بمعزل عن العلاقات التاريخيّة التي تربط الكيان المؤقت بنظيره السعودي، يُطرح ملف التطبيع في السنوات الأخيرة كمستوى جديد من تنسيق العلاقات بين الطرفين. ورغم دور ولي العهد محمد بن سلمان في توقيع اتفاقيات أبراهام، لا يزال يؤجّل الإعلان الرسمي لتطبيع السعودية مع العدو، في خطوة تهدف إلى الاستثمار السياسي لورقة التطبيع مع الإدارة الأميركيّة الراعية لاتفاقيات التطبيع العربي مع الكيان المؤقت. لكن المسؤولين الرسميين في الرياض دأبوا خلال العهد الحالي على التعبير بجرأة عن المواقف الإيجابيّة حيال العدو، الأمر الذي أسّس لجملة من الإجراءات التي تخدم هذا التوجّه، وهو ما يكشف حقيقة الموقف السعودي من الاحتلال، رغم تأخير الإعلان الرسمي. وبناءً على ذلك، كان للتّقارب السعودي الإسرائيلي المعلن إيجابيّات عدّة، تبدأ من إنهاء الموقف الضبابي للرياض وتموضعها الواضح في المحور الأميركي ـ الإسرائيلي.
الانحياز السعودي الواضح لمصالح الكيان المؤقت، أفقد الرياض هامش المناورة في العلاقات الخارجيّة، إذ تموضعت بعمق في المحور الأميركي ـ الإسرائيلي، وباتت تعكس خيارات هذا المحور ومصالحه في حركتها السياسيّة والعسكريّة في المنطقة. ولذلك، أصبح من اليسير فهم خلفيّات التحرّكات السعودية في المنطقة، سواء في اليمن وسوريا ولبنان والعراق.
مظاهر التطبيع غير الرسمي
لم يكن إعلان هيئة الطيران المدني السعودي فتح مجالها الجوي لجميع شركات الطيران، إلا إشارة إلى السماح لشركات الطيران الإسرائيلية بالمرور في الأجواء السعودية. كان ذلك، قبل ساعات من وصول الرئيس الأميركي، جو بايدن، إلى السعودية في 15 تموز/ يوليو 2022. وفي غضون أسبوعين، دخلت رحلة تجارية متجهة إلى الكيان المؤقت المجال الجوي السعودي للمرة الأولى منذ أن فتحت السعودية أجوائها أمام جميع الرحلات الجوية. في تأكيد واضح على أن القرار السعودي المعلن خلال الشهر الماضي كان يُقصد به الطيران الإسرائيلي.
تظهر الرحلات المتتالية لمراسلين ورجال أعمال ورجال دين صهاينة إلى السعودية، تسارع وتيرة التقارب السعودي الإسرائيلي. الرحلة الأخيرة قام بها "جيل تماري" مراسل "القناة 13" الإسرائيلية الذي وثّق في تسجيل مصور دخوله الأراضي المقدسة في السعودية. ظهر "تماري" في الشريط المصور وهو يقطع الطريق نحو مكة المكرمة بالسيارة ثم يدخل المدينة المقدسة ويتجول في شوارعها. إلا أنه بعدما أثار مقطع الفيديو ردود فعل شعبية غاضبة في الداخل السعودي اعتراضًا على زيارة الضيف غير المرحّب به، سارعت السلطات السعودية للتنصّل من مسؤوليتها بشأن الزيارة واتهام مواطن سعودي بأنه قام بتسهيل دخول المراسل الإسرائيلي إلى مكة، بحسب ما نقلته "وكالة الأنباء السعودية". وهذا يدل على رفض شعب الجزيرة العربية لمبدأ "الصداقة" مع الاحتلال الذي تروّج له السلطات، وإلا لما اضطّرت الرياض لاحتواء الموقف وحرف الأنظار عن مسؤوليتها المباشرة. ومن جهة أخرى، يدلّ على محاولة النظام السعودي الإيحاء للشعوب العربية والإسلامية بأن شعب الجزيرة العربية أصبح يتعاون مع الصهاينة وليس لديه مشكلة معهم، تمهيدًا للإعلان الرسمي للتطبيع السعودي مع الاحتلال لكنه فشل في ذلك لحد الآن.
