• اخر تحديث : 2024-05-08 00:17
news-details
أبحاث

الصومال وإعادة الصياغة الجيوستراتيجية للقرن الأفريقي


يمكن أن تؤدي عودة حسن شيخ محمود إلى موقع الرئاسة في الصومال في 15 مايو 2022 إلى وضع البلاد على مسار الانتقال السياسي الصحيح وتحقيق الفرص الممكنة التي أُهدِرت في السابق. ليس هذا فحسب، ولكن أيضاً إعادة تشكيل علاقة الدولة التي مزقتها الحرب مع كل من إريتريا وإثيوبيا المجاورتين، مع ما يطرحه ذلك من تداعيات بعيدة المدى في منطقة القرن الأفريقي الكبير.

لقد تمكن الرئيس محمود، الذي حكم الصومال خلال السنوات من 2012 إلى 2017، من التغلب على منافسه محمد عبدالله فارماجو، الذي ظل يتشبث بأهداب السلطة حتى بعد انقضاء مدة ولايته الدستورية. وبينما أقام فارماجو علاقات سياسية وأمنية وثيقة مع كل من رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد والرئيس الإريتري إسياس أفورقي، فإن الرئيس الجديد تربطه علاقات طويلة الأمد بحكّام منطقة تيغراي الشمالية الإثيوبية، الذين يخوضون حرباً ضد تحالف قوات آبي أحمد وحلفائه من الأمهرة والإريتريين منذ أواخر عام 2020 حتى الاتفاق على هدنة في مارس 2022.

وعلى صعيد آخر فقد تزامن انتخاب الرئيس الصومالي الجديد مع إعلان الولايات المتحدة استئناف وجودها العسكري المحدود في الصومال. ومن المعروف أن إدارة الرئيس ترامب سحبت قواتها من البلاد في نهاية عام 2020. ولاتزال مهمة الجنود الأمريكيين على ما كانت عليه منذ 15 عاماً؛ وهي تقديم المشورة ومساعدة القوات الصومالية، كما أن القوات الأمريكية لن تشارك بشكل مباشر في الصراع.

يطرح ذلك كله العديد من التساؤلات حول تبعات ما بعد فوز الرئيس حسن شيخ محمود وإعادة الانتشار الأمريكي في الصومال وارتباط ذلك بالتحالفات الاستراتيجية المتغيرة في منطقة القرن الأفريقي، ولاسيما في عالم ما بعد الحرب الأوكرانية. وقبل الولوج إلى تحليل هذه الديناميات المتغيرة ينبغي التعامل مع سؤال الأهمية الجيوستراتيجية لمنطقة القرن الأفريقي ودورها في إعادة تشكيل مراكز القوة في النظام الدولي.

أولاً: الأهمية الاستراتيجية للقرن الأفريقي

يُشير بعض المؤرخين إلى أن تسلسل الأحداث التي أدت إلى الحرب العالمية الثانية بدأ مع الغزو الإيطالي لإثيوبيا في عام 1935. وربما ينبع تزايد الاهتمام الأوروبي والأمريكي بعد ذلك بإثيوبيا ومنطقة القرن الأفريقي بأسرها من تلك الذاكرة التاريخية. والعجيب أنه لم يتم تعريف القرن الأفريقي قط على أنه يشكل بحد ذاته منطقة جغرافية ‏واضحة المعالم، حيث إنه يعكس تنوعاً كبيراً في جغرافيته الطبيعية والبشرية، وتنوعاً غير عادي في اللغات ‏واللهجات، بالإضافة إلى وجود أعداد تكاد تكون متقاربة من قاطنيه المسيحيين والمسلمين. وترتبط شعوب ‏القرن بأفريقيا ومناطق الشرق الأوسط والمحيط الهندي، ولكنهم نادراً ما تجمعهم رابطة الانتماء لإقليم واحد. ‏وعوضاً عن ذلك، فإنه مثل مفهوم الشرق الأوسط، تم تعريف القرن الأفريقي من قِبَل أطراف غريبة عنه، وخاصة القوى العظمى في ‏العالم، باعتباره منطقة تسبب المشاكل. وإن الخطر الداهم الذي يواجه القرن الأفريقي اليوم هو أن يتم تقليصه ‏إلى مرتبة الوكيل في النظام الدولي بحيث يُصبح طرفاً في صراعات القوى الدولية التي لا تخصه.

