مقدمة
أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن، في الأول من آب/ أغسطس 2022، مقتل زعيم تنظيم القاعدة، أيمن الظواهري، في غارة جوية أميركية في العاصمة الأفغانية كابل. وجاءت العملية قبل أسبوعين تقريبًا من الذكرى السنوية الأولى لانسحاب الولايات المتحدة الأميركية من أفغانستان، والذي ترتب عليه سقوط حكومة الرئيس أشرف غني المتحالفة معها وسيطرة حركة طالبان على مقاليد الأمور. وقد أدّت عملية الاغتيال إلى زيادة مستوى التوتر بين واشنطن وحركة طالبان، اللتين تبادلتا الاتهامات بخرق اتفاق الدوحة لعام 2020 الذي مهّد الطريق لانسحاب القوات الأجنبية من أفغانستان.
تجدد جدل الانسحاب
أثارت عملية الاغتيال الجدل من جديد في الولايات المتحدة حول إن كان قرار بايدن بالانسحاب من أفغانستان قد حدَّ من قدرات الولايات المتحدة، استخباراتيًا ولوجستيًا وعسكريًا، في التصدي للتهديدات التي تمثلها تنظيمات مثل القاعدة وداعش للمصالح الأميركية، وإن كانت قد أحدثت فراغًا ستملؤه تلك التنظيمات. وأكد بايدن، في نيسان/ أبريل 2021، أي قبل أربعة أشهر من الانسحاب الفعلي من أفغانستان، أنّ واشنطن ستظل تراقب "التهديد الإرهابي" هناك، وأنها ستبقي قدرات عسكرية واستخباراتية في المنطقة لتمنع عودته. وشدد على أن الولايات المتحدة ستحاسب طالبان في حال أخلّت بالتزاماتها في مفاوضات الدوحة بعدم السماح بأي تهديد إرهابي موجّه ضد الولايات المتحدة أو حلفائها انطلاقًا من الأراضي الأفغانية.
يعدّ اغتيال الظواهري بالنسبة إلى إدارة بايدن دليلًا على نجاح مقاربتها القائمة على "مكافحة الإرهاب في الأماكن البعيدة" أو "ما وراء الأفق"، أي دون وجود عسكري على الأرض. وقد حرص بايدن خلال إعلانه عن نجاح عملية استهداف الظواهري على التذكير بتعهده عند اتخاذه قرار الانسحاب من أفغانستان العام الماضي بمواصلة "عمليات مكافحة الإرهاب في أفغانستان وخارجها"، وبأنه حين اتخذ القرار بإنهاء المهمة العسكرية هناك كان على يقين بأن "الولايات المتحدة لم تعد في حاجة إلى نشر آلاف الجنود على الأرض في أفغانستان لحماية أميركا من الإرهابيين". وأكد أن واشنطن لن تسمح بـ "أن تصبح أفغانستان مرة أخرى ملاذًا آمنًا للإرهابيين... ولا يمكن أن تكون منصة لمهاجمة الولايات المتحدة". وترى هذه المقاربة أن مقتل الظواهري يثبت، في رأي إدارة بايدن، أنه إذا توافرت المعلومات الاستخباراتية الصحيحة فإن الولايات المتحدة قادرة على التعامل مع هدف محدد من بعيد؛ فقد باتت الأجهزة الاستخباراتية الأميركية تعتمد، إلى حد بعيد، على شبكات من العملاء على الأرض للرصد وجمع المعلومات، فضلًا عن الطائرات من دون طيار.
ترى مقاربة أخرى أن اغتيال الظواهري في كابل دليل فشل لا دليل نجاح لمقاربة إدارة بايدن؛ ذلك أن حقيقة وجود الظواهري في العاصمة الأفغانية، وفي أحد أرقى الأحياء التي يقيم فيها مسؤولو طالبان، دليل على أن أفغانستان تحولت عمليًا إلى ملاذ آمن للقاعدة ولقادتها. ويردّ ناقدو تأكيدات إدارة بايدن بأنّ وجود القاعدة فيها لم يعد يمثّل خطرًا جديًا على الولايات المتحدة، بما قاله مدير مكتب التحقيقات الفدرالي، كريس وراي، مؤخرًا، ومفاده أنه بعد الانسحاب من هناك وفقدان الكثير من القدرات والمصادر الأميركية على الأرض فإن مخاطر التخطيط لهجوم على الولايات المتحدة في أفغانستان تضاعفت. ويقول هؤلاء لا يمكن تعميم هذا النجاح، على الرغم من أهمية عملية تصفية الظواهري؛ إذ إن الأخير يمثل هدفًا عالي القيمة من الناحية الرمزية فقط، فالقدرات العملياتية على الأرض تقودها الآن دوائر وقيادات أقل بروزًا في القاعدة، ومن ثمّ، فإنّ رصدها واستهدافها أشد صعوبة.
