تم توقيع اتفاقية فضِّ النزاع المنشطة في جمهورية جنوب السودان، في 12 سبتمبر/أيلول 2018، في أديس أبابا، بين أطراف النزاع والمجتمع المدني بعد مفاوضات امتدت إلى قرابة العام. وكان الأمل أن يمهد هذا الاتفاق السبيل إلى سلام واستقرار مستدامين، وإحداث إصلاحات مهمة في مؤسسات الدولة وسياساتها، وخلق الظروف المواتية لأرضية ديمقراطية تقود إلى انتخابات حرة ونزيهة؛ لينتقل الحكم إلى قادة اختارهم المواطنون يُدخلون البلاد عهدًا ديمقراطيًّا متعدد الأحزاب.
نصَّت اتفاقية السلام المنشطة على تكوين حكومة انتقالية تتولى تنفيذ بنود الاتفاقية وتشرف على قيام الانتخابات قبل شهرين من نهاية الفترة الانتقالية. الجدير بالذكر، أن فترة تنفيذ الاتفاقية قد جرى تقسيمها إلى فترتين: الفترة قبل الانتقالية ومدتها ثمانية أشهر تليها الفترة الانتقالية وتمتد إلى 36 شهرًا، ولكل فترة مهام محددة في الاتفاقية.
من الفترة قبل الانتقالية إلى تنفيذ الاتفاقية
الهدف من هذه الفترة الزمنية هو التحضير للمرحلة الانتقالية حتى يبدأ تنفيذ مهام الفترة الانتقالية من أول يوم دون تأخير. ومن مهام هذه الفترة الأساسية: توحيد قوات أطراف النزاع، وإنشاء جيش قومي وأجهزة أمنية قومية تدين بالولاء للوطن وليس لشخصيات مهما كانت مواقعهم في السلطة. كما كان من المتوقع خلال الفترة قبل الانتقالية أن تتفق أطراف الاتفاقية بعد التشاور بينها على إنشاء مؤسسات الحكم الانتقالي الآتية:
1. على مستوى الحكم القومي: تسمية أعضاء مؤسسة الرئاسة ومجلس الوزراء والمفوضيات والمجلس الوطني التشريعي الانتقالي ومجلس الولايات.
2. على مستوى الولايات: تسمية حكام الولايات ومجالس الوزراء الولائية والمفوضيات والمجالس التشريعية الولائية.
3. على مستوى الحكم المحلي: تسمية محافظي المقاطعات وأعضاء مجلس الحكم المحلي في كل مقاطعة.
في اليوم الأخير للفترة قبل الانتقالية أو قبله بقليل، كان من المتوقع -على حسب بنود الاتفاقية- أن يصدر رئيس الجمهورية مراسيم بتعيين: مؤسسة الرئاسة، ومجلس الوزراء، ومجلسي الجهاز التشريعي، وحكام الولايات، والمجالس التشريعية الولائية. كل ذلك كي تبدأ حكومة الوحدة الوطنية الانتقالية في أداء مهامها منذ اليوم الأول للفترة الانتقالية. وبعد أداء اليمين الدستورية، يصدر كل حاكم من حكام الولايات العشر قرارات بتعيين مجلس الوزراء الولائي والمفوضيات والمحافظين والمجالس المحلية في مقاطعات الولاية التابعة له.
بدأ تنفيذ الاتفاقية ببطء شديد وانتقائية دقيقة في المواد التي يجري تنفيذها. وقد مضت ثمانية الأشهر بدون إنجاز يُذكر مما دفع بأطراف الاتفاقية إلى مدِّ الفترة قبل الانتقالية لستة أشهر أخرى حتى يتم توحيد القوات وتكوين جيش قومي وأجهزة أمن قومية أخرى، بالإضافة إلى الاتفاق على شاغلي المواقع الدستورية على مستويات الحكم الثلاثة، كما بيَّنَّا أعلاه. إلا أن هذه الفترة الإضافية مرَّت كسابقتها ولم يُنجز شيء، وقد اضطرت الأطراف إلى مدِّ الفترة قبل الانتقالية مرة أخرى لمئة يوم أخرى. وهكذا، أصبحت الفترة قبل الانتقالية 17 شهرًا و10 أيام عوضًا عن 8 شهور فقط كما نصَّت اتفاقية السلام.