وعلى أية حال يحظى القرن الأفريقي على مر العصور بمكانة استراتيجية مقدّرة على المسرح العالمي من النواحي الجيوسياسية والأمنية والاقتصادية؛ فمن أراضيه تنطلق معظم منابع نهر النيل، كما أنه يمثل المدخل الرئيسي لكل من البحر الأحمر وخليج عدن. ليس هذا فحسب، بل تجذب هذه المنطقة الاهتمام الدولي؛ بسبب موانئها الرئيسية، وإمكانيات مواردها الطبيعية، وقربها من بعض الممرات البحرية الأكثر ازدحاماً في العالم.

وتقع بلاد القرن الأفريقي على مقربة من الشرق الأوسط، بالإضافة إلى أنها تشهد حركات إرهابية محلية بطابع معولم؛ مما يخلق مزيجاً من تشابك المصالح السياسية والأمنية المحلية والعالمية. كما يُعد القرن الأفريقي الكبير أيضاً بوابة القارة إلى آسيا، مع وجود روابط تاريخية عميقة مع الهند والصين ودول الخليج العربية، التي تُعيد إنتاج نفسها اليوم في الصفقات التجارية والاستثمارية. ويلاحظ أيضاً أن العديد من دول المنطقة على وشك أن تصبح منتجة للنفط، حيث يقترن الاستقلال الاقتصادي المحتمل مع عدم المساواة والصراع الذي غالباً ما تعانيه الدول النفطية في القارة الأفريقية.

ويمكن الإشارة إلى ثلاثة ملامح للأهمية المتزايدة لمنطقة القرن الأفريقي في الاستراتيجية الدولية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة:

- سياسات التنافس الدولي، إن أي دولة تتطلع إلى إقامة وجود في المنطقة سوف تصطدم بشكل شبه مؤكد مع الجهات الفاعلة في مبادرة الحزام والطريق الصينية أو أي كتلة إقليمية أو استراتيجيات دولة منافسة تسعى للاستفادة من الأسواق والموارد الأفريقية. لقد حددت كلٌّ من الصين وروسيا وتركيا وأوروبا والولايات المتحدة، بالإضافة إلى غيرها من الدول الصاعدة في منطقة الشرق الأوسط، منطقة القرن الأفريقي والبحر الأحمر، كمركز للمنافسة الجيوستراتيجية وتسعى بنشاط لتحقيق مصالحها في المنطقة.

- الارتباط بقناة السويس، في 23 مارس 2021، تلقى العالم درساً في أهمية قناة السويس – ومن ثم أهمية منطقتي القرن الأفريقي والبحر الأحمر – عندما جنحت سفينة حاويات تُدعى إيفر جيفن في القناة؛ ما أدى إلى انقطاع السبل التجارية من وإلى البحر الأحمر. وعلى الرغم من إزالة الخطر في أقل من أسبوع، إلا أنه أوقف طريقاً تجارياً يمثل أكثر من 12 % من التجارة العالمية ويكلف 9 مليارات دولار يومياً عند إيقافه. وضع الحادث ضغطاً هائلاً على سلاسل التوريد المثقلة بالفعل، وأدى إلى تباطؤ كبير في التجارة العالمية.

