• اخر تحديث : 2024-11-22 10:05
news-details
تقدير موقف

أصبحت أفريقيا مؤخراً ذات أهمية متزايدة بالنسبة لألمانيا. وقد أسهمت بعض العوامل والتحولات الكبرى في صعود القارة إلى قمة أولويات أجندة السياسة الألمانية، ولعل أبرزها اندلاع أزمة اللاجئين وهجرة الأفارقة إلى أوروبا في عام 2015، بالإضافة إلى تنامي النشاط الإرهابي وشبكات الجريمة المنظمة في أفريقيا، فضلاً عن رغبة برلين في القيام بدور أكبر في القارة الأفريقية بما يعزز من مكانتها الدولية. وقد تجلى تصاعد الاهتمام الألماني بأفريقيا في عدد من المستويات، الأمر الذي من شأنه أن يعزز النفوذ الألماني المستقبلي في القارة. فعلى سبيل المثال، تم إطلاق ميثاق مجموعة العشرين مع أفريقيا أثناء رئاسة ألمانيا للمجموعة لتعزيز الاستثمار الخاص في أفريقيا، خاصة في البنية التحتية. كما كانت أنجيلا ميركل أكثر انفتاحاً على قبول المهاجرين غير الشرعيين مقارنة بشركائها الأوروبيين.

ولم يكن مستغرباً أن تكون أول جولة خارجية للمستشار الألماني أولاف شولتس بعد أقل من خمسة أشهر على توليه منصبه إلى أفريقيا، ليس إلى آسيا أو أمريكا اللاتينية، وكانت جولته (خلال الفترة من 22-25 مايو 2022) مصممة بعناية، حيث شملت السنغال والنيجر وجنوب أفريقيا. وعلى الرغم من أن الحرب الأوكرانية شكلت الجانب المخفي من زيارة شولتس الأفريقية، فإن من بين الأهداف الأخرى هو استكمال ما بدأته انجيلا ميركل من أجل اللحاق بركب التدافع الدولي على أفريقيا.

عسكرة الدور

في النيجر، كان الأمن هو الموضوع الرئيسي في محادثات المستشار الألماني مع الرئيس محمد بازوم. حيث قامت ألمانيا، مثل القوى الأوروبية الأخرى، بنقل دعمها العسكري لمحاربة الجماعات الجهادية العنيفة إلى النيجر بعد أن أطاح المجلس العسكري بالحكومة المنتخبة في مالي المجاورة، وتبنى سياسات عدائية انتهت بطرد فرنسا من البلاد. رسمياً، يتم نشر 200 جندي ألماني في دولة النيجرالغنية بالموارد الطبيعية وذات الأهمية الجيوستراتيجية البالغة. ويقوم الجيش الألماني "البوندسفير" بتدريب القوات الخاصة النيجرية كجزء من عملية غزال، الجارية منذ عام 2018 في إطار مهمة بعثة الاتحاد الأوروبي للتدريب "EUTM".

وقد قرر البرلمان الألماني إنهاء مشاركة الجيش الألماني في هذه المهمة في دولة مالي المجاورة، التي تقودها حالياً حكومة عسكرية معادية لفرنسا والغرب. وسيستمر تدريب القوات الخاصة في النيجر الذي يعتبر ناجحاً حتى نهاية هذا العام، وما زالت المحادثات جارية حول كيفية استمرار مشاركة الجيش الألماني في المهمة. ومن المقرر أن يواصل الجيش الألماني المشاركة في مهمة "مينوسما" التابعة للأمم المتحدة في مالي، علاوة على ذلك فقد رفع البرلمان الحد الأقصى لعدد القوات المشاركة في المهمة إلى 1400 جندي.

