• اخر تحديث : 2024-11-22 10:05
news-details
تقدير موقف

احتمالات إعادة تطبيع العلاقات الجزائرية – الفرنسية


برزت مؤشرات مهمة على اتجاه فرنسا والجزائر لتجاوز الخلافات الدبلوماسية القائمة بينهما، وإعادة تطبيع العلاقات مرة أخرى، حيث تلقى وزير الشؤون الخارجية والجالية الوطنية بالخارج، رمطان لعمامرة، اتصالاً هاتفياً في 14 يونيو 2022، من نظيرته الفرنسية كاثرين كولونا.

أسباب توتر العلاقات:

ترجع الأسباب والعوامل التي أدت إلى تصاعد التوتر في العلاقات الدبلوماسية الجزائرية – الفرنسية إلى ما يلي:

1. تصريحات ماكرون المسيئة: كانت التصريحات التي أطلقها الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في أكتوبر الماضي، هي السبب الرئيسي وراء توتر علاقات الدولتين. فقد أكد ماكرون أن الجزائر كان يحكمها "نظام سياسي عسكري" له تاريخ رسمي لا يقوم على الحقيقة، بل على كراهية فرنسا، كما تساءل ماكرون عما إذا كانت هناك دولة جزائرية قبل الحكم الاستعماري الفرنسي، وهو ما أثار غضب السلطات الجزائرية التي سحبت مباشرة سفيرها في فرنسا للتعبير عن استنكارها لهذه التصريحات المسيئة وغير المسؤولة.

2. خفض التأشيرات الفرنسية: خفضت السلطات الفرنسية التأشيرات الممنوحة للجزائريين بنسبة 50٪، وهو ما زاد من التوتر في العلاقات بين باريس والجزائر. ومن الجدير بالذكر أن هذه الإجراءات سبقت تصريحات ماكرون المسيئة للجزائر.

3. إجراءات جزائرية مضادة: تلت التصريحات والإجراءات الفرنسية لجوء الجزائر لعدد من الإجراءات للرد على السلوك الفرنسي. ومن أبرزها منع الجزائر الطائرات العسكرية الفرنسية من التحليق فوق أراضيها، حيث تستخدم عادة المجال الجوي الجزائري للانضمام أو الخروج من الساحل والصحراء حيث تنتشر قوات مكافحة الإرهاب الفرنسية.

كما سحبت الجزائر سفيرها لدى باريس كنوع من الرد الاحتجاجي على التصعيد الفرنسي، وأكد الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، أن عودة السفير الجزائري إلى باريس مشروطة باحترام فرنسا الكامل للدولة الجزائرية.

تقارب ملحوظ:

اكتسب الاتصال الذي استقبله لعمامرة من نظيرته الفرنسية كولونا أهمية خاصة، ويرجع ذلك لعدة اعتبارات من أبرزها ما يلي:

1. استئناف دبلوماسية الاتصالات الهاتفية: يعد هذا الاتصال هو الأول من نوعه الذي يحدث بين وزيري خارجية الدولتين منذ توتر العلاقات الدبلوماسية بين الجزائر وفرنسا في أكتوبر 2021، عندما استدعت الجزائر سفيرها لدى باريس، بسبب التصريحات المسيئة التي أطلقها ماكرون ضد الشعب الجزائري.

كما أن هذا الاتصال يندرج في إطار تبني فرنسا ما يعرف بـ "دبلوماسية الاتصالات الهاتفية" التي بدأها ماكرون بالاتصال بتبون في يناير 2022، وكان ذلك لأول مرة عقب مرور أربعة أشهر على تصاعد التوتر بينهما، واكتسب ذلك الاتصال في حينه، أهمية خاصة لأن ماكرون ركز على محاولة تهدئة ذاكرة الاستعمار الفرنسي وحرب الجزائر، وأبدى استعداده للبحث عن المفقودين الجزائريين في حرب الاستقلال، وتأهيل المدافن الأوروبية في الجزائر.

