على الرغم من المواجهات "غير التقليدية" التي تدور بين إسرائيل وإيران على مدار السنوات الماضية، ربما لا تكون الحرب الشاملة بينهما احتمالاً قائماً في المدى المنظور (خلال العامين القادمين على الأقل). إذ إن تحول هذه المواجهات "غير التقليدية" (الحروب بالوكالة، وتهديد السفن التجارية، والهجمات السيبرانية، وعمليات الاغتيال لعلماء ومسؤولين سياسيين)، إلى حرب شاملة تستخدم فيها الدولتان أقصى قدراتهما العسكرية والاستراتيجية؛ يظل مرهوناً بحسابات أخرى لا تتعلق بموقف كل من إيران وإسرائيل من بعضهما فقط، بل أيضاً بمواقف العديد من الدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة وروسيا من هذا الصراع الإيراني - الإسرائيلي.
كما أن النظريات الخاصة بدراسة الصراعات الدولية لا تؤيد فكرة حتمية انقلاب المواجهات التقليدية بين بلدين ما، إلى حالة حرب شاملة بالضرورة، إذ يمكن أن تُفضي مثل هذه المواجهات إلى مسار تفاوضي، أو قيام أحد الطرفين المتصارعين أو كليهما بخفض وتيرة الصراع غير التقليدي لتبريد الأزمات التي يصنعها، ومنع تفاقمها إلى حرب شاملة.
ومع استبعاد فتح مسار تفاوضي بين إسرائيل وإيران لأسباب مفهومة من الجانبين، فإن ذلك لا يمنع حرص كليهما على عدم الوصول إلى حالة الحرب. كما يمكن اعتبار مفاوضات فيينا (المُعطلة حالياً)، والتي كانت تستهدف عودة واشنطن إلى الاتفاق النووي مع طهران بعد أن انسحبت منه في عهد إدارة دونالد ترامب في عام 2018؛ هي نوع من التفاوض غير المباشر بين إسرائيل وإيران تقوم فيه الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن بالإضافة إلى ألمانيا، بدور الوسيط في هذه المفاوضات. وستحدد نتائج مباحثات فيينا في حالة استئنافها أولاً، ونجاحها ثانياً؛ مستقبل ومسارات المواجهات القائمة بين إيران وإسرائيل، كما ستحدد النتائج نفسها الشروط التي يمكن فيها أن يقع الاحتمال المُستبعد بنشوب حرب شاملة بين البلدين.
تقييمات إسرائيلية:
تشعر إسرائيل أنها محاصرة بين سيناريوهين صعبين؛ الأول فشل مباحثات فيينا، وتحرر إيران من أية قيود على أنشطتها النووية، بما يمنحها فرصة الاقتراب من "العتبة النووية" Nuclear threshold أو حتى تجاوزها، والتي يرى وزير الدفاع الإسرائيلي، بيني جانتس، في تصريح له يوم 18 مايو الماضي، أن إيران قد وصلتها بالفعل، وأنها باتت على بُعد أسابيع قليلة من تكديس ما يكفي من المواد الانشطارية لصنع القنبلة النووية الأولى لها. والسيناريو الثاني هو أن تخضع واشنطن لضغوط طهران وتقبل بالعودة إلى الاتفاق النووي القديم من دون تعديله. وهنا فإن إسرائيل كانت قد طالبت الولايات المتحدة بأن تفرض على إيران عدة شروط، وهي كالتالي:
1. تمديد الفترة الزمنية التي كان الاتفاق النووي ينص عليها، والتي تمتد حتى عام 2030، وخلالها تمتنع إيران عن زيادة معدلات التخصيب للوقود النووي إلى أعلى من نسبة 3.75%، بحيث تمتد فترة التقيّد بهذه النسبة إلى عام 2034، في مقابل مطالبة طهران باحتساب فترة السنوات الأربع التي انقضت منذ انسحاب واشنطن من الاتفاق عام 2018 ضمن صفقة العودة للاتفاق القديم؛ أي الإبقاء على تقييد معدلات تخصيب اليورانيوم حتى عام 2030 فقط.
2. عدم رفع الحرس الثوري الإيراني من قائمة الإرهاب التي تضعها واشنطن، وعدم التخلي عن كل العقوبات التي تم توقيعها على إيران من جانب واشنطن أو مجلس الأمن الدولي في فترات سابقة، واشتراط رفع العقوبات بالتزام طهران بتعهدات أخرى، وأن تكون عقوبات لها علاقة بالمشروع النووي الإيراني وحده، ولا تطول عملية إلغاء العقوبات تلك التي تم فرضها بسبب سياسات إيران التي تهدد الاستقرار الإقليمي في الشرق الأوسط.