ولا يخفى أن زيارة المستشار شولتس إلى نيامي تكتسب دلالة كبيرة، نظراً لأن حكومة الرئيس محمد بازوم المنتخبة ديمقراطياً في النيجر تتبع مساراً موالياً للغرب، كما أنها على عكس العديد من البلدان الأفريقية الأخرى، عارضت بوضوح التعاون مع روسيا. وعليه، سوف تكتسب النيجر مكانة محورية في الفكر الاستراتيجي الغربي، في إطار سياسات بناء التحالفات الجديدة في عالم ما بعد الحرب الأوكرانية. وطبقاً لتفويض البوندستاغ الألماني فقد تم تمديد مهام الحرب الألمانية في منطقة الساحل حيث تقوم النيجر بدور محوري بشكل متزايد في هذا الأمر، نظراً لنقل مقر بعثة الاتحاد الأوروبي للتدريب المهني بالكامل تقريباً من مالي إلى النيجر. وفقاً للتفويض الجديد، من المفترض أن يساعد الجنود الألمان في تحسين "القدرات العملياتية لقوات الأمن في بوركينا فاسو ومالي وموريتانيا والنيجر وفرقة العمل المشتركة لدول الساحل (مجموعة الخمس). وهذا يشمل "المشورة والتدريب العسكريين، بما في ذلك التدريب قبل نشر القوات " وتقديم "الدعم". بعبارة أخرى، يتم توسيع سياسة الحرب الألمانية لتشمل منطقة الساحل بأكملها عبر النيجر.

دوافع متعددة

ثمة مجموعة من الدوافع تفسر لنا هذا التحول في الموقف الألماني تجاه القارة الأفريقية بعد اندلاع الحرب الأوكرانية:

1- الدفاع عن المصالح الألمانية في المنطقة عسكرياً: حيث تمثل زيادة المشاركة الألمانية في قوات مينوسما في مالي من 1100 إلى 1400 جندي، استعداداً للتصعيد القتالي. ووفقاً لنص التفويض، يمكن حشد المزيد من القوات "في مراحل إعادة الانتشار، وكذلك في سياق تناوب القوات، وفي حالات الطوارئ". وبذلك، تم تفويض "بعثة الأمم المتحدة المتكاملة متعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي" باتخاذ جميع التدابير اللازمة، بما في ذلك استخدام القوة العسكرية، لإنجاز المهمة.

2- ملء الفراغ والاستجابة للتحديات الجيوستراتيجية بعد انسحاب القوات الفرنسية: وعليه سوف تكون ألمانيا أكبر مزود للقوات الأممية في مالي من شمال الكرة الأرضية. يعني ذلك بكل وضوح أنه بوجود "300 جندي جديد"، تعمل ألمانيا على سد الفجوة التي خلفها الفرنسيون.

3- احتواء النفوذ الروسي: لا تعتبر كل من مالي والنيجر مهمين من الناحية الجغرافية فحسب، ولكنهما يتمتعان أيضاً بوفرة المواد الخام. فالنيجر هي أكبر منتج لليورانيوم في أفريقيا، وخامس أكبر منتج في العالم. ومنذ عام 2011، كانت البلاد أيضاً واحدة من الدول المصدرة للنفط. وذلك غير المواد الخام الأخرى التي يتم استخراجها ومعالجتها مثل الفوسفات والجبس والحجر الجيري.

أما مالي فهي ثالث أكبر منتج للذهب في أفريقيا بعد جنوب أفريقيا وغانا، ولديها رواسب كبيرة من البوكسيت والفوسفات وخام الحديد، من بين معادن أخرى.

4- تعزيز الاستثمارات الألمانية في أفريقيا: على الرغم من تباين المواقف بشأن الأزمة الأوكرانية فإن زيارة شولتس لجنوب أفريقيا تؤكد النهج البرجماتي في سياسته الخارجية، وتركيزه على قطاع الأعمال والاستثمارات الخارجية. كانت ألمانيا مستثمراً رئيسياً في جنوب أفريقيا منذ عدة عقود، حيث تعمل هناك حوالي 600 شركة. وقد انضم شولتس إلى الاحتفال بالذكرى السبعين لتأسيس غرفة التجارة والصناعة الألمانية الجنوب أفريقية. كما ناقش مع رامافوزا أيضاً قضايا الطاقة، بما في ذلك 8.5 مليار دولار أمريكي تقدمها ألمانيا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا والاتحاد الأوروبي لجنوب أفريقيا لتعزيز انتقال الطاقة العادل.

5- اللحاق بركب التكالب الدولي على أفريقيا: على الرغم من أن ألمانيا نفسها كانت ذات يوم قوة استعمارية في أفريقيا، فقد حظيت الدول الغربية الأخرى بالأولوية، لاسيما فرنسا. وعليه ترغب ألمانيا في إطار توجهاتها الاستراتيجية الجديدة في أن تصبح قوة أوروبية رائدة من خلال اكتساب النفوذ والمكانة على الصعيد الدولي.