2. تصاعد الأزمة الجزائرية – الإسبانية: تزامن إجراء هذا الاتصال مع تصاعد التوتر الدبلوماسي بين الجزائر وإسبانيا؛ خاصة عقب إعلان الجزائر في 8 يونيو الجاري، تعليق معاهدة الصداقة وحسن الجوار والتعاون مع إسبانيا الموقعة بينهما في 8 أكتوبر عام 2002، ووقف عمليات التصدير والاستيراد بين الدولتين؛ وذلك بسبب التقارب الإسباني – المغربي وتأييد مدريد للمقترح المغربي الخاص بتسوية قضية الصحراء عبر منح جبهة البوليساريو حكماً ذاتياً تحت السيادة المغربية.

3. تمايز الموقف الفرنسي عن الأوروبي: استنكرت الجزائر الموقف الخاص بالاتحاد الأوروبي تجاه أزمتها الدبلوماسية مع إسبانيا، ووصفت الخارجية الجزائرية تصريحات مسؤولي الاتحاد الأوروبي بـ "المتسرعة"، خاصة أن هذه التصريحات شملت تهديدات واضحة باتخاذ الاتحاد الأوروبي إجراءات مضادة للرد على هذا التصعيد الجزائري ضد أسبانيا. ويبدو أن فرنسا تسعى لاستغلال ذلك التطور للتأكيد للجزائر أنها لا تتبنى موقف الاتحاد الأوروبي نفسه، وتحرص على الحفاظ على العلاقات الجزائرية – الفرنسية بمنأى عن التوتر بين الجزائر ومدريد.  

4. زيارة ماكرون للجزائر: استغل الرئيس الجزائري، في أبريل 2022، مناسبة فوز ماكرون بفترة رئاسية جديدة، وقام بتهنئته بهذا الفوز. ودعاه لزيارة الجزائر بصفة رسمية في أقرب وقت ممكن. وخلال الفترة الأخيرة، كان هناك تنسيق جزائري مشترك للإعداد لهذه الزيارة التي لم يتحدد موعدها بعد، إلا أن في ذلك مؤشراً مهماً على استعداد الجزائر لتجاوز خلافاتها مع فرنسا والدخول في مرحلة جديدة من العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين خلال الفترة القادمة.

5. اعتذار الرئيس الفرنسي: قدم الرئيس الفرنسي ماكرون، في 9 نوفمبر 2021، اعتذاره للشعب الجزائري، وأكد أسفه للجدل وسوء الفهم الناجمين عن التعليقات التي أدلى بها عن الجزائر، في محاولة منه لتهدئة التوتر الذي أثارته تصريحاته المسيئة، كما عبّر ماكرون عن "ثقته" بنظيره الجزائري تبون، وقد ساهمت هذه التصريحات في تهدئة التوتر الدبلوماسي مع الجزائر بدرجة ما، وهو ما ساهم في توفير الظروف المناسبة للحديث عن عودة العلاقات الثنائية بين الدولتين.

مصالح مشتركة:

يعمل التقارب الجزائري – الفرنسي الحالي، على تحقيق مجموعة من الأهداف، ومن أبرزها ما يلي:

1. استعادة التعاون الإقليمي: تسعى كل من الجزائر وفرنسا لتعزيز الاتصالات والتنسيق المشترك بينهما بغرض المساهمة في تسوية عدد من القضايا المثارة على المستوى الإقليمي ذات الاهتمام المشترك، وعلى رأسها الأزمة الليبية والمالية، خاصة أن البلدين يتبنيان مواقف مختلفة في الملفين.

كما أن روسيا، الفاعل العسكري الرئيسي في مالي حالياً، تعد حليفاً كذلك للجزائر. ويبدو أن فرنسا ترغب في ألا تخسر نفوذاً إضافياً في منطقة الساحل أمام روسيا، بعد بدء انسحاب الجيش الفرنسي من مالي، ولذلك رأت أنه من خلال تعزيز علاقاتها بالجزائر، يمكن أن تستثمر النفوذ الجزائري الواسع في منطقة الساحل والصحراء لضمان عدم تعرضها لانتكاسة إضافية في مناطق أخرى في الساحل.

