• اخر تحديث : 2024-05-15 19:58

مقدمة

في ظل عدم استقرار الدولة في ليبيا على المستوى المؤسساتي، وصراع أطراف عدة، محلية من حيث النشأة وأخرى خارجية من حيث التوجه والتبعية والأهداف، حول الثروة، عبر وراثة – إجبارية أحياناً – للثورة، التي أسقطت نظام الرئيس الراحل معمر القذافي نهاية عام 2011، تظهر الأدوار المتبادلة أو المتناقضة بين الجماعات الدينية في ليبيا اليوم لنهب الثروة، في ظل سياقين: الأول محلي، والثاني دولي، يختلفان في الوسائل، والتوجهات، لكنهما يلتقيان في الهدف.

ما يعني أن شد الرحال نحو ليبيا منذ 11 عاماً، هدفه نهب الثروة، وإن اختفى تحت مسميات مختلفة، وهو مسْعى أطراف خارجية، سواء كانت قوى دولية ذات مصالح، تتستَّر تحت شعار "تصدير الديمقراطية وحقوق الإنسان"، أو جماعات دينية، تُخفي أطماعها المالية، مثل: جماعة "الإخوان المسلمين، أو جماعات إرهابية أبرزها داعش"، التي أعلنت أطماعها في ليبيا منذ بداية نشوئها، كما جاء على لسان أميرها السابق في ليبيا “أبو المغيرة القحطاني”، الذي قال: "إن ليبيا لها أهمية كبيرة لموقعها في أفريقيا، وللجنوب من أوروبا، كما لها موارد طبيعية هائلة".

إن البحث في دور الجماعات الدينية لجهة نهْبها للثروة، يقودنا بالضرورة إلى النظر – ليس من زاوية التأمل فقط، وإنما من خلال الدراسة أيضاً – في أفعال، ظاهرها السلم والاستقرار وباطنها الحرب والفوضى، من جماعات دينية مقبولة على نطاق ضيق أو واسع في المجتمع، كونها تسربت داخل المؤسسات، وبدت مدافعة عن حقوق الشعب، ثم اتَّخذت طريقها سرباً عبر تلك “المظلومية” نحو نظام الحكم بعد سقوط نظام القذافي، وفي أفعال جماعات أخرى تأسس قادتها الليبيون خارج بلادهم أيضاً، ثم عادوا إليها حاملين ومنذرين بالعنف، ثم هم اليوم أمراء للإرهاب، وبسلطتهم تلك يُسْهمون في نهب الثروة الوطنية، وكذلك في أفعال جماعات ثالثة قادمة من الخارج، تعمل من أجل “أسلمة المجتمع الليبي” لدرجة التشكيك في ميراثه الديني كله.

تلك الجماعات أو غيرها على المسرح الليبي، محلية كانت أو أجنبية، في نهبها المنظم أو الفوضوي للثروة، تتقاتل فيما بينها، وتتربص بالدولة الوطنية الدوائر، محاولة بقصد وزيف في المعنى، جعْل سلطة تديّنها أوسع وأعلى من مجال سلطة القانون، وبذلك نأت بعيدا في غيّها، بإبعادها لسلطتي” الدين والدولة” معاً، ذلك لأن “سلطة الدين مرجعيتها الضمير، وسلطة الدولة مرجعيتها القانون”، وهي تريد أن تلغي من حياة الشعب الليبي حضور الضمير، وقيام الدولة.

الإشكالية.. والتساؤلات

بناءً على ما سبق، فإن هذه الورقة البحثية تهدف إلى تركيز الضوء على مصادر دخل الجماعات الدينية في ليبيا – المحلية والواردة إليها – سواء تلك التي تتسرَّب داخل المؤسسات في محاولة منها لأسْلَمِة الدولة ضمن توجهاتها وقناعاتها الخاصة، واتخذت من السِّلم – أسلوباً ظاهراً منها إلى حين – في محاولة للتحكم في مسار الدولة الليبية ومصيرها، أو الأخرى التي تبنَّت منهج العنف والإرهاب ليس للتأثير في فعل القرار السياسي وصناعته فقط، وإنما في تملك مصادر القوة وخاصة المال، وتلك هي الإشكالية الأساسية لهذه الدراسة أيضاً.