6- الخوف من الاضطرابات الثورية: لقد حذر شولتس في داكار من مواجهة "تحديات عالمية هائلة". فسيكون لجائحة كوفيد 19 والحرب في أوكرانيا وأزمة المناخ عواقب مدمرة على الدول الأفريقية وعلى واقع الحياة بشكل عام. وقد عرضت هذه التحديات الإنجازات الاجتماعية والاقتصادية التي حققتها دول الجنوب العالمي للخطر. وقال شولتس حتى "لا تؤجج هذه الأزمات بؤر توتر جديدة"، على ألمانيا أن "تتصرف بحزم".

تبعات حرب أوكرانيا

في بداية الغزو الروسي لأوكرانيا، كانت ألمانيا الدولة الأوروبية الرئيسية الأكثر ميلاً للتفاوض مع روسيا وترضيتها. ربما يعزى ذلك إلى اعتمادها الكبير على الغاز الروسي، وقربها النسبي من روسيا، وهو ما يثير هواجسها بشأن سلامتها الإقليمية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية. بيد أنه في يناير 2022، تعرضت حكومة شولتس الائتلافية الجديدة للنقد على نطاق واسع لأنها لم تقدم لأوكرانيا سوى الخوذات للدفاع عن نفسها ضد الغزو الروسي.

وبالفعل حدث تحول جذري في الموقف الألماني منذ 24 فبراير الماضي. حيث تقدم ألمانيا اليوم إلى أوكرانيا أسلحة ثقيلة ومعدات، وعلقت خط أنابيب الغاز نورد ستريم 2 من روسيا. كما انضمت إلى بقية أوروبا في التخلص التدريجي من جميع واردات الطاقة الروسية، بالإضافة إلى فرض عقوبات أخرى. لذا أصبحت ألمانيا مضطرة فجأة للبحث عن مصادر طاقة بديلة – وهنا تكمن أهمية أفريقيا، وقد سلطت زيارة شولتس إلى السنغال الضوء على تعطش ألمانيا للموارد المعدنية الأفريقية والمواد الخام، والتي تفاقمت بسبب الصراع مع روسيا.

وما تريده ألمانيا من السنغال هو تأمين احتياطيات الغاز في البلاد في أسرع وقت ممكن. وقد أعلن المستشار الألماني ذلك بكل وضوح في داكار قائلاً: "أريد أن أكون واضحاً جداً بشأن هذا الأمر". "بالطبع، نريد التعاون مع السنغال على وجه الخصوص ليس فقط في مسألة الجيل المستقبلي للطاقة من مصادر متجددة ... ولكننا نريد أن نفعل ذلك أيضاً فيما يتعلق بقضية الغاز الطبيعي المسال، وإنتاج الغاز هنا في السنغال."  وقد دعا شولتس الرئيس السنغالي ماكي سال، الرئيس الحالي للاتحاد الأفريقي، لحضور قمة الدول الصناعية السبع لهذا العام، والتي ستستضيفها ألمانيا في بافاريا.

وقال أيضاً إن ألمانيا - التي تبحث بوضوح عن مصادر غاز بديلة حيث تحاول وبقية أوروبا التخلص من اعتمادها على الغاز الروسي - تأمل في الانضمام إلى السنغال في مشروع لاستخراج الغاز بالقرب من الحدود الموريتانية. 

وتكتسب زيارة المستشار الألماني لجنوب أفريقيا أهمية كبرى لتوفير مصادر بديلة للطاقة من أجل تفعيل العقوبات الأوروبية ضد روسيا.  كما تعتزم ألمانيا شراء المزيد من الفحم الحجري من جنوب أفريقيا. وهذا من شأنه أن يساعد في استبدال الفحم الروسي الذي تنوي دول الاتحاد الأوروبي التوقف عن شرائه في خريف هذا العام، كجزء من حظر شامل لواردات الطاقة الروسية. كما زار شولتس شركة ساسول شبه الحكومية للطاقة في جنوب أفريقيا، والتي تساعد ألمانيا في إنتاج الهيدروجين الأخضر.

