عندما احتفت المملكة العربية السعودية الأسبوع الماضي بيومها الوطني كان واضحا وجود تصدعات في الكيان الذي أعلن قيامه في 23 أيلول/ سبتمبر من العام 1932. في ذلك اليوم أصدر الملك عبد العزيز بن سعود إعلانا بتغيير اسم «مملكة نجد والحجاز» إلى الاسم الحالي.
ويتباهى أبناء الملك المؤسس أن أباهم وحّد الجزيرة العربية وجعلها قوة اقليمية مؤثرة. وعلى مدى العقود التسعة اللاحقة استمر بناء المملكة على أيدي أبناء عبد العزيز الذي توفي عام 1953. وتزامن رحيل عبد العزيز مع صعود دور مصر بعد الإطاحة بالملك فاروق في 23 تموز/ يوليو 1952، وبعد أربع سنوات أصبح جمال عبد الناصر رئيسا لمصر. وارتبط صعود الدور المصري بشخصية عبد الناصر التي رفعت شعار القومية العربية وأقامت مشروعها «الثوري» مرتبطا بقضية فلسطين. في تلك الحقبة كانت الحرب الباردة تتصاعد بشكل متسارع، وانعكست على منطقة الشرق الأوسط لتدخله مرحلة استقطاب بين تيارين «ثوري» محسوب على الاتحاد السوفياتي ويضم ذوي الاتجاهات اليسارية من شيوعيين وبعثيين وقوميين، و«رجعي» محسوب على المعسكر الغربي خصوصا الولايات المتحدة الأمريكية، ويضم حكومات دول الخليج بشكل خاص. كان الصراع محتدما بين «عروبة ثورية» بقيادة مصر و«إسلام محافظ» تتزعمه السعودية. كانت المملكة يومها تركز على تثبيت نفسها وتبحث عن دور يناسب وضعها وسط محيط مفعم بالحراكات الثورية والطروحات الأيديولوجية والصراعات الاستراتيجية التي كان النفط أحد محاورها.
ركزت مصر على المد الجماهيري المرتبط بالشخصية الكاريزمية للرئيس عبد الناصر، وتصاعد نغمة «النضال ضد الاستعمار والإمبريالية والرجعية» وسط شعارات ثورة الجزائر ونضال اليمن الجنوبي ضد الوجود البريطاني. وكانت الجامعة العربية التي كانت القاهرة مقرها الرئيسي، منبرا للطروحات الإيديولوجية والشعارات الثورية. أما السعودية فكانت تعتبر الجامعة الساحة الخليفية لمصر عبد الناصر، لذلك سعت لبسط نفوذها من خلال منظمات ساهمت في تأسيسها. ففي عام 1960 تأسست منظمة الأقطار المصدرة للنفط (أوبك) وأصبحت السعودية تمرر من خلالها السياسات النفطية ضمن تفاهمات عامة مع الدول الغربية. وفي عام 1969 تأسست منظمة المؤتمر الإسلامي وأصبحت ذراعا للحكم السعودي. وفي هذه الأثناء وقعت حرب حزيران-يونيو في 1967 الكارثية التي يمكن اعتبارها بداية انهيار الريادة السياسية المصرية في المنطقة بعد الهزيمة الماحقة التي منيت بها في الحرب.
كان رحيل جمال عبد الناصر عام 1970 نهاية فصل تاريخي مهم في التاريخ العربي المعاصر، ونهاية العروبة الثورية، وبداية لصعود الحقبة السعودية. وطوال الخمسين عاما اللاحقة سعت السعودية لتثبيت وجودها السياسي مستفيدة من تصاعد المدخولات النفطية بعد حرب أكتوبر 1973. تلك الحرب كانت محاولة لاستعادة الدور الريادي للدول المصري، ولكن تغير التوازنات السياسية في العالم والمنطقة حال دون ذلك. وبدلا من أن تتحول الحرب التي استطاعت مصر فيها تحقيق شيء من الإنجاز العسكري، أصبحت طريقا للمزيد من الانهيار العربي، أوصل الأمور بعد ستة أعوام فحسب إلى كارثة «كامب ديفيد». كانت المنطقة تتأرجح أيديولوجيا وسياسيا عندما حدثت الثورة الإسلامية في إيران في العام 1979 وقلبت الأمور جوهريًا. وأعقب انتصار ثورة إيران بشهور حدوث التمرد الذي قاده جهيمان العتيبي في تشرين الثاني \نوفمبر من ذلك العام ضد الحكم السعودي، فأصبح يشعر بالخطر المحدق داخليا وخارجيا. وللتخفيف من ذلك تم تأسيس مجلس التعاون الخليجي في العام 1981. هنا دخلت السعودية على الخط لتخفيف الصدمة التي مني بها التحالف الغربي، فبدأ فصل جديد أوصل الأمور إلى ما هي عليه الآن من توترات وصراعات بينية، وسباق على النفوذ بين الدول الكبيرة في المنطقة.