- عسكرة المنطقة، إن أبرز دليل على الأهمية الاستراتيجية للمنطقة هو الوجود المتزايد باستمرار للقوات العسكرية الدولية، وربما تكون القاعدة الأكثر شهرة هي معسكر ليمونير في جيبوتي، التي تقوم بدور حاسم في عمليات القيادة الأمريكية العسكرية في أفريقيا (أفريكوم). ومع ذلك، تستضيف جيبوتي أيضاً قاعدة صينية، بالإضافة إلى وجود قوات عسكرية من اليابان وإيطاليا وبريطانيا وفرنسا. وبالمثل، كانت كينيا والصومال موطناً للعديد من المواقع والقواعد العسكرية الأمريكية. إن الوجود العسكري المتزايد في القرن الأفريقي، إلى جانب موقعه وأهميته الاقتصادية والسياسية، يجعله واحداً من أكثر المناطق أهمية من الناحية الاستراتيجية في العالم.

ثانياً: إعادة رسم خريطة التحالفات الإقليمية

دخلت الصومال بقيادة فارماجو في تحالف ثلاثي وثيق مع الرئيس الإثيوبي آبي أحمد والرئيس الإريتري إسياس أفورقي. وبالفعل ساعدت القوات الإثيوبية فارماجو على فرض مرشحيه في الأقاليم الفيدرالية المعادية له وقمع خصومه. كان هذا هو الحال في إقليم جنوب غرب الصومال خلال الانتخابات هناك في عام 2018. كما تم دعم فارماجو ضد منافسه السياسي أحمد “مادوبي” زعيم ولاية جوبالاند الصومالية في عام 2019. وفي المقابل، أرسل فارماجو خمسة آلاف جندي للقتال إلى جانب آبي أحمد في الحرب الأهلية الإثيوبية. وقد اعترف فارماجو أثناء مراسم تسليمه السلطة للرئيس الجديد المنتخب بأنه أرسل أكبر فرقة من الجيش الصومالي إلى إريتريا في عام 2021 للخضوع للتدريب. وقد أثار التجنيد السري للقوات الصومالية وإرسالها للقتال في معركة لا ناقة لهم فيها ولاجمل احتجاجات في الصومال في عام 2021، حيث اشتكى أفراد أسرهم من عدم إخطارهم بمكان وجود أبنائهم. وقد سجل تقرير أممي مشاركة الجنود الصوماليين في حرب التيغراي، وربما لقي المئات منهم حتفهم هناك. من جانبها دعمت إريتريا الحكومة الإثيوبية في حربها ضد المتمردين من مقاطعة تيغراي الشمالية، وهو الصراع الذي اندلع في أواخر عام 2020.

ومن المحتمل أن تنتهي سياسة الاستقطاب في القرن الأفريقي، وهو ما يؤثر على خريطة توازن القوى مرة أخرى في تلك المنطقة التي تشكل مركباً صراعياً بالغ التعقيد والتشابك. لقد احتفظ الرئيس محمود بعلاقات وثيقة مع زعماء التيغراي، ولعل ذلك يفسر مسارعة رئيس إقليم التيغراي الدكتور ديبريتسيون جبريمايكل بتهنئة شيخ محمود على فوزه، والإعراب عن استعداده للتعاون في تحقيق الاستقرار الشامل للمنطقة، بناء على العلاقات الممتازة الموجودة مسبقاً بين الطرفين. كما أكد غيتاتشو رضا وهو أحد كبار زعماء تيغراي، في تغريدة على موقع تويتر، أن الانتخابات الصومالية تمثل علامة فارقة، وأن طموح إسياس أفورقي الفرعوني في القرن الأفريقي يتفكك بلا ريب. وعلى الرغم من أن الرئيس الصومالي الجديد، الذي حضر الذكرى الأربعين لتأسيس الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي في أديس أبابا في عام 2015، لم يُفصح بعد عن علاقات الصومال بجيرانه وما إذا كان هناك تحول في النهج، فإن ثمة تقارير دبلوماسية تشير إلى أنه كان على اتصال بالفعل بمسؤولي التيغراي حول كيفية تحقيق الاستقرار في المنطقة.