لذلك، عندما انتهت فترة المد الثاني للفترة قبل الانتقالية تخوف الضامنون للاتفاقية من أن يؤدي المد المتكرر إلى انهيار الاتفاقية قبل بداية التنفيذ؛ وعليه ضغطت على الأطراف لتدخل مباشرة في الفترة الانتقالية. وبالفعل، جرى إعلان تكوين المؤسسة الرئاسية، في 22 فبراير/شباط 2020، ومعه بداية الفترة الانتقالية. وتم نقل كل مهام الفترة قبل الانتقالية إلى الفترة الانتقالية. منذ ذلك التاريخ والأطراف منخرطة في تكوين أجهزة الحكم غير آبهة بمهام الفترة الانتقالية. وحتى لحظة الكتابة، لم تفرغ الأطراف من تكوين المفوضيات القومية والمجالس المحلية في المقاطعات وهي -كما ذكرنا أعلاه- من استحقاقات الفترة قبل الانتقالية.
وكما أشرنا، فإن إجراء انتخابات حرة ونزيهة وذات مصداقية محدد له أن يتم بعد مضي 34 شهرًا من الفترة الانتقالية. في هذه الفترة الزمنية كان من المتوقع أن يتم تطبيق بنود الاتفاقية التي تسهم في خلق مناخ مواتٍ لقيام الانتخابات بالصورة المرضية للجميع. هذه البنود تتعلق بدمج القوات وخلق قوات قومية موحدة، وإجراء تعداد سكاني، واعتماد دستور دائم للبلاد، والإصلاح القضائي، وإعادة ملايين اللاجئين والنازحين داخليًّا إلى مناطقهم وإعادة توطينهم، وسنِّ القوانين اللازمة لعملية الانتخابات مثل قانون الأحزاب السياسية وقانون الانتخابات القومية وقانون الأمن القومي. كل هذه القوانين الهدف منها كفالة الحريات لخلق جو ديمقراطي معافى لا يمكن إجراء انتخابات بدونه.
بالإضافة إلى هذه المتطلبات، هناك مشكلة أخرى ستعرقل الانتخابات إذا ما لم يتم احتواؤها بسرعة وهي ارتفاع وتيرة الصدامات بين المجتمعات المحلية من ناحية، وبينها وبين الحكومة من ناحية أخرى. وفي الأيام الأخيرة وردت أنباء عن صدامات في منطقة التونج في ولاية واراب بين المواطنين المسلحين وقوات الحكومة مات على إثرها ما يزيد على الستين من قوات الحكومة، كما استمرت الصدامات فيما بين المجتمعات المدنية: تويج وأبيى، ومايوم وواراب بالإضافة إلى اشتباكات أعنف بين المورلى من جهة، والنوير والدينكا من الجهة الأخرى.
الآن، تبقت ستة أشهر فقط على إجراء الانتخابات، حسب اتفاقية السلام المنشطة، ولم يتم تنفيذ أي من الاشتراطات الضرورية لتنظيم الانتخابات وهذه المدة غير كافية لإنجازها. السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل ستُقام الانتخابات رغم عدم وجود الأرضية المناسبة التي تجعلها حرة ونزيهة وذات مصداقية؟
سنحاول في هذه الورقة الإجابة على هذا السؤال، كما سنتناول المآلات المتوقعة في حالة عدم قيامها في الوقت المحدد.
خيارات عدم إجراء الانتخابات في موعدها
من الواضح أن عدم تنفيذ الاتفاقية فعل متعمد من قبل الطرف الأكبر في اتفاقية السلام المنشطة. فقد أبدى هذا الطرف غياب الإرادة السياسية لتنفيذ الاتفاقية منذ بداية تنفيذها مما أدى إلى مدِّ الفترة قبل الانتقالية مرتين. كما نشط نفس الطرف في الفترة الأخيرة داعيًا إلى إجراء الانتخابات في عام 2023 رغم عدم الإيفاء بمتطلبات تنظيم انتخابات حرة ونزيهة، مما يُفهم منه أن هذا الطرف يريد فرض الأمر الواقع باسم الانتخابات. ولا يختلف اثنان على أن هذه الخطوة الأُحادية تمثل طريقًا محفوفًا بالمخاطر كما أنها تضيِّق خيارات الحلول السلمية لأزمة جنوب السودان، بل ربما تفجر العنف من جديد، خاصة أن قوات المجموعات المسلحة لم يجرِ توحيدها مع قوات الحكومة وما زالت تدين بالولاء لقادتها.