في سياقٍ آخر شَارح لما سبق، ومختلف مع كثير من الأطروحات والمتابعات والدراسات التي قدمت شروحاً وافية حول الجماعات والتنظيمات الدينية، بل وعمّقت الفهم حول خطورتها على المجتمع والأمن والسياسة، أو تلك التي بحثت في مصادر تمويل الجماعات الدينية عبر العالم، فإن هذه الورقة تذهب في إشكاليتها البحثية إلى محاولة واعية لتقديم إجابة لعدد من الأسئلة، التي هي بالأساس قضايا جديرة بالبحث والورقة، من أهمها:

- لماذا اختارت الجماعات الدينية في ليبيا السعي بأشكال مختلفة للبدء بنهب الثروة قبل العمل من أجل الوصول إلى الحكم؟

- أين يلتقي بعض من عناصر الفساد مع الجماعات الدينية في نهب الثروة الليبية؟

- ما المشترك، وما مستويات التقاطع بين أسلوب تلك الجماعات والقوى الدولية في التنافس والصدام حول الثروات الليبية؟

- هل يُعتبر نهب الثروة، وخاصة عائدات النفط، من قِبل الجماعات الدينية مدخلاً لتقسيم ليبيا، كما حدث في الماضي الاستعماري؟، وهل سيترتب عليه وضع طبقي جديد في المستقبل؟

إجابات تلك الأسئلة، وغيرها، قد تُساعدنا على قراءة الفعل الإرهابي للجماعات الدينية – السلمية والعنيفة -باعتباره صراعاً جديداً، يستندُ في مشروعية وجوده إلى الفوضى وعدم الاستقرار، بحيث يحول دون قيام الدولة أو عودتها في شكليها التنظيمي والنظامي، ما يعني طرح ممارسة إرهابية ظاهرها السياسة والمطالبة بالعدالة، وباطنها إحقاق الباطل ونشر الفوضى، وإنهاء دور الدولة وسلطتها، ضمن عمليات متواصلة بصيغ مختلفة لنهب الثروة.

وللوصول إلى إجابةٍ للأسئلة المطروحة سنتطرق إلى قضايا أربع أساسية، الأولى: تركز على محاولات الجماعات الدينية نهب المال، باعتباره طريقاً للسلطة، والثانية: تتناول فضاءات التعاون والصراع في نهب الثروة الليبية بين جماعات الفساد من جهة، والجماعات الدينية من جهة ثانية، والثالثة: تخص “المشترك” في النهب بين الجماعات الدينية والقوى الدولية، والرابعة: تستشرف مستقبل ليبيا الجغرافي والاجتماعي على خلفية نهب الجماعات الدينية لثرواتها، وتأثير ذلك في الوضع الطبقي.. ويمكن تفصيل ذلك على النحو الآتي:

أولاً: نهب الثروة.. الطريق إلى السُّلطة

الحديث عن نهب الجماعات الدينية للثروة في ليبيا ليس لغواً أو خوضاً أو حتى ادعاءً – بالحق أو الباطل – في تجربة ما يعرف اليوم بـ “تيار الإسلام السياسي” في دولنا العربية وخارجها، ولكنه حقيقة تقوم على وعي مقاصدي هادف، ضمن الأطروحات النظرية والواقع العملي لتلك الجماعات، ليس لأنه لا يمكن لأي قوى حزبية أو اجتماعية أن تقوم وتواصل طريقها ما لم تكن ممولة، وإنما لأنها – الجماعات – تسعى إلى كسب السلطة من خلال القوة المالية، بحيث تكون صاحبة التمويل الذاتي من الثروة الوطنية.. إنها تستغني بقصد عن الدعم المحلي إلا من المقربين منها أو الذين يهادنونها، أو يخافونها، كما هي تتنافس على مصادر الدخل نفسه مع القوى الدولية.

على النحو السابق أصبحت الأولوية لديها هي السلطة، كونها متداولة بين الجميع بنسب مختلفة، وهي قادرة في النهاية أن تجعل منها حقاً مشروعاً، تتحكم من خلاله في المجتمع في ظل غياب نظام الحكم، وحتى في العناصر التي تمكنت من الوصول إلى السلطة عبر الانتخابات على غرار أولئك المنتمين إلى الإخوان المسلمين، وكأنها -دون وعي منها – ترث، جوراً التجربة الليبية في بداية ظهور” الحركة السنوسية”، التي” لم يكن إمامها يهدفُ مطلقاً إلى إقامة حكم شخصي لنفسه وأولاده وأحفاده من بعده، بل إن ما أراده كان أن يُعدَّ أساساً نظامياً لبعث الإسلام بعثاً أدبياً اجتماعياً سياسياً، وبمقتضى هذا الهدف فإنه لم يفعل شيئاً لهدم البناء القبلي التقليدي في المنطقة".