ثالثاً: عالم ما بعد الحرب الأوكرانية في القرن الأفريقي

قد يبدو أن قرار إعادة الانتشار الأمريكي في الصومال مرتبط بتحولات الصراع في النظام الدولي بعد الحرب الأوكرانية. وربما يكون محاولة لاحتواء النفوذ الروسي المتزايد في منطقة القرن الأفريقي. يدعم ذلك الرأي أمران مهمان: أولهما، وعد الرئيس الأمريكي جو بايدن خلال حملته الانتخابية بتجنب “الحروب التي لاتنتهي” ضد الإرهاب منذ عام 2002. أما الأمر الثاني فهو أن هذه الحروب الممتدة لم يتم الانتصار الحاسم فيها على الإطلاق، ولا تزال غير شعبية لدى الناخبين الأمريكيين. وعليه، فإن نكوص الرئيس بايدن بوعده الانتخابي والعودة مرة أخرى للساحة الصومالية أمر تفسره خطط إعادة هيكلة الجيش الأمريكي لمواجهة تهديد القوة الصاعدة للصين من جهة، والتأكيد المتجدد على التنافس القديم مع روسيا منذ الحرب الأوكرانية من جهة أخرى.

في الواقع لم يتغير المشهد الأمني في الصومال كثيراً منذ انسحاب الولايات المتحدة من البلاد. لقد ظلت الخطوط الأمامية بين حركة الشباب التابعة للقاعدة والحكومة الصومالية وقوات الاتحاد الأفريقي في الصومال كما هي إلى حد كبير أثناء الغياب الأمريكي، حيث لم تقم حركة الشباب الإرهابية بتوسيع أراضيها على الرغم من أنها تمارس سيطرة ونفوذاً كبيراً في المناطق التي يُفترض أنها خاضعة لسيطرة الحكومة.

ما الذي تغير إذن؟ إنه ميزان القوى الدولي؛ فعلى مدى السنوات القليلة الماضية اشتد التنافس بين الولايات المتحدة والصين. وخلال العام الماضي انفجر التنافس بين الولايات المتحدة وروسيا، متأثراً جزئياً باندلاع حرب أوكرانيا. هذه المنافسات لها تأثيرات واسعة النطاق في القرن الأفريقي. وكما ذكرنا آنفاً، فإن إعلان إعادة الانتشار الأمريكي صاحب الهزيمة الانتخابية للرئيس الصومالي محمد عبدالله فرماجو، الذي دخل في تحالف مقدس مع أصدقاء روسيا الجدد في القرن الأفريقي – إثيوبيا وإريتريا. وبالقياس، فإن الرئيس الصومالي المنتخب حديثاً ليس متحمساً للانخراط في استقطابات القرن الفريقي لصالح كل من إثيوبيا وإريتريا. كما أنه رحب بشدة بإعادة انتشار القوات الأمريكية في الصومال.

لقد أدت الأزمة الأوكرانية إلى تصاعد حدة الخلاف الأمريكي مع هذا التحالف الثلاثي في القرن الأفريقي. وفي البداية انتقدت الولايات المتحدة الحكومة الإثيوبية على تداعيات الحرب الأهلية في التيغراي؛ وذلك بسبب التكلفة الإنسانية الباهظة وانتهاكات حقوق الإنسان. في 29 مارس 2022 وافقت لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي على قانون السلام والاستقرار في إثيوبيا لعام 2022. لقد تم تقديم هذا التشريع من الحزبين في نوفمبر 2021، بناءً على الأمر التنفيذي لإدارة بايدن الذي يشكل إطاراً للعقوبات على إثيوبيا من خلال تعزيز استجابة الولايات المتحدة الدبلوماسية والتنموية والقانونية لدعم الديمقراطية وحقوق الإنسان والسلام والاستقرار في إثيوبيا. بالإضافة إلى تعليق المساعدة الأمنية الأمريكية لحكومة إثيوبيا والتفويض بالدعم الأمريكي لحل النزاعات وجهود بناء السلام للمجتمع المدني، وينص مشروع القانون أيضاً على فرض عقوبات مستهدفة على الجهات والأفراد المتورطين في تقويض محاولات حل الصراع الأهلي في إثيوبيا، والذين يساهمون بشكل مباشر في تصعيد حدة الحرب الأهلية.