أهداف إستراتيجية

في إطار تغيرات النظام الدولي وبروز دور ألمانيا في ظل زعامة أنجيلا ميركل الكارزمية على مدى 16 عاماً، طورت برلين ما يمكن تسميته استراتيجية اللحاق بالركب في تعاملها مع أفريقيا لترسيخ مصالحها الجيوسياسية المتغيرة. وقد أبرزت زيارة شولتس بعضاً من ملامح تلك الاستراتيجية. ومن ذلك:

- وضع أفريقيا في محاور اهتمام السياسة الخارجية الألمانية بعد أن احتلت مكاناً هامشياً في السنوات الماضية. وقد عكست وجهة المستشار شولتس الأولى صوب أفريقيا ذلك الاهتمام. إن النفوذ السياسي والاقتصادي والعسكري لألمانيا على المستوى الدولي يدفعها نحو التدافع مع القوى الكبرى في أفريقيا بدلاً من الوقوف على الهامش ومراقبة وانتظار الآخرين للتحرك.

- زيادة المنافسة الجيوستراتيجية بين القوى الكبرى في القارة، وبالتالي مواجهة التقدم المضطرد الذي أحرزته الصين في أفريقيا، وكذلك احتواء تهديدات التحركات التركية والروسية في القارة والتصدي لإجراءات الحرب التجارية بين واشنطن وبكين من خلال دفع الشركات الألمانية لغزو الأسواق الأفريقية والاستفادة من فرص الاستثمار فيها.

- موازنة الدور الفرنسي في القارة، خاصة بعد خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي (بريكست)، وعلى الرغم من وجود تعاون وتنسيق بشأن قضية الهجرة غير الشرعية ومكافحة الإرهاب في منطقة الساحل.

- زيادة الاستثمار وإنعاش العلاقات الاقتصادية مع الدول الأفريقية، وتعزيز النمو الاقتصادي في تلك الدول، والاستفادة من الحجم الهائل لسوقها، وزيادة مشاركة الشركات والمستثمرين الألمان في الأسواق الأفريقية. 

- الاهتمام الألماني بتنويع مصادر الطاقة والاستفادة من الموارد المعدنية والنفطية في أفريقيا كقضية رئيسية لألمانيا التي تعد واحدة من أكبر الدول الصناعية في العالم مع السعي لتعزيز الصادرات الألمانية في هذا القطاع من خلال توفير التكنولوجيا لشركات الطاقة الأفريقية.

- تعزيز تجارة الأسلحة والصناعات العسكرية مع الدول الأفريقية مثل الشركات الجنوب أفريقية. 

لقد أظهرت جولة المستشار شولتس الأفريقية أهمية ثلاثية الأمن والطاقة والاستثمار في استراتيجية اللحاق بالركب التي تتبناها ألمانيا في تعاملها مع أفريقيا، لاسيما بعد الحرب الأوكرانية. وبمرور الوقت، أصبحت ألمانيا أكثر استعداداً لتأسيس وجودها في أفريقيا وتعزيز تأثيرها في الفترة المقبلة لتعظيم نفوذها العالمي. ربما يتطلب ذلك وعياً شاملاً بخريطة أفريقيا بكل تفاعلاتها وتوازناتها وفرصها وتحدياتها لبناء استراتيجية مناسبة لألمانيا يمكن من خلالها تحقيق مصالحها الاستراتيجية في الوقت نفسه الذي تتم فيه تلبية الاحتياجات الأفريقية. ومن الواضح أن ألمانيا تنظر بعيداً إلى آفاق المستقبل ودور أفريقيا كسوق موحدة.

إن أبرز التحولات الهيكلية في أفريقيا والتي سوف ترسم ملامح التعاون المستقبلي هو دخول اتفاقية منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية حيز التنفيذ في بداية عام 2021. هذه الاتفاقية مشابهة للسوق الأوروبية المشتركة ولديها إمكانات كبيرة. إنها سوف توفر أساساً أفضل للشركات الألمانية للاستثمار في أفريقيا وخلق فرص عمل. كما ستسمح للمنتجات أفريقية الصنع بالمساهمة بدور أكبر في سلاسل التوريد الدولية ونقل القارة بعيداً عن مجرد توفير المواد الخام. ولعل ذلك كله يخلق بيئة جاذبة لاستراتيجية اللحاق بالركب الألمانية في تدافعها مع القوى الدولية الأخرى على أفريقيا.