وبعيداً عن تأويلات التحليل للفعل الإجرامي للجماعات الدينية في ليبيا، فإن ترويجها المبكر لمعاداة النظام في تسعينيات القرن الماضي قد انتهى إلى يقين لمحاربة المجتمع كله بعد سقوط النظام أولاً، وتراجع الدولة ثانياً، ثم فشلها ثالثاً، وذلك من خلال نهب الثروات الوطنية، بل والاستيلاء على تمويل المؤسسات، وثروات الأفراد وملكياتهم، الأمر الذي يجعلنا أمام السؤال الجوهري التالي:

ــ هل أن ظهور ما يعرف بالحركة الجهادية في ليبيا عبر نشوء سرية المجاهدين من قبل مقاتلين قادمين من أفغانستان، لهم روابط قوية بتنظيم القاعدة يعود إلى تحضير واسع للاستيلاء على ثورات ليبيا، وبالتالي الوصول إلى الحكم في وقت لاحق؟

كثيرٌ من المعطيات والحقائق يؤكد هذا أو يشِي به، من ذلك: أن خطاب داعش مثلاً، جاء من بدايته معبّراً عن مد نفوذ هذا التنظيم إلى ليبيا، من منطلق أن هذه الأخيرة تمتلك ثروات طبيعية، وتحديداً البترول، ناهيك عن مركزها الاستراتيجي في الشرق الأوسط، وأفريقيا وقربها من أوروبا، وهذا سينتهي بالمنطقة كلها – دول الجوار الليبي – إلى أن تصبح ضمن دول “الطوق والنطاق”، التي تحدثت عنها وزيرة الخارجية الليبية، نجلاء المنقوش.

و”الحديث عمّا سمّته المنقوش بدول الطوق والنطاق، يشي بربط الداخل بالخارج، من حيث إن القوى الليبية المختلفة حتى المتصارعة، تدفع بالدولة نحو اتفاقات وتفاهمات مع محيطها الجِوَارِي، أو دول العالم الأخرى، لكنها لا تعرف بعد، بل قد لا تتوقع لمن ستكون الغلبة في المستقبل المنظور، إنما المؤكد أن الطرح السياسي قائم على موقف مُسْبق يتم التحضير له".

ومن المعطيات الأخرى، اعتبار ليبيا دار أمان وملاذ للجماعات الإسلامية، التي ظهرت في المشرق، خاصة القاعدة وداعش، كما نتبيّـن – أو نفهم – من استراتيجية القاعدة في نقل بعض من جماعاتها إلى الغرب الإسلامي مستفيدة من عدم الاستقرار في المنطقة، والمثال الأكثر وضوحاً هنا، هو قيام تنظيم أنصار الشريعة في ليبيا عام 2011، بالاستيلاء على كثير من المدن، منها درنة، وبنغازي، وغيرهما.

وقد كان السعي إلى نهب الثروة الليبية من قِبل تلك الجماعات، في بدايته ضبابياً لدى معظم الليبيين، كونه تميّـز بالدفاع عن حقوق المستضعفين في مختلف المناطق أمام توحش وتغول نظام، قامت سياسته على تحقيق عدالة اعتبرها كثيرون زائفة، ولأنه كان رد فعل من الإسلاميين أيضاً – خاصة الإخوان المسلمين – على تطويقهم، وعدم السماح لهم على المستوى التنظيمي باختراق مؤسسات الدولة الليبية، وإن كان قد تمكنوا من ذلك كأفراد.

لكن الأمر تغيّـر بعد سقوط نظام الحكم، وبلوغ السباق ذروته بين أطراف كثيرة متصارعة، وقيام تنظيم داعش – تحديداً – بعمليات إجرامية ضد العاملين في مجال النفط في محاولة لنهب الثروة الرئيسية للبلاد، كما فعل قبلها في العراق وسوريا.

وبناءً على ذلك، توسعت دائرة العنف، وغَدَا “ما يحدثُ من صدام مسلح في ليبيا ـ وهو سباق متواصل لأكثر من عشر سنوات ـ ظاهرُهُ الحرب الأهلية الساعية إلى السلم الاجتماعي حسب تصريحات القائمين به، وباطنُهُ تحقيق مآرب جماعات وتنظيمات يتداخل لديها المحلي مع الدولي لدرجة يتعذر الفصل بينهما، وذلك في حال تمكّن تيار بعينه من السيطرة على البلاد كلها، وليس الحكم فقط”، وهذا لن يتحقق كون الأطراف جميعها – جماعات دينية، سياسيون، رجال أعمال، قوى المجتمع المدني – تعمل من أجل نهب النصيب الأكبر من الثروة.