ومن المؤكد أنه إذا لم يتم إجراء الانتخابات في موعدها، فأول ما يتبادر إلى الذهن هو إرجاء تنظيمها إلى حين تنفيذ المتطلبات الضرورية لكي تكون انتخابات حرة ونزيهة تقبل كل الأطراف بنتيجتها. ولكن هل هذا الإرجاء يعني مدَّ فترة الحكومة الانتقالية الحالية؟ وإذا كان الأمر كذلك، ما الجديد الذي سيجعلها تنفذ ما فشلت في تنفيذه في الفترة السابقة؟ وإذا لم يكن الأمر كذلك، ما الخيار أو الخيارات المتاحة؟
على ضوء غياب الإرادة السياسية لتنفيذ متطلبات إجراء انتخابات حرة ونزيهة وذات مصداقية ليس من الحصافة بمكان التفكير في مدِّ الفترة الانتقالية تحت الحكومة الانتقالية الحالية؛ إذا كان الهدف هو التحضير لإجراء تلك الانتخابات. ومما يشهد على غياب الإرادة السياسية موضوع توحيد القوات الذي لم ينجز والذي هو شرط أساسي لإجراء الانتخابات، فقد كان من المفترض أن يتم قبل 12 مايو/أيار 2019م ولكنه لم يبرح مكانه حتى الآن بعد مضي 4 سنوات من توقيع الاتفاقية، فكم من سنوات أخرى تحتاجها الأطراف لتنفيذ هذا الإجراء؟! إذن، المعضلة ليست ضيق الوقت وإنما غياب الإرادة السياسية، وهذا لن يتغير بطول الزمن. العكس صحيح، فإن مدَّ الفترة الانتقالية تحت الحكومة الحالية سيخدم أهداف من وضعوا العراقيل أمام تنفيذ الاتفاقية منذ البداية لإطالة وجودهم في السلطة.
الخيار الآخر يتمثل في وضع جدول زمني لتنفيذ المتطلبات الضرورية لإجراء انتخابات حرة ونزيهة ومنها توحيد القوات ووضع دستور دائم للبلاد والذي على أساسه سيتم إجراء الانتخابات كما ورد في اتفاقية السلام. بناءً على هذا الجدول الزمني، تقرِّر الأطراف الزمن الإضافي المطلوب لإجراء الانتخابات. وإذا تعدى هذا الجدول يوم 22 فبراير/شباط 2023، التاريخ المحدد حسب الاتفاقية لتسليم السلطة لحكومة منتخبة، كما هو متوقع، يتم التفاوض حول النظام الانتقالي الجديد الذي سيشرف على قيام الانتخابات.
أسس إنهاء ولاية الحكومة الانتقالية
تستمد حكومة جنوب السودان الحالية شرعيتها من اتفاقية السلام المنشطة عام 2018، والمادة 1.1 في الاتفاقية تنص بوضوح على ذلك. كما يقر البند 1.1.1 ما نصه: "يتم إنشاء حكومة الوحدة الوطنية الانتقالية المنشطة في جنوب السودان المكلفة بمهمة تنفيذ هذه الاتفاقية"، كما يشير البند 1.1.4 إلى أن مدة ولاية هذه الحكومة هي الفترة الانتقالية. وعليه، ليست لحكومة جنوب السودان أية شرعية أخرى. لا يوجد نص دستوري أو في اتفاقية السلام المنشطة تمنحها حق الاستمرار بعد نهاية الفترة الانتقالية في 22 فبراير/شباط 2023. إذن، إذا لم تقم انتخابات ليختار الشعب حكومته التي تستلم السلطة في 22 فبراير/شباط 2023، سيكون لزامًا على أبناء وبنات جنوب السودان العودة لمنبر التأسيس للاتفاق حول خارطة طريق لمستقبل البلاد. هذا الوضع لم ينتج لسبب قاهر منع الحكومة من إجراء الانتخابات، وإنما لأنها لا تريد ذلك.