وعليه، فقد أدت العلاقات الأمريكية الإثيوبية المتدهورة إلى قيام أديس أبابا بالتوجه نحو روسيا، وهو ما أثمر عن اتفاقية التعاون العسكري الروسي مع إثيوبيا. جاء ذلك في فترة فقدت فيها إثيوبيا الكثير من الأسلحة الروسية في ساحات القتال في تيغراي. كما خرجت مظاهرات مناهضة لأمريكا في أديس أبابا رفعت فيها الأعلام الروسية وشعارات موالية لروسيا. وعندما اندلعت الحرب الأوكرانية، دعمت إريتريا روسيا بالكامل في الأمم المتحدة بينما غابت إثيوبيا عن التصويت منعاً للحرج. أضف إلى ذلك أن الولايات المتحدة كانت قلقة أيضاً بشأن الاستثمارات الصينية لتأمين قاعدة بحرية في إريتريا.

رابعاً: العامل الإريتري والحرب بالوكالة

تتنافس روسيا مع كل من الصين والقوى الغربية لبسط نفوذها في القارة الأفريقية. لتعزيز مصالحها العسكرية والاقتصادية، وتستخدم روسيا ثلاث وسائل دفع رئيسية: مبيعات الأسلحة، والمساعدة العسكرية، وعقود الطاقة.

ومن المحتمل أنه في السنوات الخمس المقبلة، سوف تقوم روسيا بإنشاء قاعدة بحرية لوجستية في إريتريا، تليها استثمارات في البنية التحتية وقطاع الطاقة. ومن المرجح جداً أن تحاول روسيا الدخول في منافسة بحرية مع الصين وفرنسا والولايات المتحدة في البحر الأحمر، لبناء مكانتها كقوة عالمية. وللقيام بذلك، فأحد أهداف روسيا هو إنشاء قاعدة عسكرية وميناء بحري في إريتريا. كما أن مينائي إريتريا، في مصوع وعصب، يحتلان نقاطاً استراتيجية على طول البحر الأحمر. وعلى الرغم من أن الغرض المعلن من الاتفاقية الموقعة بين روسيا وإريتريا كان تنشيط التجارة والصفقات التجارية بين البلدين، فمن المرجح أن تسمح للروس بجمع معلومات استخبارية عن الشحن المار عبر البحر الأحمر إلى البحر الأبيض المتوسط

وبحر العرب. وسيشمل ذلك السفن الحربية الأمريكية والصينية التي تبحر من الخليج العربي والمحيط الهندي.

وفي 24 مايو، نظمت إريتريا احتفالات الذكرى الـ 31 لاستقلالها، وتحدث خلالها الرئيس أفورقي عن الحرب في أوكرانيا ودافع عن روسيا واتهم الدول الغربية بالمسؤولية عن الصراع. وقارن أفورقي بين النضال من أجل استقلال إريتريا والديناميات الدولية الحالية، والتي تحددها ما أسماه “سوء تفسير نهاية الحرب الباردة” من قبل النخب الغربية المهيمنة، الذين اعتقدوا أنهم يستطيعون اغتنام “فرصة تاريخية” بعد انهيار القطبية الثنائية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي استناداً إلى منطق استعماري جديد. ويرى أفورقي كذلك أن احتواء روسيا تجلى من خلال توسع السيطرة السياسية والعسكرية الغربية في أوروبا الشرقية، والتضحية بأوكرانيا كأداة في استراتيجية تتجه نحو التصعيد والصراع.

