• اخر تحديث : 2024-11-22 10:05
news-details
قراءات

أثارت حالة مالي جدالاً مكثفاً حول النفوذ الروسي في أفريقيا ومدى توغل موسكو في القارة، خاصة بعد الصراع الروسي الأوكراني وامتناع غالبية الدول الأفريقية التصويت ضد روسيا، فضلاً عن اتخاذ الدول الأخرى موقفاً مؤيداً لها. وقد جاء ذلك في مقابل تراجع القوى التقليدية من غرب أفريقيا، وهو ما أثار التساؤلات حول حدود النفوذ الروسي وعما إذا كانت مالي حالة استثنائية أم أنها تكشف عن تغلغل روسي واقعي وممتد في القارة الأفريقية.

عودة موسكو:

بعد انقطاع دام لمدة عقدين، بدأت روسيا في إعادة علاقاتها مع أفريقيا تدريجياً منذ بداية القرن الحادي والعشرين، وقد أُعيدت تلك العلاقات على مرحلتين: الأولى من عام 2000 إلى عام 2013، والثانية من عام 2014 فصاعداً. ففي المرحلة الأولى في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، سعت روسيا للبحث عن شركاء لتعزيز رؤيتها لإقامة نظام متعدد الأقطاب، وبدافع من حرص روسيا على إعادة تأكيد مكانتها في النظام السياسي الدولي، وهو ما عززه نمو اقتصادها واستقرارها السياسي على المستوى المحلي. في هذا الإطار بادرت روسيا بشق طريقها إلى القارة من خلال التركيز على جنوب أفريقيا والاتحاد الأفريقي، وفي خطوة حاسمة في عام 2010، انضمت جنوب أفريقيا إلى البرازيل والهند وروسيا لتشكيل تحالف رباعي يسمى بريكس. وكان من المتوقع أن تهيمن اقتصادات دول البريكس على الاقتصاد العالمي بحلول عام 2030، ما يؤدي إلى إقامة نظام سياسي عالمي متعدد الأقطاب. علاوة على ذلك، عززت روسيا علاقاتها مع الاتحاد الأفريقي من خلال بعثات حفظ السلام، ومن خلال مشاركتها في فرقة لمكافحة القرصنة قبالة الساحل الصومالي.

أما في المرحلة الثانية بدءاً منذ عام 2014، اتبعت روسيا سياسة خارجية هجومية في أعقاب العقوبات الغربية التي فُرضت عليها نتيجة لضمها شبه جزيرة القرم من أوكرانيا. وهكذا حاولت روسيا جذب شركاء استراتيجيين جدد للتخفيف من آثار العقوبات، كما حاولت إثارة قلق القوى الغربية عن طريق ضمان انشغالها بمناطق أخرى. ولقد شمل هذا التحول في السياسة الروسية اتخاذ موقف عسكري أكثر تشدداً في الشرق الأوسط، وتحديداً في سوريا. أما بالنسبة لأفريقيا، فلقد تجلى اهتمام روسيا المتزايد بالقارة من خلال القمة الروسية الأفريقية في أكتوبر 2019 في سوتشي، والتي جمعت 43 رئيس دولة أفريقية.

وقد وقعت روسيا اتفاقيات للتعدين والنفط والاستثمار والطاقة النووية والتعاون العسكري بقيمة 12.5 مليار دولار مع حكومات أفريقية مختلفة. بيد أن التعاون العسكري هو الذي حصل على النصيب الأكبر من الاهتمام، مع الأخذ في الاعتبار أن روسيا قد باعت آنذاك 13٪ من أسلحتها لأفريقيا. ويتزامن هذا مع النهج الروسي في أفريقيا الذي أطلق عليه المراقبون "السلاح أولاً، التجارة لاحقاً". ولقد تضمن هذا النهج تنمية العلاقات مع القيادة السياسية الحاكمة قبل توالي العلاقات مع القطاعات الاقتصادية الاستراتيجية الأخرى، وهو ما حدث في أنغولا وموزمبيق وجمهورية أفريقيا الوسطى، ومؤخراً في مالي.

مالي نموذجاً

على الرغم من تقدم روسيا الكبير في أفريقيا، فلايزال نفوذها ضئيلاً مقارنةً بالقوى الأخرى، مثل الصين واليابان والولايات المتحدة. ولكن يمكننا القول إن التنامي السريع لنفوذ روسيا، لا سيما في مالي، قد أثار قلق القوى التقليدية.