ثانياً: نهب الثروة الليبية.. فضاءات التعاون والصراع

في العمليات المتعددة والمتنوعة لنهب الثروة الليبية من طرف القوى السياسية المختلفة، ومن غيرها، “تبدو ليبيا، اليوم، بخيراتها الظاهرة والخفية أقرب إلى جنّة الفردوس بالنسبة إلى أهلها خاصة السياسيين منهم، من مختلف الاتجاهات، والحقب الزمانية، والنشأة المكانية، والانتماء العرقي، حتى إنه ليُخيل للمراقب أن ما عاشته ليبيا في جحيم معارك أهلية بدعم من المرتزقة والجماعات الأهلية هو مجرد وَهْم قائم في أذهان السكان".

الحالُ الليبية تلك تمثل مشهداً جانبياً واحداً، تزاحمُهُ مشاهد أخرى كثيرة تتعلق بالتحرك لأجل نهب الثروة من فاعلين على الأرض خاصة الجماعات الدينية المسلحة والمرتزقة، وأطراف سياسية وعسكرية أخرى، تتحرك في فضاء واحد، يفرقها الصراع في حالات كثيرة، ويجمعها التعاون الثنائي – البيني أو أكثر من ذلك في حالات قليلة نادرة – وفي حالتي الصراع والتعاون تسير نحو الفوضى نتيجة غياب السلطة الكاملة للدولة.

الأطراف المتصارعة أو المتعاونة في ليبيا، وهي تزحف نحو مجالات الثروة بأنواعها المختلفة – الخاصة بالدولة أو الأفراد – أسّست لمرحلة جديدة من التاريخ الليبي، ستعمّر في الذاكرة الجماعية باعتبارها مرحلة دم وعنف وفوضى، قامت على أنقاض مرحلة سابقة لها، كانت تُمثل استقراراً نسبياً، واستفادة جماعية من الثروة مع أن قسمتها كانت ضيزى، على الرغم من تعدد المظالم، وغياب الحريات، والتهور في استعمال العنف المنظم من الدولة أحياناً، لكنها غير واضحة الملامح من ناحية صناعة المستقبل.

الملاحظ، أنه في ظل الفوضى العارمة والسباق المتزايد لنهب الثروة لم تحقق المرحلة الجديدة تحولاً مختلفاً بالنسبة إلى معظم الليبيين، يحقق عدالة – ولو جزئية – في توزيع الثروة، بل على العكس من ذلك فقد زادت المظالم، مقارنة بعقود حكم الرئيس معمر القذافي، مع أن “كل التحولات، وخاصة إذا كان لها طبيعة شمولية، ويتبعها تأسيس كينونة سياسية جديدة، تقوم على نفي ما سبق” على المستويين النظري والعملي.

 

التحول السياسي في ليبيا آخذ في الابتعاد عن قيم الثورة، وهناك انحدار تدريجي للتخلي أو تناسي الآمال المنتظرة والأهداف المرجوة من الثورة.. إنها حالة من العد التنازلي كشفت في المحطات جميعها على أن الصراع بشقيه السياسي والعسكري، تتحكم فيه الثروة من حيث هي مبتغى، وإن لم يكن ذلك علنياً في المراحل كلها.

لنتأمل الوضع السياسي في ليبيا منذ سقوط نظام القذافي في جانبه الرسمي والتنظيمي، سنجد بدايته كانت مع توجه الليبيين لانتخابات تشريعية أسفرت عن أول برلمان، بعدها دعم المشير خليفة حفتر – الذي انتصر على جماعات إرهابية في الشرق – انتخابات جديدة لبرلمان قاطعهُ الإسلاميون، وانبثقت عنه حكومة في الشرق.

بعد ذلك سيطر الإسلاميون – ظاهر فعلهم سياسة، وباطنه إرهاب – على طرابلس وشكلوا حكومة فيها، وفي كل ذلك كان الصراع على أشده حول الثروة البترولية، ويمكن أن نستشف ذلك من بيانات وأخبار “مؤسسة النفط الوطنية” الليبية أو متابعة الهجومات التي تتعرض لها من مسلحي الأطراف المتصارعة، وخاصة الجماعات الدينية.