حدث وضع مماثل عام 2017، ففي يوليو/تموز 2016، اندلعت مواجهة مسلحة في القصر الرئاسي بين طرفي اتفاقية السلام لعام 2015، توسعت فيما بعد إلى حرب أهلية واسع النطاق. عند اندلاع الحرب كان السؤال المطروح هو: في غياب النائب الأول لرئيس الجمهورية الذي أُقصي من جوبا نتيجة للمواجهات المسلحة وتم تعيين بديل له من قبل الطرف الآخر من طرفي الاتفاقية، هل ما زالت اتفاقية السلام عام 2015م سارية المفعول؟ حاولت الإيغاد والترويكا وآخرون من ذوي الشأن الإجابة على هذا السؤال وتباينت الآراء بين أن الاتفاقية تترنح أو تقف على رجل واحدة أو في غرفة الإنعاش...إلخ. كل ذلك لتفادي الاعتراف بأنها انهارت لأن ذلك سيعني انهيار حكومة جنوب السودان التي كانت تستمد شرعيتها من تلك الاتفاقية وبروز فراغ دستوري. في النهاية، جاء رئيس المفوضية المشتركة للرصد والتقييم، الرئيس فيستوس موهاي، بمقترح "تنشيط" الاتفاقية؛ مما يعني قبول مقولة إنها كانت في غرفة الإنعاش. قبلت دول الإيغاد هذه الفكرة ولذلك قررت في اجتماع القمة في أديس أبابا، في يونيو/حزيران 2017، قيام منبر عالي المستوى لتنشيط الاتفاقية. بعد ذلك، جرت دعوة كل الأطراف السياسية والمجتمع المدني في جنوب السودان لمفاوضات السلام التي عُقدت في أديس أبابا، في ديسمبر/كانون الأول 2017، وهي التي قادت إلى اتفاقية السلام المنشطة عام 2018. لم تقتصر الدعوة على طرفي الاتفاقية الاثنين في ذلك الوقت بل امتدت إلى عدد مقدَّر من القوى السياسية والعسكرية التي برزت في تلك الفترة والمجتمع المدني. هذه الاتفاقية الجديدة هي التي أضفت الشرعية على حكومة جنوب السودان الحالية، كما أسلفنا. النقطة الأساسية هنا هي التأكيد على دعوة كل الأطراف إلى مائدة مستديرة للاتفاق حول مستقبل البلاد.
دور المجتمع الإقليمي والدولي في إنهاء أزمة جنوب السودان
لعب المجتمع الدولي وخاصة الولايات المتحدة الأميركية دورًا محوريًّا في البحث عن السلام في السودان منذ أن عيَّن الرئيس الأميركي، جورج دبليو بوش، صديقه السيناتور، جون دانفورث، مبعوثًا خاصًّا للسلام في السودان، في 6 سبتمبر/أيلول 2001. حينها كانت هناك مفاوضات سلام قائمة ولكن متقطعة منذ عام 1994 بين حكومة السودان والحركة الشعبية/الجيش الشعبي لتحرير السودان تحت وساطة الهيئة الحكومية للتصحر والتنمية. ساعد المبعوث الأميركي في تركيز المفاوضات وتم توقيع اتفاقية السلام الشامل بين الطرفين، في يناير/كانون الثاني 2005، في عهد الرئيس بوش وبدأ التنفيذ في عهده أيضًا. مضى خَلَفه، الرئيس باراك أوباما، في نفس اتجاه المتابعة اللصيقة لعملية السلام حيث تبنَّى الحزبان، الجمهوري والديمقراطي، سياسة موحدة تجاه السودان. لم يكن دور الولايات المتحدة الأميركية محصورًا فقط في تسهيل الوساطة وإنما تعدى ذلك إلى الضغط على الطرفين للالتزام بتطبيق الاتفاقية حسب الجداول الزمنية المتفق عليها. على سبيل المثال، في ظل التنافر بين طرفي اتفاقية السلام الشامل، أصرَّت أميركا على إجراء استفتاء جنوب السودان حول مستقبله في الزمن المحدد دون تأجيل. أما الإقليم، فبالإضافة إلى أنها قامت ممثلة في الهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد) بدور الوساطة المباشرة بين الطرفين فقد لعبت دور الضامن للاتفاقية. ومن جانبها، دفعت الأمم المتحدة بقوات حفظ السلام عُرفت بـ"بعثة الأمم المتحدة في السودان" (UNMIS).
وعليه، عندما اندلعت الحرب في جنوب السودان، في ديسمبر/كانون الأول 2013، تحركت إيغاد بسرعة وعرضت الوساطة على الطرفين المتحاربين (الرئيس ونائبه) وقبلا بتلك الوساطة. وهكذا انطلقت، في يناير/كانون الثاني 2014، مفاوضات قادت إلى اتفاقية السلام عام 2015. كان خلف الإيغاد دول الترويكا والاتحاد الأوروبي ومنبر أصدقاء الإيغاد والصين ودول أخرى وهي التي -خاصة دول الترويكا والاتحاد الأوروبي واليابان- قامت بتمويل المفاوضات. أما الأمم المتحدة فقد نشرت قواتها في جنوب السودان بعد الاستقلال مباشرة، عام 2011، وسُمِّيت "بعثة الأمم المتحدة في جنوب السودان" (UNMISS)، وكانت موجودة على الأرض عندما اندلعت الحرب حيث أنقذت آلاف الأرواح من المواطنين الذين كانوا مستهدفين من قبل الأطراف المتحاربة.