كما تواجه واشنطن عقبات وتحديات لوجستية في سياق "مكافحة الإرهاب ما وراء الأفق". فمنذ الانسحاب من أفغانستان عكفت إدارة بايدن على وضع خطط وبدائل لوجود قوات أميركية على الأرض تمنع تنظيم القاعدة والتنظيمات الأخرى من تعزيز وجودها هناك، بما في ذلك مساعي القيادة الوسطى الأميركية، التي تقع أفغانستان ضمن نطاق عملها، إلى نقل بعض قواتها إلى باكستان أو طاجيكستان لتوفير القدرة على الرد السريع في حال بروز أي تهديد. إلا أن ذلك لم يتحقق بعد، ولا يبدو أنه سيتحقق في أيّ وقت قريب. ورغم أن الولايات المتحدة تحتفظ بقواعد عسكرية جوية في دول الخليج العربية وفي الأردن، ويمكنها إطلاق صواريخ بعيدة المدى من بوارجها الحربية القريبة من المنطقة، أو تنفيذ هجمات بطائرات من دون طيار، فإن المنتقدين يرون أن تلك الخيارات غير عملية، ومحفوفة بالمخاطر، خصوصًا في حال عدم توافر معلومات استخباراتية مباشرة. فإرسال طائرات من قواعد في دول الخليج، مثلًا، يحتاج وقتًا ليس بالقليل ويستلزم تزويدها بالوقود في الجو أكثر من مرة. وينطبق الأمر نفسه على الطائرات من دون طيار. ونظرًا إلى أنّ أفغانستان بلد حبيس، فإن تحليق الطائرات المسيّرة في حاجة إلى إذن من إحدى الدول المجاورة لدخول المجال الجوي الأفغاني، وبما أن إيران ودول آسيا الوسطى والصين، التي تشترك في حدود جبلية مع أفغانستان، لن تتعاون مع الولايات المتحدة في هذا الشأن، فإن الخيار الوحيد المتاح هو باكستان، التي تربطها علاقات معقدة مع الولايات المتحدة. أما الضربات الصاروخية الموجهة فتحتاج إلى تحديد أهداف على نحو دقيق على الأرض، وهي تستغرق وقتًا طويلًا أيضًا. ومن ثم، قد تضيع الفرص المتاحة.
معضلة العلاقة مع طالبان
تتمثل المسألة الأشد تعقيدًا بالنسبة إلى واشنطن، راهنًا، في كيفية التعامل مع حكومة طالبان في ضوء ما تعدّه خرقًا من قبلها لبنود اتفاق الدوحة لعام 2020، والذي نص على أن لا تسمح طالبان "لأي من أعضائها أو أفراد أو جماعات أخرى، بما في ذلك تنظيم القاعدة، باستخدام أراضي أفغانستان لتهديد أمن الولايات المتحدة وأمن حلفائها". وأوضح وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكين، أن طالبان "من خلال استضافة زعيم القاعدة وإيوائه في كابل، تكون قد انتهكت على نحو صارخ اتفاق الدوحة والتأكيدات المتكررة التي قدمتها للعالم بأنها لن تسمح لإرهابيين باستخدام الأراضي الأفغانية لتهديد أمن البلدان الأخرى". إلا أن إدارة بايدن تحاول أن توازن بين إبقاء الضغوطات على طالبان، وتشجيع الخلافات بين تيارات فيها، من جهة، والحيلولة دون انهيار حكمها بما ينجم عنه فراغ تملؤه تنظيمات متشددة، وتحديدًا تنظيم الدولة الإسلامية – ولاية خراسان، من جهة أخرى.
