• اخر تحديث : 2024-11-22 10:05
news-details
قراءات

أعلنت اليابان في ختام الدورة الثامنة لمؤتمر طوكيو الدولي حول التنمية الإفريقية (تيكاد 8) الذي عقد في تونس في 27 – 28 أغسطس، عن خطة استثمار كبيرة مدتها ثلاث سنوات بقيمة 30 مليار دولار لأفريقيا. ومن المرجح أن اليابان تسعى إلى إعطاء دفعة جديدة لسياستها الأفريقية الجديدة، التي تتمنى أن تكون أكثر واقعية، مع التركيز بشكل خاص على الاستثمارات.

 وربما يُعطي ذلك انطباعاً عاماً بأن طوكيو تريد أن تقوم بدور اقتصادي أكثر أهمية في أفريقيا، لكن يجب أن يتم وضعه في سياق تاريخي بالغ التعقيد. إذ من الثابت أن التبادلات بين اليابان وأفريقيا قديمة. وقد يعود تاريخ الاتصالات الأولى إلى نهاية القرن السادس عشر، لكن لم تكن تتضمن أهمية كبيرة حتى انفتاح اليابان على العالم الخارجي.

بعد الحرب العالمية الثانية، احتلت المساعدة الإنمائية الرسمية مكاناً أكثر أهمية في التبادلات بين اليابان وأفريقيا. ومنذ التسعينيات أصبحت اليابان أكثر انخراطاً في أفريقيا. فقد بدأ مؤتمر طوكيو للتنمية في أفريقيا (تيكاد) في نسخته الأولى عام 1993، ثم أعقبه ثلاثة مؤتمرات أخرى كل 5 سنوات (1998، 2003، 2008، 2013). وفي قمة التيكاد الخامسة عام 2013 تم الاتفاق على دورية القمة كل ثلاث سنوات وبالتناوب بين أفريقيا واليابان. ربما يطرح ذلك كله عدداً من التساؤلات حول أهمية الوجود الياباني في أفريقيا في ظل سياسات التنافس الدولي الراهنة من جهة، وماذا يريد الأفارقة من اليابان من جهة أخرى.

ما هو التيكاد؟

في أعقاب الحرب الباردة، لم يكن لدى الدول الغربية المتقدمة اهتمام كبير بأفريقيا، حيث فضل الغرب إقامة علاقات مع دول أوروبا الشرقية بعد تفكك الاتحاد السوفييتي. علاوة على ذلك، أدى الافتقار إلى نتائج ملموسة من المعونة، إلى جانب الركود الاقتصادي للبلدان المتقدمة، إلى إرهاق البلدان المانحة وعدم الرغبة في دعم أفريقيا. في ذلك الوقت، كانت الحكومة اليابانية تبحث عن طرق جديدة لزيادة مساهمتها في الشؤون العالمية. بحلول عام 1989، أصبحت اليابان، التي كانت آنذاك في ذروة ازدهارها الاقتصادي، أكبر مساهم في المساعدات الإنمائية الرسمية على الصعيد العالمي. وفي هذا السياق، ظهرت فكرة مؤتمر طوكيو الدولي حول التنمية الأفريقية (تيكاد). ويطمح تيكاد إلى (1) تعزيز حوار السياسات رفيع المستوى بين القادة الأفارقة وشركاء التنمية، و(2) حشد الدعم لمبادرات أفريقيا للتنمية المعتمدة على الذات.

وعقد تيكاد لأول مرة في عام 1993، ويتم تنظيمه اليوم بالاشتراك بين اليابان ومفوضية الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي والبنك الدولي. ويصادف المؤتمر، في نسخته الثامنة التي عقدت في تونس، الذكرى التاسعة والعشرين لتيكاد.  ويلاحظ المتابع لتاريخ هذه القمم كيف تطورت فلسفة وتوجهات التيكاد عبر السنين.

ويعد التيكاد سنة وضعتها الدبلوماسية اليابانية وسارت على نهجها القمم الاقتصادية لأفريقيا التي نظمتها معظم القوى العظمى والمتوسطة في النظام الدولي. فقد تبعتها الصين عام 2000 والهند وتركيا عام 2008 والولايات المتحدة عام 2014 وأخيراً روسيا عام 2019. ورغم هذه الأسبقية اليابانية فإنها ليست في مركز الصدارة في السباق على السوق الأفريقية. بصرف النظر عن تاريخ تأسيس تيكاد، فإن اليابان بعيدة عن مسار الفاعلين الكبار في الاقتصاد الأفريقي. والأسوأ من ذلك أن اليابان تراجعت عن بعض المكتسبات التي حققتها في السابق. فلقد كانت الشريك التجاري الرابع لبلدان أفريقيا جنوب الصحراء في عام 2004، ولكنها تراجعت، ولم تعد حتى من بين أكبر عشر دول استثماراً في أفريقيا. لقد تجاوزت دول أخرى اليابان مثل الإمارات العربية المتحدة وسويسرا والهند.