في موازاة ذلك، "أكّدت مصادر مطّلعة لوكالة فرانس برس أنّه ليس لدى إسرائيل أيّ اعتراض على جزيرتي صنافير وتيران في البحر الأحمر إلى السعوديّة". انتقال السيادة على الجزيرتين من مصر إلى السعودية يعني أن الرياض ستدخل في تنسيق عسكري وأمني عالي المستوى مع الكيان المؤقت الذي يضع يده على هاتين الجزيرتين منذ حرب السويس 1950، بعد إعلان الرئيس المصري، جمال عبد الناصر، تأميم قناة السويس. وبالتالي، سيدخل الطرفان في علاقاتٍ رسميّة مباشرة.
تصريحات رسمية سعودية لـ "إنهاء الصراع مع الكيان"
إجراءت سبقتها تصريحات رسمية رفيعة المستوى في السعودية لإنهاء حالة "الصراع" مع الكيان المؤقت، وتصنيفه ضمن خانة الحلفاء، وهو ما عبّر عنه محمد بن سلمان في مقابلة له مع مجلة The Atlantic الأميركية، حين قال: "إن المملكة تنظر إلى إسرائيل كـحليف محتمل في العديد من المصالح المشتركة". أيضًا كانت تصريحات وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان مؤشر لافت على مسار العلاقات السعودية الإسرائيلية، فقد أعلن خلال جلسة بالمنتدى الاقتصادي العالمي في مؤتمر دافوس بسويسرا: "إن المملكة وإسرائيل ستجنيان فوائد هائلة من وراء التطبيع، وكذلك المنطقة ككل". وهو ما يظهر أن الرؤية السعودية في ملف التطبيع مع العدو لا تقتصر عند حدود جغرافيتها، إنما هي رؤية شاملة تضم كل دول المنطقة، ولذلك لم يعد مستبعدًا أن الرياض تتولى مهام دفع دول المنطقة للتطبيع سواء بالترغيب والترهيب، كما سبق وحصل في "اتفاقيات أبراهام" التي كانت السعودية الراعية غير الرسمية لها، حتى أن رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، بنيامين نتنياهو أشاد بنفسه بالدور السعودي في تلك الاتفاقيات، وقال ما نصّه: "أود أن أعبر عن تقديري لولي عهد المملكة العربية السعودية، محمد بن سلمان، لمساهمته في تحقيق اتفاقيات السلام التاريخية الأربع التي أتينا بها - اتفاقات أبراهام".
الموقف السعودي الإيجابي من الكيان المؤقت على سوئه، لا يخلو من الإيجابيّات، بالنّظر إلى أن السعودية تعلن للمرة الأولى في عهد محمد بن سلمان حقيقة موقفها من الكيان المؤقّت. فقد تجنّب المسؤولون السعوديون في السابق الإفصاح عن هذا الموقف، وفضّلوا العمل في الخفاء، وهذا ما جعل الرياض تحمل لواء الدفاع عن فلسطين لزمن طويل، مستفيدةً من قضيتها للاستثمار السياسي فيها.
انكشاف عدم أهليّة الرياض لحماية المقدسات الإسلامية
تظهر عدم أهليّة الرياض لحماية المسلمين في العالم، بعدما تجلّت حقيقة الدور السعودي في العالم الإسلامي بانحيازه المعلن لمصالح الاحتلال، والذي تجمع الشعوب العربية والإسلامية على معاداته. بمعنى أوضح، دأبت السعودية على الترويج إلى أنها وجهة المسلمين، في الوقت الذي كانت تستثمر فيه مكانتها الدينية بوجود الحرمين الشريفين، فاستقطبت طلاب العلوم الدينية، لتؤسّس حركة إرهابيّة تحقّق مصالحها، ثم صدّرتها إلى مختلف دول العالم، بذريعة الدفاع عن الإسلام والمسلمين.
في مقابل المحور الأميركي ـ السعودي، يبرز محور المقاومة كحامي فعلي لمصالح الشعوب في العالم الإسلامي، بدءًا من الحفاظ على مسار الصراع مع الكيان المؤقت، ومعاداة السياسات الأميركيّة التي انخرطت بها الرياض. يحرص محور المقاومة على الدفاع عن القضيّة الفلسطينية وتسخير إمكاناته العسكرية والأمنية والإعلامية لدعم الشعب الفلسطيني، وحثّه على الصمود. في انكشاف الموقف السعودي من التطبيع مع الكيان المؤقت، تخلّي واضح عن القضية الفلسطينية، واصطفاف في جيش العدو ضد الشعب الفلسطيني الذي تموضع بدوره في محور المقاومة.