إنها نفس الاستراتيجية، وفقاً للرئيس الإريتري، التي تبناها الغرب لاحتواء دور الصين في آسيا، واستغلال الديناميات المرتبطة بهونج كونج وتايوان ومحاولة تأجيج الصراع والتنافس في جميع أنحاء القارة. هذا النهج، وفقاً لأفورقي، سيؤدي إلى مخاطر لن تكون أقل، وربما أكبر بكثير، من تلك التي أثرت على روسيا في أوكرانيا. وطبقاً لمجلة أفريكا تايمز، فإن إسياس أفورقي سيؤيد استضافة قاعدة بحرية روسية على البحر الأحمر؛ ما يؤكد الشائعات التي تتابع بعضها البعض حول هذا الموضوع منذ فترة، بالتزامن مع الرحلات التي قام بها وزير الخارجية الإريتري إلى موسكو والمحادثات الثنائية اللاحقة.

على الصعيد الإقليمي يمكن أن تؤدي هذه الديناميات المتغيرة إلى إعادة رسم خريطة التحالفات الإقليمية في القرن الأفريقي. فثمة مؤشرات على إمكانيات التهدئة في التيغراي. كما أن انتخاب رئيس جديد للصومال يمكن أن يمهد لعودة الدولتين (إثيوبيا والصومال) مرة أخرى للتعاون الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، حيث ثمة حاجة إثيوبية للخروج من لعنة الهضبة الحبيسة وتأسيس أسطول بحري؛ ففي إبريل 2018، أعلن رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد عن طموح بلاده لتطوير قوتها البحرية الخاصة، برغم أن إثيوبيا دولة غير ساحلية. كما وقعت إثيوبيا في عام 2019 اتفاقية عسكرية مع فرنسا، التي تعهدت باستثمار 2.8 مليار يورو في القوات الإثيوبية. وعلى الرغم من تحسن العلاقات بين إثيوبيا وإريتريا بشكل كبير في أعقاب حرب الحدود الإثيوبية الإريترية (1998-2000) واتفاقية السلام التي تم توقيعها في عام 2018، فمن المحتمل أن ترى إريتريا خطة إثيوبيا لبناء قواتها البحرية على أنها تهديد لأمنها. وفي المقابل تحاول الولايات المتحدة بناء قاعدة بحرية أخرى في المنطقة بعيداً عن أعين الصين الملاصقة لها في جيبوتي، وربما يكون البديل هو موانئ صوماليلاند.

خامساً: الصومال والفرص الممكنة

يواجه الصومال أزمة أمنية وسياسية مزدوجة تصاعدت بسبب تأخر الانتخابات. كما تقع البلاد في منطقة مضطربة؛ ما يعيق الاستجابات الإقليمية لأزمتها، حيث يجب أن يكون الاستقرار السياسي على رأس أولويات محمود. وهذا يشمل بناء الثقة بين المركز والأقاليم الفيدرالية ومناقشة القضايا طويلة الأمد مثل مراجعة الدستور المؤقت.

إن وجود بيئة سياسية مستقرة سيمكن من بذل جهود وطنية أكثر فاعلية ضد حركة الشباب، بما في ذلك التدابير غير العسكرية مثل الحوار وتقديم الخدمات الحكومية لتقليل دور الجماعة ونفوذها. وهذا أمر حيوي بالنظر إلى أن التدخلات العسكرية المختلفة لم تقلل من التهديد الذي تشكله حركة الشباب. ومن المعروف أن مهمة بعثة الاتحاد الأفريقي الانتقالية في الصومال، المكلفة بالقضاء على التهديد الإرهابي وتسليم المسؤولية إلى القوات الوطنية الصومالية، تنتهي في ديسمبر 2024. وسيتم تقليص القوات على مراحل. وفي نفس الوقت كما ذكرنا تعيد الولايات المتحدة نشر 500 جندي في البلاد – أقل عن ذي قبل – للحفاظ على وجود عسكري صغير لكنه مستمر بعد انسحابها في يناير 2021، حيث يجب أن يتخذ الرئيس الصومالي الجديد مقاربة شاملة للمشكلة الأمنية من خلال إضعاف حركة الشباب أيديولوجياً ومالياً، على سبيل المثال، من خلال تعطيل مصدر دخلها المحلي.

