• اخر تحديث : 2024-05-10 13:04
news-details
قراءات

مخاطر التصعيد: تداعيات أزمة الحدود السودانية الأثيوبية


شهدت العلاقات السودانية الأثيوبية منذ نوفمبر 2020 تصعيدًا للنزاع الحدودي بينهما بشأن منطقة الفشقة التي تقع بين إقليم القضارف بشرق السودان وولايتي أمهرة وتيغراي الإثيوبيتين. ولعل هذا التصعيد يتقاطع في بعض جوانبه مع المفاوضات المتوقفة بين مصر وإثيوبيا والسودان بشأن سد النهضة. ومن المحتمل أن حربا حدودية محتملة بين السودان وأثيوبيا قد تهدد بزعزعة استقرار البلدين ومنطقة القرن الأفريقي بأسرها. فقد دفع هذا التصعيد الحدودي كلا الطرفين إلى توظيفه سياسيا لاكتساب التأييد السياسي والحصول على الشرعية في الداخل المنقسم.

ساهمت الخلافات الحدودية في غياب التقارب السياسي الشامل بين إثيوبيا والسودان لفترة طويلة. وغالباً ما تنتهي المحاولات المتقطعة للبحث عن حل شامل للمشكلة بالفشل. وكما هو الحال بالنسبة لمشكلة الحدود الموروثة عن العهد الاستعماري في إفريقيا فقد فرضت الاعتبارات الجيوسياسية الإقليمية إلى حد كبير إجراءات ترسيم أو إعادة ترسيم الحدود، والتي كانت مستمرة منذ الستينيات من القرن الماضي. وعلى الرغم من توصل الطرفين إلى صفقة لتسوية النزاع على طول هذه المنطقة الحدودية في عام 2007 إلا أنها ظلت محاطة بالسرية، على الأقل بالنسبة للجانب الاثيوبي.

السياق التاريخي للنزاع

تعود بدايات نزاع الفشقة الحدودي إلى المعاهدة الأنجلو إثيوبية عام 1902 - وهي وثيقة تعود إلى الحقبة الاستعمارية سعت إلى تحديد الحدود بين إثيوبيا والسودان ، التي كانت تحت السيطرة البريطانية آنذاك . وكانت هذه المعاهدة خاتمة مفاوضات مطولة بين الإمبراطور منليك الثاني والحكومة البريطانية، تم بمقتضاها  تخصيص منطقة  بني شانغول-جوموز للجانب الأثيوبي ، كما تناولت قضايا تدفق مياه النيل الأزرق من بحيرة تانا الإثيوبية. وطبقا لخرائط المعاهدة، فإن الفشقة هي جزء من ولاية القضارف ، إحدى سلال الخبز في السودان. وتضم هذه المنطقة  الحدودية، بما في ذلك الفشقة، مساحات كبيرة من الأراضي الخصبة التي تنتج مجموعة متنوعة من المحاصيل ، مثل الحبوب وعباد الشمس والقطن والصمغ العربي وبذور السمسم المخصصة للتصدير.

 في عام 1972، زار الإمبراطور الإثيوبي هيلا سيلاسي السودان بهدف حل الصراع بين الشمال والجنوب في البلاد. بعد زيارته، تبادل السودان وإثيوبيا الملاحظات بشأن مشاكل الحدود بينهما. بيد أن هذه الجهود لم تؤت ثمارها المرجوة نظرا للإطاحة بالنظام الامبراطوري في أثيوبيا عام 1974.منذ ذلك الحين ، كان البلدان في علاقة عدائية للغاية لمدة 33 عامًا متتالية ، إلى أن تم التوصل  إلى ترتيب مقبول للطرفين بشأن المنطقة في عام 2005. في عام 2007، توصلت جبهة الإنقاذ ، بقيادة الرئيس المخلوع عمر البشير مع رئيس الوزراء الراحل ميليس زيناوي ، إلى اتفاق اكتنفه الغموض ، لاستخدام الأراضي يمكن من خلاله لمواطني البلدين زراعة الأرض حتى الانتهاء من الترسيم النهائي. ومع ذلك لم يتم التصديق على الاتفاقية بشكل رسمي، وهو الأمر الذي يعيد هذا النزاع الحدودي إلى المربع الأول. وقد أدت الاضطرابات السياسية وعدم الاستقرار في كلا البلدين منذ ذلك الحين إلى تغييرات في القيادة.