ولم تكتفِ عناصر الجماعات الدينية بنهب الثروة، بل عملت على شرعنتها، وتحكمت من خلالها في اقتصاد الدولة عبر “خصخصة” مدروسة، مرفقة بعلاقات دولية على نطاق واسع، هنا نورد تجربة “عبدالحكيم بلحاج”، وهو واحد من المتطرفين الإسلاميين أو أعضاء جماعة الإخوان المسلمين الذين تم تنصيبهم في السلطة في طرابلس، بدعم سياسي ومالي من دول عربية، ومن خلال موقعه استطاع نهب الثروة الوطنية الليبية.

لقد “أسس عبدالحكيم بلحاج حزب الوطن، وهو حزب إسلامي شارك في انتخابات يوليو 2012، وفي عام 2013، أسس شركة طيران الأجنحة الخاصة به.. وبعد ذلك بعام، اجتاح تحالف من الميليشيات المتطرفة العاصمة ودمَّر المطار الرئيسي واحتلّ مبناه.. وبحسب قائمة بمئة من أثرياء ليبيا الجدد، فإن ثروة عبدالحكيم بلحاج تصل إلى ملياري دولار".

ثالثاً: النهب المشترك.. أجنْدتان

العمل على نهْب الثروة الليبية ضمن عمل مُمَنْهَج، هو نتيجة حتمية للصراعات العسكرية والسياسية المحلية، وللتدخل الأجنبي العسكري من دول أو مرتزقة أو جماعات دينية متطرفة أيضاً، الأمر الذي أدى إلى توظيف الجغرافيا في الصراع بين شرق ليبيا وغربها، لم تُجْدِ معه تلك المؤتمرات الدولية التي جمعت الفرقاء الليبيين، وأدَّت إلى تقارب واتفاق على انتخابات رئاسية كان مصيرها التأجيل، وفي كل ذلك تتحكم مجموعتان من الأجندات، تتصارعان فيما بينهما:

الأولى: “مجموعة أجندات محلية، لها امتداد خارجي بما في ذلك إحضار المرتزقة، واستعمال السلاح، واللجوء إلى العنف، على خلفية حسابات تتعلق بالثروة، والأرض، وحتى العرق، وإن تمت تغطيتها بغلاف ديني”، والامتداد الخارجي لتلك الأجندات لا يخص القناعات الأيديولوجية، والتأطير النضالي، والانتماء الديني، إنما يشمل الفعل من حيث هو تحقيق سلطة على الأرض، ومواردها أيضاً، لدرجة يتعذر فيها فصل المحلي – الوطني، عن الدولي، بل إنهما يتداخلان أحياناً حتى يصبحان أمراً واحداً، وهنا يكون نهب الثروة عند القائمين بها عملاً متمماً للثورة، بل نتيجة منطقية لها.

الثانية: “مجموعة أجندات دولية، تحمل برنامجاً للحسم، في رفضٍ – بأشكال مختلفة – لايزال إلى الآن يُحافظ على الحدود الدُّنيا في صِيَغِهِ العلنية للتعامل بشرعية دولة تفرض وجود سلطة، أو حتى مجموعة سلطات، يتم التعامل معها، لتحقيق أهداف الحملة منذ أن شارك حلف الناتو في إسقاط النظام السابق، بحجة دعم الشعب الليبي، والمهم في هذا كله أن يتم تحقيق مصالح طال انتظارها”، ولأن تحقيق تلك الأجندات تأخر تنفيذها على خلفية الأحداث المضطربة فقد تمكّنت الجماعات الدينية من شن معاركها المتواصلة لأجل السيطرة على منابع النفط، في محاولة لتكرار ما حدث في العراق وسوريا، فإن المؤسسات الدولية والحكومات صاحبة المصالح المنتظرة تعمل اليوم جاهدة للجمع بين الأجندات المحلية والدولية.

المشهد الليبي الراهن، يُظهر الوجود الفعلي لبعض الدول من خلال المرتزقة، الذي يهدف أساساً إلى تحقيق المصالح عبر الثروات الليبية، خاصة النفط، وفي ذلك مزاحمة لداعش، التي تراهن في إرهابها عليه، خاصة بعد تراجع مداخيلها في العراق وسوريا، التي اعتمدت عليها عند تمددها باتجاه ليبيا، لذلك تعتمد في تمويلها على “سرقة أموال البنك المركزي الليبي، والضرائب، والاستيلاء على أجور العمال والموظفين، ونهب الممتلكات الخاصة، والنهب على الطرقات، والسرقة، والهبات الجبرية، وأموال الزكاة، والاختطاف المتبوع بدفع الفدية، وتهريب البشر..”، ويحدثُ هذا كله في ظل حرب متواصلة للاستيلاء على النفط الليبي.