ومع ذلك فإن هيكل التيكاد فريد من نوعه. فهي منصة مفتوحة ومتعددة الأطراف، حيث لا تقتصر على أفريقيا واليابان فحسب، بل يمكن للمجتمع الدولي أيضاً مناقشة سبل تعزيز ودعم تنمية أفريقيا.  ولعل ذلك هو ما يميز التيكاد مقارنة بمنتديات التنمية الأفريقية الأخرى، مثل تلك التي بدأتها الصين أو الاتحاد الأوروبي في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين والتي لاتزال منتديات ثنائية ومغلقة حتى يومنا هذا.

ماذا تريد اليابان؟

يمكن تلخيص أهداف ومصالح اليابان من هجومها الناعم على أفريقيا في العناصر الأربعة التالية:

1. الأصوات الأفريقية في الأمم المتحدة: في التسعينيات، كانت اليابان تسعى إلى زيادة مكانتها الدولية وكانت تهدف إلى الحصول على مقعد دائم في عضوية مجلس الأمن الدولي. وللقيام بذلك، كانت بحاجة إلى دعم الدول الأفريقية التي كانت طوكيو تأمل في الحصول عليها مقابل المساعدة المالية التي تم التفاوض عليها خلال هذه القمم.  لم تكن المصلحة الاقتصادية للاستثمار في أفريقيا واضحة لليابانيين في ذلك الوقت بعد انتهاء الحرب الباردة. وعليه كان تطوير العلاقات التجارية مع الدول الآسيوية الأخرى كافياً لليابان.

2. اللحاق بالفاعلين الآسيويين والغربيين الآخرين في السوق الأفريقية: عندما بدأت البلدان الأفريقية تشهد نمواً قوياً في أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، مدفوعاً بالاستثمارات الصينية والهندية والغربية، عندئذ أدركت اليابان أنها تفتقد إلى المحرك الذي يعيدها مرة أخرى إلى مقدمة السباق الأفريقي. منذ ذلك الوقت تحاول اليابان أن تلقي بظلالها على الصين تحديداً في أفريقيا. لقد تبنت اليابان إيقاع قمتها كل ثلاث سنوات بناءً على طلب الدول الأفريقية التي قالت إن هذا ما تفعله الصين. كما وافقت طوكيو على عقد قمتها في البلدان الأفريقية مثلما فعلت الصين. حتى عام 2016، عقدت مؤتمرات تيكاد بشكل منهجي في اليابان.

3. دمج أفريقيا في منطقة المحيطين الهندي والهادئ الحرة والمفتوحة: ويعتمد ذلك على رؤية رئيس الوزراء الراحل شينزو آبي الذي تعمد ترسيخ أفريقيا في استراتيجية اليابان الواسعة للمنطقة. ويعتمد هذا المفهوم على ثلاث ركائز أساسية هي: نشر وإرساء سيادة القانون وحرية الملاحة والتجارة الحرة، والسعي إلى تحقيق الازدهار الاقتصادي، وضمان السلام والاستقرار. كما قام شينزو آبي بما لا يقل عن أربع زيارات رسمية إلى أفريقيا، وهو رقم قياسي غير مسبوق لرئيس وزراء ياباني.. لقد أضحت أفريقيا من بين الأولويات الإستراتيجية لحكومته. أراد آبي بشكل خاص الاحتفال بعودة اليابان إلى المسرح الدولي من خلال النشاط الدبلوماسي المكثف. الاستثمار في أفريقيا مهم لعدد من الأسباب. كان الهدف الأولي لليابان.

4. التحول إلى سياسة الاستثمار الخاص: سعت طوكيو في ظل حكومة شينزو آبي إلى الانتقال من سياسة تركز على المساعدة الإنمائية الرسمية، التي تتقلص ميزانيتها باستمرار، إلى نهج قائم على الاستثمار الخاص. لذلك، كانت تعبئة مجتمع الأعمال الياباني عاملاً أساسياً لتوسيع الوجود الاقتصادي الياباني في هذا السوق الواعد، ولكن أيضاً للاستمرار في تأمين موارد الطاقة والموارد المعدنية الاستراتيجية. لقد أصبحت اليابان منذ عام 2012 حريصة جداً على مناقشة التعاون بين القطاعين العام والخاص لتشجيع الشركات على الاستثمار في أفريقيا.