إن استبعاد البعض لكون الانخراط الروسي في القارة بدافع انتهازي ليس تفكيراً سطحياً فحسب، بل وعاجز عن رؤية محاولات روسيا لإعادة ترتيب أوراقها السياسية الاستراتيجية والمعقدة. فعلى عكس القوى الغربية التي تقدم المساعدة بشرط التزام الدول بمعايير الديمقراطية والقانون الدولي والتنمية، نادراً ما تقدم روسيا المساعدات بناءً على هذه الشروط، وهو ما يمنح روسيا مرونة أكبر في علاقاتها السياسية مع الدول الأفريقية، التي تتنوع ما بين الأنظمة الاستبدادية إلى الأنظمة الديمقراطية. وفي هذا الإطار، تحصل روسيا على دعم معقول من الدول الأفريقية الأكثر ديمقراطية فيما يرتبط بالتطورات الحاسمة على الساحة الدولية، مثل ما يحدث في حالة التصويت في الأمم المتحدة. إلا أن الأنظمة الاستبدادية (التي تتجنبها الدول الغربية) هي التي تمنح روسيا فرصاً أكبر لترسيخ نفوذها بوضوح في القارة بمقابل "زهيد" مقارنةً بالديمقراطيات الغربية.

وتُعد مالي حالياً أكبر مثال على مدى تعقد سياسة روسيا – ومرونتها في الوقت ذاته – بشأن الأنظمة الاستبدادية لضمان تقارب المصالح مع الدولة المستهدفة، فلقد تمركزت روسيا استراتيجياً في مالي من خلال إقامة علاقات وثيقة مع المجلس العسكري المالي الذي تولى السلطة في أعقاب انقلاب أغسطس 2020 لملء الفراغ الناجم عن الخلافات بين القيادة العسكرية والقوة الاستعمارية السابقة، فرنسا. ومع تدهور العلاقات بين هذين الطرفين، أعلنت فرنسا انسحاب وحدتها العسكرية في مالي، لتنهي بذلك عملية "برخان" التي تقودها فرنسا منذ تسع سنوات ضد الجماعات الإسلامية في منطقة الساحل، والتي تشمل بوركينا فاسو وتشاد ومالي وموريتانيا والنيجر. وزادت عزلة مالي نتيجة العقوبات الإضافية التي فرضتها عليها المجموعة الاقتصادية الإقليمية لدول غرب إفريقيا (إيكواس) والاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء. لذا، أعادت روسيا تشكيل سياساتها لتؤمن لنفسها موطئ قدم في سلسلة من التحركات التي تؤكد سياستها المعقدة والمحسوبة في أفريقيا.

أولاً، عرضت روسيا الاعتراف بالمجلس العسكري المالي المحاصر الآن، ومثل هذا الاعتراف يُعد عاملاً مهماً لتأكيد شرعيته السياسية على المستوى المحلي. بالإضافة إلى ذلك، أرسلت روسيا إلى مالي في ديسمبر 2021 مجموعة فاغنر، وهي شركة عسكرية خاصة غامضة ذات صلة غير رسمية بالكرملين، ووزارة الدفاع (لاسيما وكالة الاستخبارات العسكرية الروسية)، وجهاز الأمن الفيدرالي. ومن الواضح أن أول عملية لفاغنر كانت حماية النظام المالي عن طريق تقديم الحراسات المسلحة وحماية البنية التحتية الحيوية من أجل تعزيز النظام.

ثانياً، استغل عملاء فاغنر الاستياء المحلي من الوضع الأمني، لا سيما إزاء تراخي الحملة العسكرية التي تقودها فرنسا ضد الجماعات الإسلامية، بهدف خلق سمعة إيجابية لتدخل روسيا في مالي. ففي يناير 2022، على سبيل المثال، نشرت مؤسسة حماية القيم الوطنية (وهي منظمة تربطها صلات بفاغنر) استطلاعاً يزعم أن الشعب المالي يدعم تعاون الحكومة مع فاغنر دعماً كبيراً ويرفض البعثة الفرنسية لمكافحة الإرهاب. وفي المقابل، استطاعت روسيا وضع يدها على النفط والغاز والماس والذهب والمعادن الثمينة الأخرى بمالي.