 خيارات التصعيد والمواجهة العسكرية

على الرغم من أن البلدين لديهما وجهات نظر مختلفة حول الاضطرابات الأخيرة في المنطقة الحدودية، إلا إن إصدار الجيش السوداني، يوم 26 يونيو 2022 ، بيانًا يتهم فيه القوات الإثيوبية بإعدام سبعة جنود سودانيين ومدني واحد كانوا محتجزين في الأسر يمثل نقطة فارقة في تاريخ التصعيد بين الطرفين. وقد اتجهت حكومة الخرطوم إلى استخدام أدوات التصعيد الدبلوماسي والعسكري حيث تم استدعاء السفير السوداني لدى أثيوبيا للتشاور،  كما تم تقديم شكوى إلى مجلس الأمن الدولي، وذلك وسط نذر المواجهة العسكرية على جانبي الحدود بين البلدين. وطبقا لمنصة أديس ستاندرد فإنه منذ بداية يناير 2022 ، قامت كل من السودان وأثيوبيا بحشد قواتهما العسكرية على طول الحدود في منطقة الفشقة. ويبدو أن المناوشات العسكرية على الحدود الإثيوبية - السودانية لم تنقطع منذ أن استعاد الجيش السوداني السيطرة على معظم أراضي الفشقة التي كانت تضمها أثيوبيا بحكم الأمر الواقع. ويمكن أن نُرجع خيارات التصعيد والمواجهة بين الطرفين إلى ثلاثة عوامل أساسية ترتبط بتأثيرات الحرب الأهلية في إثيوبيا، وأزمة سد النهضة وتنازع السيادة على أراضي الفشقة الخصبة.

 - حرب التيغراي

تصاعدت التوترات بين السودان وإثيوبيا منذ اندلاع الحرب بين الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي والحكومة الفيدرالية الإثيوبية في نوفمبر 2020.  وقد فر آلاف اللاجئين الأثيوبيين إلى السودان. ومن الواضح أن الجيش السوداني وجد الفرصة مواتية بمناسبة انشغال إثيوبيا بالحرب على نفسها وقام باستعادة أراضيه التاريخية في الفشقة. وتحاول أثيوبيا الربط بين اللاجئين في السودان ووجود عناصر إرهابية معادية لها تشن هجماتها انطلاقا من الأراضي السودانية. في احاطته للبرلمان الأثيوبي أكد وزير الخارجية ديميكي ميكونين أن اتهام إثيوبيا للسودان لم يعد مقصوراً على نزاع الفشقة، وإنما يشمل كذلك قيامها بإيواء جماعات إرهابية وقوات أخرى باسم اللاجئين تقوم بشن هجمات على إثيوبيا في أوقات مختلفة انطلاقا من قاعدتهم في السودان.

ومن جهة أخرى يبدو أن أبي أحمد غير راغب أو غير قادر على تقديم تنازلات للخرطوم بشأن الفشقة خوفا من فقدان دعم الفصائل القومية في صفوف الأمهرا. كما أنه لا يريد الظهور بمظهر الضعف أمام الداخل الأثيوبي إذا وافق على ما يعتبره العديد من الإثيوبيين عدوانًا سودانيًا. لم يكن مستغربا أن تستخدم اديس أبابا مفهوم المؤامرة لتفسير التصرفات السودانية على الحدود ولاسيما التعاون مع جبهة التيغراي.

 - توقف مفاوضات سد النهضة

أدى بناء سد النهضة الإثيوبي إلى حدوث نزاع إقليمي بين مصر وإثيوبيا والسودان بسبب التصرفات أحادية الجانب من قبل أثيوبيا وعدم احترامها للمبادئ والمواثيق الدولية. وقد انحاز السودان إلى جانب مصر بشأن تداعيات الاستمرار في بناء و ملء السد دون وجود اتفاق قانوني ملزم . لقد استخدم مجلس السيادة الحاكم  في السودان النزاع الحدودي وربطه بأزمة سد النهضة لبناء الشرعية في ظل واقع سياسي داخلي مأزوم: لا تريد الحكومة السودانية من إثيوبيا فقط الاعتراف بسيادة السودان على الفشقة ولكن أيضًا قبول ترسيم الحدود الفوري والتسوية المتزامنة لجميع الخلافات الرئيسية بين أديس أبابا والخرطوم ، بما في ذلك أزمة سد النهضة. علاوة على ذلك صعدت الخرطوم من موقفها في أبريل 2021 بدعوتها لسحب القوات الإثيوبية من بعثة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في أبيي، على الحدود السودانية مع جنوب السودان. قد يؤدي الضغط السوداني المتزايد على أديس أبابا إلى تعميق الانقسامات الداخلية في إثيوبيا، وهو ما يؤدي بدوره إلى استمرار نهج التصعيد من الطرفين.

 - الخلاف حول إدارة الفشقة

في عام 2007، اتفقت الحكومة السودانية بزعامة الرئيس المخلوع عمر البشير ورئيس الوزراء الإثيوبي الراحل مليس زناوي على صفقة تسمح للسودان بإدارة الفشقة وللمزارعين الإثيوبيين بالعيش والعمل هناك. على أنه بعد الإطاحة بحكم الاخوان المسلمين في السودان عام 2019 واندلاع حرب التيغراي عام 2020 قام السودان بإرسال ستة آلاف جندي سوداني إلى شرق الفشقة من أجل طرد الآلاف من المزارعين الأمهرة والميليشيات المسلحة التابعة لهم. وعلى أية حال ليست عمليات القتل بحق الجنود السودانيين في يونيو 2022 الماضي هي نقطة الاشتعال الأولى التي تحدث على الحدود المشتركة للسودان وأثيوبيا. في نوفمبر 2021، قال السودان إن ستة من قواته قُتلوا في هجوم شنته الميليشيات المسلحة المدعومة من الجيش الأثيوبي .  وكما هي العادة لدى حكومات أثيوبيا المتعاقبة، استخدمت أديس أبابا لغة الانكار، بل واتهمت السودان بغزو "الأرض التي هي جزء من أراضي إثيوبيا وتخريب المؤسسات الإدارية والمعسكرات وقتل وتشريد السكان، وتدمير محاصيلهم وممتلكاتهم". وعليه من المحتمل أن تؤدي عمليات القتل الأخيرة بحق الجنود السودانيين إلى تأجيج التوترات بشكل أكبر، حيث لا يوجد اتفاق اليوم حول كيفية إدارة الفشقة.