وتحرص الدولتان على تطوير العلاقات الثنائية بينهما على المستويين العسكري والأمني، وذلك في مجال تعزيز القدرات العسكرية الجزائرية وتوظيفها في مجال مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل والصحراء التي تنشط بها تنظيمات القاعدة وداعش الإرهابية. كما تسعى فرنسا من خلال التقارب مع الجزائر إلى إعادة فتح الجزائر أجواءها مرة أخرى أمام الطائرات العسكرية الفرنسية، خاصة تلك المشاركة في العمليات العسكرية للقضاء على التنظيمات الإرهابية في منطقة الساحل والصحراء، خاصة أن استمرار الحظر الجوي الجزائري على الطائرات الفرنسية يمثل عقبة أمام سياستها الخارجية في منطقة الساحل والصحراء.

2. تعزيز العلاقات الاقتصادية: تهدف الدولتان من خلال سعيهما نحو إعادة تطبيع العلاقات بينهما وتجاوز الخلافات الدبلوماسية، إلى تعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية بينهما خلال الفترة القادمة.

وتعد الجزائر الوجهة الأولى للصادرات الفرنسية، وفي ظل استمرار توتر العلاقات الدبلوماسية بينهما يتكبد الاقتصاد الفرنسي خسائر مالية تقدر بحوالي 18 مليار دولار سنوياً، وذلك بسبب فقدان باريس ميزة تصريف منتجاتها في السوق الجزائري، وخسارة شركة توتال الفرنسية حوالي 5.5 مليار دولار، كما تراجعت فرنسا إلى المرتبة الثانية بعد الصين كشريك اقتصادي للجزائر، وفي ظل هذه الخسائر الاقتصادية أدركت باريس ضرورة إسراع الخطى نحو حل خلافاتها مع الجزائر، خاصة في ظل الأزمة التي تعصف بالاقتصادات الأوروبية جراء الحرب الأوكرانية، والتداعيات العكسية للعقوبات الأوروبية ضد روسيا.

3. تأمين إمدادات الطاقة: تسعى فرنسا من خلال تقاربها الحالي مع الجزائر إلى تأمين احتياجاتها من الطاقة، وذلك لضمان الحصول على الغاز الطبيعي الجزائري، حيث تتخوف الدول الأوروبية، ومن بينها فرنسا، أن تتراجع صادرات روسيا من الغاز الطبيعي في إطار توتر العلاقات بينهما بسبب الحرب الأوكرانية، وعقب نجاح إيطاليا في الاتفاق مع الجزائر على زيادة إمداداتها من الغاز الطبيعي خلال السنوات القادمة، فقد أدركت فرنسا أهمية تجاوز خلافاتها مع الجزائر في محاولة لتوقيع اتفاق مماثل خلال الفترة القادمة.

4. حل مشكلة الهجرة غير الشرعية: تحرص فرنسا على تعزيز تعاونها الأمني والسياسي مع السلطات الجزائرية، بغرض الحد من تدفقات المهاجرين غير الشرعيين من الجزائر إلى فرنسا، وهو ما دفع الأخيرة للتنسيق مع السلطات الجزائرية والاتفاق معها على ترحيل المهاجرين غير الشرعيين من فرنسا.

وفي الختام، فإنه يمكن القول إن المؤشرات والمعطيات الراهنة ترجح أن تشهد الفترة القادمة مزيداً من التطور الإيجابي في العلاقات الدبلوماسية بين الجزائر وفرنسا، في ظل حرص الطرفين على تعظيم مكاسبهما والحفاظ على مصالحهما المشتركة، عبر إعادة تطبيع علاقاتهما الدبلوماسية مرة أخرى، بما يخدم توجهات السياسة الخارجية الفرنسية باستعادة نفوذها المتراجع في منطقة المغرب العربي وشمال أفريقيا، وفي الوقت نفسه تعزيز الدور الإقليمي للجزائر.