بعد خمسين عاما من النشاط الدبلوماسي والسياسي والتخطيط لتوسيع النفوذ والهيمنة، ثمة رؤية تقول إن المملكة العربية السعودية بدأت طريقها إلى الأفول كقوة إقليمية فاعلة، وإن سياساتها في السنوات الأخيرة تعكس ذلك المنحى. ومن مؤشرات ذلك عدد من الأمور منها ما يلي:
أولًا ـ تراجع دور الرياض الإقليمي في مقابل صعود الدور الإماراتي وتراجع العمل العربي المشترك. ويبدو أن ولي العهد السعودي أخطأ في تقدير العلاقات مع الإمارات. ومن المؤكد أن إمساك محمد بن سلمان بزمام الأمور في المملكة أضعف بلده لأنه أدى لإبعاد الرموز الأخرى من البيت السعودي عن المشهد، من ذوي الخبرة والتجربة. كان واضحا أن ولي العهد الإماراتي كان الأكثر تأثيرا وطموحا، بينما انشغل محمد بن سلمان بإخماد الفتنة التي أشعلها في البيت السعودي.
ثانيًا ـ الاعتماد المتزايد على الخارج، وبالتحديد الولايات المتحدة الأمريكية. هذا الاعتماد أظهر السعودية هشة وضعيفة وبلا إرادة أو قرار، حتى أصبحت الصورة العامة أن المملكة تأتمر بالأوامر المباشرة من البيت الأبيض، فإن طلب منها تحويل ما لديها من أموال فعلت ذلك بدون اعتراض. ويمكن القول إن إعطاء أمريكا 450 مليار دولار كان فضيحة غير مسبوقة في تاريخ الدول.
ثالثًا ـ النظرة لإيران والموقف منها ساهم في اضعاف السعودية كثيرا. فثمة فرق كبير بين وجود الأمير عبد الله بن عبد العزيز في القمة الإسلامية التي عقدت في طهران في العام 1997 التي أظهرت قوة المملكة من خلال تفاهمها مع جيرانها، والوضع الحالي الذي تجيش فيه العواطف والجيوش لاستهداف إيران، البلد الجار الذي يمكن، برغم الخلافات السياسية معه، أن يكون سندا لجيرانه.
رابعًا: ربما الخسارة الكبرى التي تكبدتها المملكة تفريطها بمجلس التعاون الخليجي الذي كانت تعتبره ساحتها الطبيعية ومجالها لإظهار جبهة مشتركة لمواجهة التهديدات الأمنية الداخلية والخارجية.
السياسة السعودية الساعية للاستحواذ وتهميش الآخرين لم تساعد على تماسك المنظمات المذكورة، سواء أوبك التي كثيرًا ما شهدت خلافات حادة بين أعضائها، أم منظمة المؤتمر الإسلامي (التعاون حاليا) التي بقيت هامشية وغير ذات أثر، أم مجلس التعاون الذي كان يحظى بشيء من الهيبة، وأصبح الآن يتصدع من داخله.
خامسًاـ أن سياسات السعودية الحالية وما تتضمنه من خروج عن الإجماع العربي حول القضية الفلسطينية ورفض التطبيع والالتزام بالمقاطعة، أضعف موقعها وأفقدها الريادة السياسية، وكل ذلك كان يمكن أن يوفر للسعودية موقعا قياديا لتوجيه العمل السياسي العربي.
سادسًا ـ أن وصول الحرب على اليمن بقيادة التحالف السعودي – الإماراتي إلى حالة الجمود، وفشل ذلك التحالف في تحقيق نصر عسكري، ساهم في إضعاف هيبة حكام الجزيرة العربية.
سابعًاـ تتضاعف متاعب المملكة مع تصاعد الأصوات من الجهات الحقوقية الدولية لإطلاق سراح السجناء السياسيين خصوصا النساء اللاتي ناضلن من أجل السماح بقيادة المرأة السيارة وإنهاء نظام «الولاية». هذا الاهتمام الدولي بالوضع السعودي الداخلي دفع عناصر وجهات معارضة لتوحيد صفوفها والإعلان عن حزب التجمع الوطني في خطوة غير مسبوقة.
ثامنًاـ السعودية على موعد مع حملة اعلامية وسياسية ضدها تتزامن مع الذكرى الثانية لقتل المعارض السعودي جمال خاشقجي الذي قتل عام 2018 داخل القنصلية السعودية بإسطنبول. وقد أكد الرئيس الأمريكي أنه ساهم في حماية ولي العهد السعودي من تحمل تبعات الجريمة المروّعة، ولكن ذلك لم يقلل الاهتمام بما حدث، بل تتعمق القناعة بدور ولي العهد في قتل خاشقجي.
هذه الحقائق تظهر منحنى التراجع في الأداء السياسي السعودي في السنوات الأخيرة. وليس أمرًا منطقيًا تجاهلها أو التقليل من شأنها وانعكاساتها على السعودية والمنطقة. وثمة خشية بأن لا تتوفر فرصة إحياء الذكرى التسعين لقيام الدولة السعودية، لأن المملكة مهددة بمرحلة من الاضطراب السياسي والأمني والاقتصادي لن يستطيع ولي العهد الحالي الذي لم يظهر مهارات قيادية تتناسب مع حجم بلده وموقعها، أو إرادة للتمييز بين الصديق والعدو بقدر يكفي لحماية نظام الحكم. والخشية أن لا تستمر تركة عبد العزيز بعد أن ينهي ولي العهد دور أبنائه في الحكم.