يعيب جنوب السودانيين على منظمة "إيغاد" والضامنين لاتفاقية السلام المنشطة أنهم لم يكونوا على قدر المسؤولية المتوقعة منهم في إلزام أطراف الاتفاقية بالالتزام بتطبيقها، وهم الذين وقَّعوا عليها من تلقاء أنفسهم برضى تام. استمر التلكؤ في التنفيذ دون أن يرفع أي من هؤلاء الضامنين والشهود إصبعًا لتذكير المتلكئين بضرورة تنفيذ الاتفاقية حسب الجدول المتفق عليه كما فعلت الولايات المتحدة عند تنفيذ اتفاقية السلام الشامل، عام 2005. ولذلك يحمِّلونهم جزءًا من مسؤولية ما آلت إليه الأمور في جنوب السودان الآن.
مؤتمر جامع للقوى السياسية والمجتمع المدني في جنوب السودان
الخيار الأمثل للخروج من أزمة نهاية الفترة الانتقالية دون انتخاب الحكومة التي ستحكم البلاد فيما بعد هو قيام مؤتمر جامع للقوى السياسية والمجتمع المدني في جنوب السودان؛ لتتحاور وتتفق حول جدول زمني لإجراء انتخابات حرة ونزيهة وذات مصداقية، وليختار شعب دولة جنوب السودان لأول مرة في تاريخه من يحكمه. وينعقد هذا المؤتمر في إحدى دول الإقليم ويُدعى له -بالإضافة إلى أطراف اتفاقية السلام المنشطة- المعارضون الذين تفاوضهم الحكومة الآن في منبر روما. لابد أن تلعب دول المنطقة ومعها الترويكا والأمم المتحدة دورًا مباشرًا في قيام المؤتمر ورعايته؛ لأنه من المتوقع أن تعارض بعض أطراف الحكومة الحالية ذلك وتصر على التشبث بالسلطة بدون وجه حق. بعد ذلك تقوم بدور الوسيط أو المسهل للحوار داخل المؤتمر بين أبناء وبنات جنوب السودان. وسيتداول المؤتمر كذلك مسألة تكوين حكومة رشيقة تكون مهمتها الأساسية هي الإشراف على قيام الانتخابات، وتتكون من التكنوقراط غير المتحزبين ممن ينتهي تكليفهم السياسي بتسليم السلطة للحكومة المنتخبة.
وشعب جنوب السودان يبحث عن جدول زمني جديد لإجراء انتخابات حرة ونزيهة، وهو جدول من شأنه أن يبرز قضيتين لا يمكن قيام الانتخابات بدونهما، وهما: توحيد القوات المسلحة واعتماد دستور دائم للبلاد. إذا تعذر توحيد القوات قبل وقت كافٍ على إجراء الانتخابات، سيكون لزامًا على بعثة الأمم المتحدة توفير الأمن أثناء الانتخابات وخاصة أن من اختصاصاتها بحكم البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة المساعدة في تطبيق اتفاقية السلام المنشطة والعملية السلمية، وحماية المدنيين، ومعالجة العنف بين المجتمعات.