3. أن توافق إيران على الامتناع عن تطوير الصواريخ الباليستية القادرة على حمل أسلحة نووية، حيث ترى إسرائيل أن أحد عيوب اتفاق عام 2015 هو عدم تناوله لهذه القضية بشكل واضح وصريح.
4. تشديد الرقابة على الأنشطة النووية الإيرانية بواسطة الوكالة الدولية للطاقة النووية، للتأكد من مدى وفاء طهران بالتزاماتها.
5. مطالبة إيران بالتوقف عن تقديم الدعم للميليشيات التي تهدد أمن إسرائيل، وتحديداً حزب الله اللبناني، وحركتي حماس والجهاد الفلسطينيتين.
وكما أدركت إسرائيل أن انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي في عام 2018 لم يؤد إلى تخلي إيران عن مواصلة البحث في امتلاك الخيار النووي العسكري، فإنها أدركت أيضاً مدى محدودية تأثير العمليات النوعية التي شنتها ضد طهران لوقف برنامجها النووي. وبموازاة ذلك وبعد بدء مباحثات فيينا في نوفمبر من العام الماضي، كانت تل أبيب على يقين من أن واشنطن لن تضغط على إيران لتحقيق المطالب الخمسة الإسرائيلية، خاصةً أن إدارة الرئيس جو بايدن كانت قد أبدت تصميمها على العودة إلى الاتفاق النووي بالرغم من إدراكها أن إيران لا يمكن أن توافق على المطالب الإسرائيلية أو حتى بعضها. والأسوأ من ذلك أن إسرائيل أصبحت تخشى من أن تؤدي عودة الولايات المتحدة للاتفاق بصيغته القديمة مع تعديلات طفيفة وغير جوهرية، إلى تعهد واشنطن بتقييد يد إسرائيل فيما يتعلق بأنشطتها غير التقليدية الموجهة لإيران.
بمعنى أكثر وضوحاً، تجد إسرائيل نفسها في وضع صعب، حيث إن فشل مباحثات فيينا يضعها أمام تحد كبير، لا يقل عن ذلك الذي سيتمخض عن عودة واشنطن إلى الاتفاق القديم كما هو، أو بإجراء تعديلات شكليه عليه. لذا يبدو منطقياً أن تحاول تل أبيب التمسك بموقف متوازن ولو بصورة مؤقتة، وهو ما عبّر عنه رئيس الوزراء، نفتالي بينيت، يوم 3 يونيو الجاري، خلال لقائه المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، رافائيل غروسي. وذكر بينيت، في الاجتماع، أن إسرائيل تُفضل المسار الدبلوماسي من أجل حرمان إيران من أي إمكانية لتطوير أسلحة نووية، لكنها في الوقت نفسه تحتفظ بحق الدفاع عن النفس والعمل ضد طهران من أجل وقف برنامجها النووي إذا فشل المجتمع الدولي في القيام بذلك.
حسابات إيرانية:
على عكس إسرائيل، كانت إيران ترى في قبول واشنطن الدخول في مفاوضات معها للعودة للاتفاق النووي، فرصة جيده. فمن جانب، كان قبول إدارة بايدن العودة للاتفاق والاستعداد لسماع شروط طهران للالتزام بالتعهدات الواردة في اتفاق 2015، بمنزلة اعتراف أمريكي بفشل سياسية العقوبات، وشهادة موازية بأن إيران أثبتت قدرتها على تحقيق أهدافها بالاستمرار في تطوير قدراتها النووية بالرغم من العقوبات. ومن جانب آخر، منحت المبادرة الأمريكية الجانب الإيراني الفرصة لإصلاح العيوب التي اكتشفها في الاتفاق القديم والخاصة بقضية العقوبات، حيث عانت طهران عدم وضوح النصوص المتعلقة برفع العقوبات عنها، بعد أن فسرت إدارتا الرئيسين الأمريكيين السابقين باراك أوباما ودونالد ترامب (قبل انسحابه من الاتفاق) هذه النصوص على نحو يحصرها في العقوبات المرتبطة بالبرنامج النووي فقط، بينما روجت إيران أمام شعبها في حينها (بعد توقيع الاتفاق) إلى أن تقييد حقها في تخصيب الوقود النووي لفترة محدودة قابله التزام أمريكي ودولي برفع العقوبات المفروضة عليها كافة، سواء المتعلقة بالمشروع النووي، أو تلك المتعلقة بقضايا حقوق الإنسان والسياسات التدخلية لإيران في شؤون العديد من دول المنطقة.