نتائج إعلان تونس:

يتناول إعلان تونس لقمة تيكاد الثامنة مجالات التعاون الثلاثة الرئيسية لليابان مع أفريقيا: تسريع النمو مع الاستثمارات في الاقتصاد الأخضر والمشاريع الناشئة؛ "اقتصاد مرن" مع دعم إنتاج الأدوية واللقاحات بالإضافة إلى تعزيز الأمن الغذائي؛ و"السلام والأمن" من خلال دعم الوساطة ومنع النزاعات. ويمكن أن نبرز أهم النتائج على النحو التالي:

1. دعم الاستثمار في أفريقيا:

تعهد رئيس الوزراء الياباني، فوميو كيشيدا – عبر الفيديو كونفرس -في 27 أغسطس أثناء قمة التيكاد المنعقد في تونس، بأن بلاده ستستثمر 30 مليار دولار على مدى ثلاثة. سنوات في أفريقيا، وهو رقم ليس ببعيد عن الأربعين مليار دولار من القروض التي وعدت بها الصين، المنافس الإقليمي الكبير لليابان في أفريقيا.

 هذه الوعود الاستثمارية تحدد المربعات الرئيسية لحالات الطوارئ التي تواجه أفريقيا. يتم توجيه أكثر من مليار دولار لمساعدة القارة على التعامل مع الأوبئة الصحية مثل كوفيد_19 ولدعم مشاريع مكافحة الاحتباس الحراري. وأخيراً، تريد طوكيو أيضاً مساعدة أفريقيا في التغلب على نقص الغذاء الناجم عن الحرب في أوكرانيا. وسوف يستخدم المبلغ المتبقي لجذب الشركات اليابانية للاستثمار في أفريقيا.  ومع ذلك واقعياً، يبدو أن هناك فجوة بين الوعود اليابانية والواقع. إذ يعتقد بعض المحاورين الأفارقة أن اليابانيين يتحدثون كثيراً لكنهم لا يفعلون سوى القليل. بعبارة أخرى، لا تتحقق دائماً وعود الاستثمار بمليارات الدولارات. وعليه فإن منافسة اليابان للصين في أفريقيا تبدو غير ذات مصداقية. هناك 796 شركة يابانية موجودة في أفريقيا و70٪ من الاستثمارات تتركز في جنوب أفريقيا. ولعل ذلك يجعلها بعيدة عن نحو 2500 شركة صينية تم إنشاؤها في جميع أنحاء القارة الأفريقية.

2. إصلاح مجلس الأمن الدولي:

اعتبر رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا أنه من الضروري "معالجة الظلم التاريخي" لأفريقيا للحصول على مقعد دائم في مجلس الأمن الدولي، وقال إن اليابان ستدفع في هذا الاتجاه عندما تكون عضواً غير دائم في عام 2023. -2024. وتعتزم اليابان "خلق بيئة يمكن أن يعيش فيها الأفارقة في سلام وأمن من أجل أن يكونوا قادرين على التطور". وقد أكد هذا الموضوع بإسهاب مطول الرئيس السنغالي والرئيس الحالي للاتحاد الأفريقي ماكي سال، الذي قال إن "العقليات تتغير وإن ما يزعزع استقرار أفريقيا ويمنعها من التطور يجب أن يأخذه مجلس الأمن بعين الاعتبار".

3. المشاركة في جهود السلام والأمن الأفريقي:

تخطط اليابان لتوجيه نسبة من الأموال الخاصة والعامة لأفريقيا على مدى ثلاث سنوات، لمكون السلام والأمن لتدريب ضباط الشرطة، والمساعدة في تنظيم الانتخابات وأمن الحدود. كما سيتم تخصيص مساعدات ملموسة بقيمة 8.3 مليون دولار على وجه الخصوص لمنطقة الساحل في المثلث الحودي ليبتاكو غورما، بين مالي وبوركينا فاسو والنيجر، والتي دمرتها الهجمات الإرهابية العنيفة. كما قررت اليابان تعيين مبعوث لها للقرن الأفريقي، نظراً لتدور الأوضاع هناك مع تدفق اللاجئين ونقص الغذاء بسبب الجفاف وتغير المناخ. ولعل ذلك يحاكي مرة أخرى التجربة الصينية حيث تم تعيين مبعوث صيني للقرن الأفريقي.