ومنذ عام 2005، ظل جنوب السودان تحت حكومات انتقالية يديرها سياسيون في إطار تقاسم السلطة. فيما عدا الحكومة الانتقالية الأولى (2005-2011)، التي كانت تحت السودان الموحد، فشلت الحكومات الانتقالية الأخرى في نقل جنوب السودان إلى عهد ديمقراطي بدليل عدم إجراء أي انتخابات في جنوب السودان منذ استقلاله، في 9 يوليو/تموز 2011، واستشراء الفساد، واشتعال الحروب، وانفراط حبل الأمن في الأرياف. والأمَرُّ في الأمر هو أن الحرب الأهلية قامت مرتين بين الرئيس ونائبه، فهل نحتاج لتكرار هذه التجربة للمرة الثالثة؟ من القول المأثور: إنه "لا يُلدغ المؤمن من جحر مرتين"، فمن هو شعب جنوب السودان حتى يُلدغ ثلاث مرات؟
خلاصة
شهدت دولة جنوب السودان حربًا أهلية طاحنة بعد العام الثاني من قيامها، وقد ارتُكبت فيها كل أنواع الفظائع ضد المواطنين العزل من قبل طرفي النزاع. وقد أنهت اتفاقية السلام، عام 2015، الصراع على أسس تقاسم السلطة بين الطرفين. ولم يلبث الاتفاق طويلًا إذ انفجر العنف مرة أخرى في قصر الرئاسة بين الرئيس ونائبه الأول، في يوليو/تموز 2016، ثم تطور إلى حرب أهلية أخرى تعددت أطرافها. جاءت اتفاقية 2018 تنشيطًا للاتفاقية الأولى، وبُنِيت كسابقتها على تقاسم السلطة بين أطراف النزاع. نصَّت الاتفاقية على أن تُجرى الانتخابات بعد 34 شهرًا من بداية الفترة الانتقالية شريطة تنفيذ متطلبات محددة تضمن حرية ونزاهة الانتخابات.
بيد أن غياب الإرادة السياسية لتنفيذ الاتفاقية قاد إلى التباطؤ والتلكؤ والانتقائية في تنفيذ بنوده لدرجة أن الفترة قبل الانتقالية تم مدها مرتين لتصبح في النهاية 17 شهرًا وعشرة أيام بدلًا عن ثمانية الأشهر المنصوص عليها في اتفاقية السلام المنشطة. وتحت ضغط من الضامنين والشهود للاتفاقية اضطرت الأطراف إلى القفز إلى الفترة الانتقالية دون إكمال تنفيذ مهام الفترة قبل الانتقالية. لذلك حتى هذه اللحظة لم تفرغ الأطراف من تنفيذ هذه المهام المُرَحَّلة، ناهيك عن مهام الفترة الانتقالية نفسها وقد مضى عليها 28 شهرًا من عمرها المحدد بـ36 شهرًا. وعليه، من غير الممكن قيام الانتخابات في الفترة المتبقية.
يأمل الذين وضعوا العراقيل في سبيل تطبيق اتفاقية السلام المنشطة، بل يسعون إلى أن يتم مد الفترة الانتقالية مرة ومرات كما كانت الحال مع الفترة قبل الانتقالية. ولكن ذلك المسعى يفتقد إلى أي سند من الدستور أو من الاتفاقية؛ لأنه بانتهاء الفترة الانتقالية تكون الاتفاقية قد وصلت نهايتها وتفقد الحكومة الانتقالية الحالية شرعيتها. ولذلك لابد من التفكير منذ الآن حول ما سيؤول إليه الوضع السياسي والقانوني للبلاد بعد نهاية الفترة الانتقالية في 22 فبراير/شباط 2023 القادم.
أثبتت التجربة في جنوب السودان فشل أي اتفاق سلام مبني على تقاسم السلطة بين أطرافه كما أثبتت كذلك استحالة إرجاع الثقة المفقودة بين رئيس الجمهورية ونائبه الأول. لذلك لابد من البحث عن بدائل لإنقاذ شعب جنوب السودان من قبضة هؤلاء حتى يجدوا الفرصة لأول مرة لاختيار قياداتهم. من البدائل المطروحة قيام مؤتمر حوار جامع بين الكيانات السياسية والمجتمع المدني في جنوب السودان للتفكير حول كيفية التحضير سويًّا للانتخابات القادمة وكيفية إدارتها. من المتوقع أن يجد هذا الخيار معارضة من بعض أطراف الحكومة الحالية في جوبا؛ وعليه لابد أن تلعب دول الإقليم والقارة والمجتمع الدولي والأمم المتحدة دورًا موحدًا لضمان قيام المؤتمر حتى يتسنى لقادة جنوب السودان الحوار ليقرروا في شأن شعبهم الذي لم ير في دولة جنوب السودان المستقلة غير الحروب والموت والمعاناة مما أجبر الملايين -يُقدَّرون بثلث السكان- على اللجوء للدول المجاورة والنزوح الداخلي. هذا الوضع المزري يهز ضمير أي إنسان.
من المتوقع كذلك أن يلعب المجتمع الدولي دوره كاملًا كضامن وشهود على الاتفاقية الأخيرة في تسهيل ورعاية هذا الحوار بين أبناء وبنات جنوب السودان. ولبعثة الأمم المتحدة في جنوب السودان دور خاص الآن وعند قيام الانتخابات.