على أن التحدي الأكبر الذي يواجه الحكومة الصومالية بزعامة محمود هو التعامل مع بيئة خارجية تغيرت منذ أن كان آخر مرة في السلطة. فلم يعد لدى الجارتين إثيوبيا وكينيا موقف مشترك بشأن الصومال بعد أن تباينت مقاربتهما مع تغيير إثيوبيا موقفها عام 2018 بالتحالف مع إريتريا. ومن أجل التصدي للمصالح الخارجية المتنافسة في الصومال، فمن الأهمية على إدارة محمود أن تدافع عن مصالح الصومال الوطنية وأن تنسق علاقاتها الخارجية بعناية بعيداً عن سياسة الاستقطاب والمحاور التي انتهجها فارماجو. وإذا تمت إدارة الصومال بشكل جيد، فمن الممكن أن تستفيد من المشاركة البنّاءة لأصحاب المصلحة الخارجيين بدلاً من أن تعيد أخطاء الماضي لتصبح طرفاً في حرب باردة جديدة قيد التطور في منطقة القرن الأفريقي.

خاتمة

إن توقيت إعادة الانتشار الأمريكي في الصومال مع غياب فرماجو عن المشهد السياسي والإعلان اللاحق من قبل الرئيس أفورقي عن دعوته لبناء قاعدة روسية في بلاده يؤكد الحجة الرئيسية التي يستند إليها هذا المقال، وهي إعادة صياغة تحالفات القرن الأفريقي استناداً إلى ديناميات النظام الدولي المتغيرة. وربما يكون قرار الرئيس بايدن بمثابة عمل مدروس لدعم الرئيس حسن شيخ محمود في مواجهة التحالف المدعوم من روسيا القائم بين كل من إريتريا وإثيوبيا في القرن الأفريقي. كما أن هذا الانتشار العسكري الأمريكي الجديد في الصومال سوف يدعم بدوره الولايات المتحدة وحلفاءها ضد روسيا. وعلى الرغم من أن المشاركة الأمريكية على مدى 13 عاماً قد فشلت في إنهاء تمرد حركة الشباب الإرهابية، فإن الحركة لاتزال تفتقر إلى القدرة على الإطاحة بالحكومة الصومالية.

إن التحولات الدولية ولاسيما منذ الحرب الأوكرانية تُظهر أن القرن الأفريقي باعتباره من المناطق الجيوستراتيجية الرئيسية في العالم، أصبح مركزاً للمنافسة الجيوسياسية الشديدة من قبل القوى الدولية والإقليمية. ومن خلال تحليل الديناميات الجيوسياسية المعاصرة في القرن الأفريقي وتداعياتها على موازين القوى الإقليمية والدولية يبدو أن هناك أربع سمات محددة للديناميات الجيوسياسية المعاصرة في منطقة القرن الأفريقي تتمثل في:

التدافع على بناء القواعد العسكرية نتيجة التنافس على القوة والنفوذ من قبل دول خارج المنطقة.

1. التنافس على الموانئ التجارية.

2. التنافس بين دول المنطقة بما يؤدي إلى تغيير التحالفات.

3. انتقال الصراعات إلى داخل الدول وفيما بينها بما يعزز ظاهرة الحرب بالوكالة.

ولا يخفى أن عملية إعادة الاصطفاف الجيوسياسي هذه تجري على قدم وساق في المنطقة، حيث تدور حروب بالوكالة – بما في ذلك في إثيوبيا والصومال وإريتريا – تتنافس من خلالها القوى الطامحة في السيطرة على الموارد الطبيعية وطرق التجارة الاستراتيجية. وقد وضع هذا التناطح بين القوى العظمى العالم على بداية الطريق نحو حرب باردة جديدة، وظهرت منطقة القرن الأفريقي مرة أخرى كساحة لتنافس القوى الدولية.

ومهما يكن من شيء فإن الحرب في أوكرانيا – بصفتها إحدى سمات التحول في بنية النظام الدولي – تغير بالفعل ديناميات القوة في منطقة القرن الأفريقي بل وفي القارة كلها.