ضمن هذا السياق، تتنزل تصريحات مستشار الأمن القومي، جيك سوليفان، والتي ألقى فيها بالمسؤولية على شبكة حقاني، تحديدًا، في استضافة الظواهري وحمايته، ولم يحمّلها لطالبان في المجمل؛ فقد صرح: "نعتقد أن هناك أعضاء بارزين في شبكة حقاني ينتمون إلى طالبان يعرفون أن الظواهري كان في كابل. وربما كان هناك أعضاء آخرون في طالبان لا يعرفون". وتقول مصادر في الإدارة الأميركية إن ملكية المنزل الذي كان الظواهري يقيم فيه تعود إلى شخص مقرب من سراج الدين حقاني، وزير داخلية طالبان. وتؤكد الاستخبارات الأميركية أن ثمة علاقات وثيقة بين شبكة حقاني والقاعدة. وكان مسؤولون أميركيون اتهموا الشبكة بإخفاء جثة الظواهري بعد قتله، كما قاموا بنقل عائلته بسرعة من المنزل لإخفاء أي أثر يدل على وجودهم هناك.
وتأمل إدارة بايدن أن يؤدي الكشف عن وجود الظواهري في كابل من دون علم قيادات في طالبان إلى تعزيز موقف الجناح البراغماتي فيها، خصوصًا أنه جاء في ظل مساعي الحركة الحثيثة لتأمين شرعية دولية لحكمها في أفغانستان. وتحاول طالبان جاهدة منذ عام تأمين دعم دولي لمعالجة الأزمات الإنسانية والاقتصادية المتزايدة في ظل العقوبات الأميركية والدولية عليها والتي تسببت في معاناة كبيرة لأربعين مليون أفغاني. وكانت المساعدات المالية لأفغانستان قد انخفضت على نحو كبير منذ الانسحاب الأميركي، وقامت الولايات المتحدة بتجميد نحو سبعة مليارات دولار من أموال البنك المركزي الأفغاني، وأدى ذلك كله إلى انكماش اقتصاد البلاد بنسبة 30 إلى 40 في المئة.
وتخشى إدارة بايدن أن يؤدي اغتيال الظواهري في قلب العاصمة الأفغانية، بما يلحقه ذلك من أضرار بمحاولة طالبان تثبيت شرعية حكمها لدى قواعدها وداخل أفغانستان، والقائم على نجاحها في توحيد البلاد تحت سلطة واحدة قوية، إلى تعزيز أصوات التيارات المتشددة فيها. من هنا، فإن إدارة بايدن تحاول الموازنة بين إبقاء العقوبات على نظام طالبان من أجل حصد تنازلات أكبر منها في الوقت الذي أفرجت فيه عن بعض أموال أفغانستان المجمدة لديها، وسمحت بتدفق بعض المساعدات للتخفيف من حدة المعاناة الإنسانية ومعالجة أزمة الجوع. وتبدي إدارة بايدن أيضًا حرصًا على أن لا تؤدي الضغوطات على طالبان ومفاقمة الخلافات بين تياراتها المختلفة إلى وقوع اضطرابات في صفوفها تقود إلى عجزها عن الحكم مستقبلًا. وفي هذا السياق، يأمل بعض القادة العسكريين الأميركيين أن تجد طالبان أن من مصلحتها التعاون معهم في محاربة عدوّهما المشترك المتمثل في تنظيم الدولة الإسلامية، والذي يشهد نشاطه انتعاشًا في أفغانستان منذ الانسحاب الأميركي، ولا يتردد في استهداف طالبان وحكمها.
خاتمة
وضع مقتل زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري في كابل حكومة طالبان في موقف صعب، فهي من جهة أولى لا تستطيع أن تزعم أنها لم تكن تعرف بوجوده في قلب عاصمتها لأن ذلك سيظهرها ضعيفة. ومن جهة ثانية، إذا أقرت بأنها كانت تعرف بوجوده، حينها تكون قد انتهكت اتفاقية الدوحة لعام 2020. ومن جهة ثالثة، إذا ثبت أن بعض التيارات فيها كانت تعرف بوجوده وبتوافر الحماية له من دون علم قيادة الحركة، فإن هذا سيظهرها منقسمة وغير موحدة. وتدرك إدارة بايدن عمق الأزمة التي تواجهها طالبان وتحاول استغلالها للحصول على تنازلات في ما يتعلق بالتعامل مع التنظيمات المتطرفة، والابتعاد عن الصين، اقتصاديًا واستثماريًا، وتعزيز حقوق النساء، وغير ذلك من المسائل، لكن من دون أن يؤدي ذلك إلى تقويض حكمها بما يسمح بنشوء فراغ تملؤه التنظيمات المتشددة مثل تنظيم الدولة الإسلامية.