من جهة أخرى، أصبحت الأوقاف الدينية والثروات المرتبطة بها في ليبيا نقطة جذب للمنافسة المحتدمة والعنيفة غالباً بين التيارات السياسية والدينية الكثيرة فيها، وهي بالتأكيد ليست بديلاً عن النفط، وإن كان بعض هذه التيارات يرى أن مداخيل الأوقاف تلك أهم من النفط، هو ما يدفعها للتنافس فيما بينها للسيطرة عليها، وهذا “يعكس مدى التشرذم الذي أصاب الوضع السياسي عموماً وما وصلت إليه البلاد من إفراط في الانكفاء على المحلية، وتردي الوضع ليصل إلى الصراعات المسلحة".

ذلك التشرذم الذي أدى إلى الصراع العسكري – ولا يزال – يجسد مجموعة الأجندات المحلية على خلفية ممتلكات مؤسسات الدولة الوطنية بما فيها الأوقاف، التي وقعت ضحية للصراع بين القوى الدينية الليبية التي تتنافس على اكتساب الشرعية المجتمعية والاستحواذ على الموارد الاقتصادية والنفوذ السياسي، و”تندرج تلك القوى المتنافسة، بشكل فضفاض، تحت مجموعتين تحملان توجهات دينية متناقضة، أولاهما: يمثلها أتباع تيار السلفية، وبخاصة النسخة السعودية من السلفية، وثانيهما: تمثلها التيارات الإسلامية الثورية النشطة التي يندرج تحتها جماعة الإخوان المسلمين وداعموهم والعناصر الجهادية وأتباع الطرق الصوفية".

رابعاً: الثروة.. ومستقبل ليبيا الجغرافي والطبقي

من تداخل الأجندات المحلية والوطنية، وما نتج عنها من صراع، يمكن لنا استشراف مستقبل ليبيا على خلفية نهب الجماعات الدينية لثرواتها، من ناحيتين، الأولى تتعلق بالجغرافيا، والثانية تختص بتأثير ذلك في الوضع الطبقي.

وبالنسبة إلى الأولى، فإن الصراع سيشتد لاحقاً حول المناطق النفطية، ولن ينتظر أن تعود خيراتها على سكانها، لأن الجماعات الدينية ترى أنها الوحيدة صاحبة الحق قي ذلك، معتمدة على ولاءات بعض عناصرها من سكان تلك المناطق، لكن على المدى الطويل لا يمكن لها تحقيق أهدافها لثلاثة أسباب رئيسية، أولها: رفض معظم الشعب الليبي لأي تقسيم منتظر، وثانيها: وجود جيش شعبي يقاتل لأجل الوحدة الجغرافية للوطن، وثالثها: الموقف الدولي (بعض الدول)، الذي قد لا يرفض تقسيم ليبيا، مادامت الجماعات الدينية ستحقق له مصالحه، أما وأنه يسعى ليكون بديلاً عنه من ناحية الاستيلاء على النفط، فهذا سيجعله ضد التقسيم.

وبالنسبة إلى الثانية، فإن المجتمع الليبي مؤهل إلى تغيُّر في وضعه الطبقي، من ناحيتين، الأولى، تتعلق بالتلاشي التدريجي للطبقة الوسطى – المحافظة على التوازن ومنظومة القيم – نتيجة نهب الثروة من قوى مختلفة، تشكل في مجموعها طبقة رأسمالية غير منتجة. والثانية: مقايضة الأمان والسلم الاجتماعي بالثروة الوطنية، وعند الضرورة بالممتلكات الشخصية، ما يعني انتهاء المطالب الاجتماعية بتوزيع الثروة أو حتى الحديث عن العدالة الاجتماعية.

والمتوقع عموماً، أن الجماعات الدينية – السلمية والإرهابية – في ليبيا، ستستمر في نهب الثروات، لكنها لن تقنع الشعب الليبي، بتقسيم البلاد، إنما ستجعله يقبل مكرهاً، بالوضع الطبقي الجديد أملاً في الأمن والاستقرار، وانتظاراً لسلطة الدولة في المستقبل المنظور.