ولا يمكن إنكار أن استراتيجية روسيا القسرية في أفريقيا قد تسببت في خلل في ميزان القوى، فخفت كفة القوى السابقة، بينما مكنّت روسيا من التغلب على محاولات تهميشها على ساحة السياسة العالمية. ولجوء روسيا لجماعة فاغنر يعد منعطفاً حاسماً في انخراطها في القارة الأفريقية، ذلك لأن طبيعة فاغنر كشركة خاصة قد منح روسيا فرصة الإنكار المقبول، بحيث تتمكن روسيا من التنصل من صلتها بهؤلاء المرتزقة في أي وقت. بالإضافة إلى ذلك، صار التدخل العسكري لروسيا وبث نفوذها سهل التنفيذ من دون تكاليف باهظة نظراً لدعم روسيا القادة السياسيين بلا قيود ولا شروط ولا مشروعات تنمية باهظة الثمن ولا أي التزامات مالية. وفي مقابل ذلك، كسبت روسيا دعماً مهماً من القارة، وهو ما تجلى في مارس 2022، عندما امتنعت 17 دولة أفريقية عن التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة لإدانة الغزو الروسي لأوكرانيا، بينما صوتت 28 دولة أخرى في القارة لصالحها. والجدير بالذكر أن مالي كانت من الدول التي امتنعت عن التصويت.

عوائق التمدد

ظاهرياً، كانت عودة ظهور روسيا كمركز للقوة والنفوذ في القارة حافلة بالأحداث وسريعة ومحسوبة. لكننا نستطيع القول إن سرعة شق النفوذ الروسي طريقه في مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى قد تمخضت عن فروق طفيفة في تأثير روسيا على القارة ودورها المستقبلي فيها. ومع ذلك، فإن محاولات روسيا الانخراط في القارة ليست فعالة سوى في البدايات وعلى المدى القريب، ولكنها غير مستدامة على المديين المتوسط إلى الطويل. لذا من المرجح أن استهداف روسيا للدول التي تواجه اضطرابات سياسية، مثل مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى كدول ارتكاز لنفوذها، قد يؤدي إلى عرقلة الطموحات الروسية في المستقبل. والأرجح هو أن طريقة العمل الروسية المتمثلة في الاعتماد على النخبة السياسية، الأقلية، في بيئة متقلبة ستهدد استمرارية نفوذها على المديين المتوسط والطويل بسبب عدم الاستقرار السياسي والأمني.

علاوة على ذلك، ستستغرق الروابط التاريخية والسياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية الراسخة التي تجمع القوى الغربية وأفريقيا وقتاً طويلاً لتتراجع. وبالتالي، سوف يتطلب الأمر عقوداً هائلة من الاستثمارات الروسية المكثفة من أجل أن تتراجع تلك الروابط، وهنا تواجه روسيا عدة معضلات. أولاً، من المرجح أن تحل على المدى القريب محل السلطات التقليدية بوصفها مصدراً للعدوان بالنسبة للمجتمع المحلي. وهو ما يبدو أنه سيحدث في الغالب بعد ورود تقارير عن قيام عملاء فاغنر بانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وعمليات قتل من دون أحكام قضائية، وعمليات اختطاف. ثانياً، قد لا يكون المردود الاقتصادي لتمكن روسيا من الموارد الطبيعية والمعادن الأخرى مجدياً اقتصادياً في ظل وجود تقارير عن نضوب المعادن بعد سنوات من استغلال القوى التقليدية لها، فلقد توقفت، على سبيل المثال، أعمال التعدين في منجم كوميناك في مالي (وهو أحد أكبر مناجم اليورانيوم في العالم) في عام 2021 بسبب نضوبه، وهو عائق كبير نظراً لافتقار روسيا إلى القوة الاقتصادية التي تمكنها من مباراة القوى الغربية.

ثالثاً، تعتزم الدول الغربية اتباع سياسة أكثر تماسكاً في مواجهة النفوذ الروسي، لا سيما بعد الغزو الروسي لأوكرانيا. ومن شبه المؤكد أن مصالح الغرب ستلتقي بمصالح إدارة جو بايدن الأكثر توقعاً مقارنة بحكومة دونالد ترامب التي انسحبت من أفريقيا. ففي الشهر الماضي، أمر الرئيس بايدن بإرسال أكثر من 200 من قوات العمليات الخاصة في الصومال، وهو عكس قرار ترامب بسحب القوات الأمريكية من هناك. رابعاً، عجز روسيا عن التوصل لدولة ذات موقع جيوستراتيجي كدولة ارتكاز لنفوذها في المنطقة سوف يستمر في الحول دون تحولها إلى قوة كبرى في أفريقيا. فعلى الرغم من امتلاك مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى، على سبيل المثال، المعادن والموارد الثمينة الأخرى، لا تطل هاتان الدولتان على أي ساحل. وهذا يرجع بالتأكيد إلى أن القوى التقليدية ضاعفت جهودها لضمان نفوذها في هذه الدول الجيوستراتيجية، كما هي الحال مع المثال الأمريكي الصومالي.