تداعيات التصعيد والمواجهة

على الرغم من اتفاق البلدين على أن المفاوضات هي السبيل الوحيد للمضي قدمًا، فإن الجهود الدبلوماسية ومساعي الوساطة من جانب أطراف ثالثة لم تحقق أي نتائج تذكر. استمرت إثيوبيا في مساندة غلاة الأمهرة في الادعاء بأن الفشقة هي أراضي أثيوبية. كما أن الجيش السوداني منذ استعادته للسيطرة على الفشقة ، يؤكد دوما  تمكنه من  صد محاولات "التوغل" من قبل القوات الفيدرالية الإثيوبية والميليشيات المحلية من ولاية الأمهرة إلى الأراضي السودانية.

علاوة على ذلك، من المحتمل أن يؤدي التصعيد بين الطرفين إلى توظيف معبر ميتيما-جلابات الحدودي   لأغراض سياسية. وعليه فإن الحرب الأهلية التي لم يتم تسويتها بين الحكومة الفيدرالية والجبهة الشعبية لتحرير التيغراي، بالإضافة إلى أيدي إريتريا الخفية في أزمة شرق السودان قد تعرقل إمكانيات التسوية لهذا النزاع الحدودي. علاوة على ذلك، فإن المزاعم الأثيوبية بأن السودان يؤوي "جماعات إرهابية" بين صفوف اللاجئين. ومع ذلك فإن تحول التصعيد إلى حالة حرب مفتوحة بين الطرفين يبدو مستبعدا نظرا لضعف الحكومة المركزية في كل من الخرطوم وأديس أبابا، بالإضافة إلى التحديات الأمنية والاقتصادية التي تواجهها حكومة البلدين.

عوضا عن ذلك سوف يستمر الصراع على وضعه المعتاد حيث يتمسك كل طرف بروايته ويسوقها لجمهوره في الداخل كسبا للتأييد والشرعية. على سبيل المثال تعد السيادة السودانية على الفشقة صرخة استنفار من أجل الوحدة الوطنية حيث أنها قضية تحظى بالإجماع الوطني. لقد وحدت جهات فاعلة سياسية مختلفة وخلقت حالة نادرة من الاتفاق بين الأحزاب السياسية والجيش. أما بالنسبة لإثيوبيا، فإن االفشقة تتمتع بأهمية سياسية واقتصادية بالغة. وتتعرض حكومة ولاية أمهرة الإقليمية بشكل خاص لضغوط من السكان المحليين للاحتفاظ بالسيادة على المنطقة. وهي بدورها تمارس ضغوطا سياسية على الحكومة الفيدرالية، الأمر الذي قد يخلق شرخا خطيرا في الحزب الحاكم إذا لم يحافظ على هذا الشرط.

وأخيرا توجد آليات مختلفة يمكن أن تستخدمها إثيوبيا والسودان لإيجاد حلول مستدامة. بيد أن استراتيجية منليك التوسعية التي تتبناها أثيوبيا، بالإضافة إلى ازدواجية المعايير في السياسة الأثيوبية الخارجية تقف حائلا أمام سبل التسوية السلمية بما في ذلك المفاوضات الثنائية، وإشراك وسطاء من أطراف ثالثة، أو استخدام التحكيم الدولي إذا فشلت جميع السبل الأخرى. وبالفعل لم تحظ عروض الوساطة التي قدمتها دول أخرى، بما في ذلك جنوب السودان وتركيا ، بدعم كافٍ من الجانب الأثيوبي.  ولعل ذلك يعكس نفس العقلية الأثيوبية في مفاوضات سد النهضة والتي تفضل الخطوات أحادية الجانب.  و في نهاية المطاف، يجب أن يتوصل الجانبان إلى اتفاق سياسي يمهد الطريق لتسوية كل الأزمات المتشابكة بما في ذلك حرب التيغراي وأزمة سد النهضة والنزاع حول الفشقة. وفي جميع الأحوال ينبغي العمل على المدى القصير، من أجل تخفيف حدة التوترات لمنع التصعيد أو الدخول في صراعات وحروب بالوكالة، والتي قد تصبح عاملاً آخر مزعزعًا للاستقرار في كل من إثيوبيا والسودان ومنطقة القرن الإفريقي.