاني قائلاً: "نسعى جاهدين بكل قوتنا إلى إيجاد حلول جذرية لمعاناة الناس في الشمال المحرّر، دون الاعتماد على تلقي الإغاثة من هنا وهناك، وذلك عبر تمكين [السكان المحليين] من نيل قوتهم بعرق جبينهم".
وقد يعود تاريخ اعتناق الجولاني لمثل هذا النوع من التفكير إلى آب/أغسطس 2020، حين عبّر علناً للمرة الأولى، خلال زيارته إلى أحد مخيمات النازحين داخلياً، عن هذا الرأي معتبراً أن «هيئة تحرير الشام» يجب أن تسعى إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي كهدف نهائي، على أساس فكرة أن أي شخص سليم البنية يجب أن يكون قادراً على العمل وإعالة نفسه. وبعد بضعة أيام، في مخيم آخر للنازحين داخلياً، أقر الجولاني بأن «هيئة تحرير الشام» ليست "دولة كبيرة"، وأنها تتمتع بقدرة محدودة على مساعدة الناس، لكنّ ذلك لم يؤدي سوى إلى تعزيز الحاجة إلى الاكتفاء الذاتي الفردي والمبادرة.
وتشكل روح الاكتفاء الذاتي، وفقاً لتصريحات الجولاني في أيار/مايو 2021 وكانون الثاني/يناير 2022، عنصراً أساسياً من خطة أكبر تهدف إلى الاستيلاء في النهاية على السلطة في كل سوريا. وكما عبّر عن ذلك في أيار/مايو، فإن "المرحلة الحالية هي مرحلة إعداد وبناء المؤسسات". ويُعتبَر كل مشروع، كافتتاح طريق "حلب - باب الهوى" في كانون الثاني/يناير 2022، مشروعاً مهماً لأنه يشكل "خطوة نحو دمشق، وخطوة نحو حلب، وخطوة نحو باقي سوريا كلها بإذن الله عز وجل".
ووفقاً للجولاني، يتطلب تحقيق هدف كبير كهذا استثماراً في رأس المال البشري، مما سيعزز بدوره الإدارة المحلية والاقتصاد المحلي عبر تقديم خدمات أكثر ذكاءً. ولهذا السبب، أوضح الجولاني في أواخر آذار/مارس 2022 أن تطوير المنطقة هو "مشروع متكامل" وأن "كل شيء مرتبط بكل شيء آخر"، حيث قال: "بدون تعليم، ليس لدينا مدراء. وبدون مدراء، ليس لدينا بناء. وبدون بناء، ليس لدينا اقتصاد. وبدون اقتصاد، لا حياة لنا في [المناطق] المحررة. وبدون الحياة في المناطق المحررة... لا يمكننا حماية المنطقة [عسكرياً]". واعتباراً من أواخر تموز/يوليو 2021، تم تسجيل ما يقرب من 450,000 طالب في المدارس الابتدائية، وبحلول أواخر آذار/مارس 2022، كان 18,000 طالب مسجلين في الجامعات.
تمكين الخطاب مقابل احتكارات الدولة الناشئة
على عكس خطاب الجولاني الذي يبدو أنه يفضل ريادة الأعمال المحلية، تعمل «هيئة تحرير الشام» وأعضاؤها في الواقع على احتكار مختلف قطاعات الاقتصاد. فقد رسّخوا حصصهم في القطاعات التي تشمل التمويل والمعابر الحدودية والطاقة والإنترنت والإعلام والإعلان والاتصالات السلكية واللاسلكية والزراعة.
وقد اشتكى السكان المحليون من أن «هيئة تحرير الشام» نفّذت أيضاً شكلاً من أشكال الاستيلاء العام لصالح قادة الجماعة. فعلى سبيل المثال، في تموز/يوليو 2021، قررت «هيئة تحرير الشام» وهيئتها الحاكمة المدنية، أي "حكومة الإنقاذ السورية"، هدم البازار الشعبي في دارة عزة وتحويله إلى مركز تسوق، مما أثار احتجاجات محلية. وتم تنفيذ الخطة في النهاية على أي حال. كما يتدخل قادة «هيئة تحرير الشام» شخصياً في مشاريع البناء، نظراً إلى وقوع "حكومة الإنقاذ السورية" ضمن نطاق إدارة «هيئة تحرير الشام»، وباستطاعة مَن هُم في السلطة استغلال مثل هذه المبادرات لصالحهم وعلى حساب السكان العاديين. ووفقاً لخالد الخطيب، صحفي سوري ومحاضر سابق في "جامعة حلب" يكتب لموقع "المونيتور": "يتم تنفيذ غالبية العمليات والمشاريع الاستثمارية التي يملكها قادة «هيئة تحرير الشام» من خلال وسطاء مدنيين مقربين من القادة، الذين يعملون في الواجهة ويختبئ خلفهم المستثمرون الحقيقيون".
وفقاً لـ"مجموعة الأزمات الدولية"، ينمّي النشاط الاقتصادي الخاص بـ «هيئة تحرير الشام» "شبكة من السوريين في جميع أنحاء الشمال الغربي تعتمد على الجماعة ومنوطة ببقائها". وأثارت أسعار السلع، التي تسيطر عليها أيضاً «هيئة تحرير الشام» في ظل احتكاراتها، احتجاجات خاصة بها. فعلى سبيل المثال، في منتصف تشرين الأول/أكتوبر 2021، وبعد قيام شركة الوقود "وتد" التابعة لـ «هيئة تحرير الشام» بزيادة سعر أسطوانة الغاز للمرة الخامسة في غضون شهر، تجمّعَ السكان في "ساحة الساعة" في إدلب للتظاهر ضد هذا الابتزاز، مدركين تماماً صعوبة العيش حتى بدون ارتفاع الأسعار. ومن الشعارات الساخرة التي استُخدمت خلال هذا الاحتجاج: "والله يا إنقاذ بدك مين ينقذك".
علاقة واشنطن بالموضوع
في الوقت الحالي، ليس لدى الولايات المتحدة علاقة مع «هيئة تحرير الشام»، ولا تزال الجماعة مُصنَّفة كإرهابية من قِبَل وزارتي الخارجية والخزانة الأمريكيتين. إلّا أن لدى واشنطن مصلحة في تحقيق استقرار المناطق التي تسيطر عليها «هيئة تحرير الشام». وبالمثل، فإن تدهور الوضع الإنساني في شمال غرب سوريا لا يعود بالفائدة إلا على النظام السوري وحلفائه. لذلك، من المجدي على الأقل أن تضغط الولايات المتحدة على تركيا لمساعدة «هيئة تحرير الشام» في تطوير نظام اقتصادي أكثر نضجاً يقوم على تجربة أنقرة في المزج بين المبادئ الإسلامية والرأسمالية. وبهذه الطريقة، تستطيع أن توسّع دائرة المستفيدين الاقتصاديين في هذه الأراضي. ويمكن لمثل هذه الخطوة أيضاً أن تخفف العناء الذي سينتج على الأرجح إذا استخدمت روسيا حق النقض ضد استمرار آلية توفير المساعدات عبر الحدود في 10 تموز/يوليو. ومن منظور طويل الأمد، سيكتسب السكان المحليون أيضاً أدوات لتحقيق الازدهار من دون أن يدينوا بالفضل لعملية صنع القرار في «هيئة تحرير الشام»، وقد يتمكنون في نهاية المطاف من تحدي الحالة التي تُحكِم فيها الجماعة قبضتها على المجتمع.