تحديات وعوائق:

هناك عدة عوامل تفسر سبب عدم تلبية واقع الاستثمارات للتوقعات اليابانية. العامل الأول هو تصور الشركات اليابانية لأفريقيا. إنها تمثل بالنسبة لهذه الشركات قارة بعيدة جغرافياً وثقافياً، وينظر إليها حيث مقر الشركات في طوكيو على أنها محفوفة بالمخاطر. العامل الثاني أن أفريقيا ليست هدفاً ذا أولوية عالية لمجتمع الأعمال الياباني الذي يعمل بشكل أساسي في آسيا والولايات المتحدة وأوروبا وروسيا والشرق الأوسط. العامل الثالث أن أفريقيا موضوع تنافس القوى الدولية، لاسيما الدول الغربية والصين وروسيا. أخيراً، لا يزال مناخ الاستثمار في أفريقيا يمثل تحدياً للشركات اليابانية، لاسيما مشاكل تطبيق الإطار القانوني والتنظيمي، وعدم الاستقرار السياسي والاجتماعي، والقضايا المالية وأسعار الصرف، ووجود قوة عاملة محلية ضعيفة التدريب وبنية تحتية ضعيفة. وبالتالي، فإن نفور الشركات اليابانية من المخاطرة لا يشجعها على الاستثمار في القارة.

 

وفي الختام، فإن التوسع الاقتصادي للصين في أفريقيا يمثل مشكلة كبيرة بالنسبة لليابان. وفي الواقع، يمكن وصف التنافس بين اليابان والصين في أفريقيا بأنه "غير متكافئ" ، وفي أحسن الأحوال تشعر اليابان  بإحساس التنافس وليس الصين. علاوة على ذلك، فإن طوكيو لا تمتلك قدرات الصين نفسها في أفريقيا، من حيث حجم المساعدات والاستثمار والتجارة، أو حتى من حيث عدد المغتربين (يعيش 8 آلاف ياباني في أفريقيا مقابل نحو 2 مليون صيني). لذلك، لا توجد منافسة اقتصادية مباشرة في أفريقيا بين الطرفين. ويبدو أن التعاون مع الشركات الصينية سيكون أكثر فائدة لليابانيين.

ومع ذلك تعتمد طوكيو على سمعتها الدولية من خلال إبراز جودة بنيتها التحتية والمشاريع التي تقدمها، وليس الاعتماد على الكم والعدد مثل الصين. ومن المرجح أن يسمح هذا التمايز لليابان بإبطاء تقدم الصينيين، الذين يُنظر إليهم على أنهم منافسون استراتيجيون في القارة. ويمكن لليابان أن تتفوق أيضاً على منافسيها في أفريقيا من خلال الحفاظ على علاقة جيدة مع الدول الأفريقية بحيث تدعمها في مسعاها لإصلاح مجلس الأمن الدولي. ويمكن لهذا الدعم أن يمكّنها في النهاية من الحصول على مقعد دائم وحق النقض إصافة إلى الخمسة الكبار.

لا يزال التحول الاقتصادي لليابان وثيق الصلة بأفريقيا وهو ما يحاول أن يستلهمه الأفارقة. وعلى سبيل المثال تتمثل إحدى أولويات إنفاق اليابان على التنمية في إفريقيا في كايزن التي تعني "التطوير المستمر" للقوى العاملة. ولهذه الغاية، تم إنشاء معهد كايزن في إثيوبيا في عام 2013، بينما تواصل الوكالة اليابانية للتعاون الدولي (جيكا) تمويل الندوات والخبراء والتدريب ومبادرات تحسين المهارات الأخرى في أفريقيا. وقد تسارعت وتعمقت هذه المشاركة حيث شعرت اليابان بالتهميش بسبب طموحات الصين الأفريقية، وتعلمت طوكيو دروساً من حقيقة فاعلية مساعدتها. لن يكون مثل هذا التركيز على المهارات والتعليم كافياً لتكرار النموذج الياباني أو حتى تكييفه. مع السياق الأفريقي.  ولكن يتطلب ذلك فهم طبيعة العمل واحتياجاته لرؤية الأفراد والأعمال على أنهم محور اهتمام الحكومات الأفريقية. ويرى كثير من الأفارقة أنه إلى جانب تعهدات مؤتمرات التيكاد، يتعين على اليابان الحفاظ على المصالح السياسية والاقتصادية طويلة الأجل في إفريقيا وتطوير خبرتها في القضايا الأفريقية، إن هي أرادت تطوير نهجا استراتيجيا مستداما تجاه القارة الأفريقية.