ودخلت إيران مفاوضات فيينا مستهدفة تخفيف حدة الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها جراء استمرار بعض العقوبات التي فرضتها إدارة أوباما، والتي ازدادت بعد انسحاب ترامب من الاتفاق في عام 2018. وحتى لحظة توقف المحادثات في فيينا في شهر مارس الماضي، كانت إيران على وشك أن تخرج باتفاق أفضل لولا الضغوط الإسرائيلية على واشنطن، ونشوب الحرب الأوكرانية - الروسية في فبراير الماضي؛ حيث واجهت إدارة بايدن مطالبات من جانب أعضاء في الكونجرس بعدم تقديم أية تنازلات لإيران خاصةً في مسألة العقوبات، وقضية رفع الحرس الثوري من القائمة الأمريكية للمنظمات الإرهابية. كما عملت روسيا على استغلال الملف النووي الإيراني في تسوية مشكلة العقوبات التي تتعرض لها من جانب الولايات المتحدة وحلفائها المناصرين لأوكرانيا، مقابل تمرير عودة واشنطن للاتفاق النووي مع طهران. وأدى ذلك كله إلى انتكاس الجهود الإيرانية للفوز بصفقة مربحة مع واشنطن، وهو ما عبّر عنه وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، في مايو الماضي، خلال زيارته لمملكة البحرين، بقوله "إن الولايات المتحدة الأمريكية لم تحاول فرض المزيد من شروطها في المحادثات النووية فحسب، بل إنها تهدف من خلال ذلك إلى خلق بلبلة في الاتفاق الأصلي بالرغم من موافقة مجلس الأمن عليه". وأشار لافروف إلى إصرار موسكو على التوصل إلى اتفاق نووي شامل ومشترك دونما حذف أو إضافة، رداً على إعلان واشنطن شروطاً جديدة للقبول بالاتفاق النووي؛ ومنها تخلي إيران عن مطلبها برفع الحرس الثوري من قائمة الإرهاب، واشتراط وقف إيران لصادراتها النفطية إلى الصين، وإيقافها أيضاً لبرنامجها الخاص بالصواريخ الباليستية.
توقعات مستقبلية:
على الرغم من عدم الإعلان رسمياً عن فشل محادثات فيينا، فإن الموقفين الإيراني والإسرائيلي، وكذلك تطورات المواجهة بين روسيا وحلفائها من جانب، وبين الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين من جانب الآخر؛ قد يؤدي كل ذلك إلى موت المباحثات نهائياً أو تجميدها لأجل غير مسمي. ويبدو السؤال المنطقي هنا؛ ماذا ستفعل طهران التي كانت تنتظر توقيع اتفاق مع واشنطن يُنهي كل أو الجزء الأكبر من العقوبات التي فُرضت عليها، والتي تسببت في أزمة اقتصادية واجتماعية حادة تهدد استقرار النظام الحاكم؟ وفي الاتجاه نفسه كيف تواجه إسرائيل استمرار سعي إيران لحيازة أسلحة نووية وصاروخية تهدد أمنها، في ظل محدودية تأثير العقوبات الأمريكية والعمليات النوعية الإسرائيلية الموجهة ضد إيران؟
وفي هذا الإطار، من المتوقع أن تزيد إسرائيل هجماتها السيبرانية وعمليات الاغتيال الموجهة للعلماء الإيرانيين وحتى المسؤولين السياسيين، ولكنها لن تُقدم على شن حرب شاملة ضد إيران حتى في حالة الإعلان الرسمي عن فشل مباحثات فيينا، وسيبقى الموقف الإسرائيلي على حاله على الأقل أثناء ولاية الرئيس بايدن الحالية، والتي لن تؤيد قيام تل أبيب بشن هجمات عسكرية على المشروع النووي الإيراني؛ تحسباً لتداعيات هذه الهجمات على المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط. كما لا ترغب واشنطن في اندلاع أزمة كبرى أخرى في ظل انشغالها بالمواجهة مع روسيا والصين على خلفية الحرب الأوكرانية الراهنة.
الأمر نفسه بالنسبة لإيران، التي لا تجد أي مصلحة لها في التورط في حرب شاملة مع إسرائيل، بسبب أن الدمار الذي ستخلفه إذا وقعت سيكون أكثر تأثيراً على طهران منه على تل أبيب المدعومة أمريكياً وغربياً. لذا من المتوقع أن تتمسك إيران بموقفها الثابت، وهو العمل بمنطق رد الفعل على العمليات العدائية الإسرائيلية ضدها، وذلك باستخدام وسائط متنوعة، منها استمرار دعمها للجماعات والتنظيمات المسلحة التي تهدد أمن إسرائيل، وتوجيه بعض الضربات الانتقامية للسفن التجارية الإسرائيلية، والعمل على تحسين قدراتها على شن حروب سيبرانية ضد تل أبيب.