• اخر تحديث : 2024-07-01 12:23
news-details
دراسات

للمرة الأولى منذ عام 2010، تبنّى حلف شمال الأطلسي “الناتو” مفهوماً استراتيجياً جديداً في 30 يونيو المنصرم، يسلط من خلاله الضوء على التحولات في المبادئ التوجيهية وأولويات الحلف للفترة ما بين الأعوام (2022- 2030) الذي يظهر بوضوح من خلال هذه المبادئ الجديدة أن الحلف يعمل على إعادة التموضع في أوروبا ويفتح في الوقت ذاته الباب على مصراعيه أمام شركات استراتيجية في آسيا، حيث حضر أعمال قمة الحلف التي عقدت في مدريد، للمرة الأولى، شركاء الحلف في منطقة آسيا والمحيط الهادي على مستوى القادة، وذلك من أجل تعزيز الجهود المشتركة التي يبذلها الحلفاء والشركاء لتقوية النظام الدولي القائم على القواعد. وما يجب ذكره هنا، أنه يُقصد بالمفهوم الاستراتيجي للحلف "الوثيقة الأساسية، التي توضح قيم الناتو وأهدافه، وتحدد التحديات الأمنية التي تواجهه والمهام السياسية والعسكرية التي سينفذها لمواجهتها خلال الفترة المقبلة".

وفي الوقت الذي اعتبرت فيه الوثيقة الجديدة للحلف أن روسيا والصين والإرهاب، والهجمات الإلكترونية، والتقنيات التخريبية، والتأثير الأمني للتغير المناخي هي التهديدات الأكثر أهمية لأمن الناتو، فإن قضايا الشرق الأوسط قد تراجعت إلى مرتبة أدنى في سلم أولويات الحلف. وتأتي هذه الأولويات المستجدة امتداداً لقمة عقدت في لندن في ديسمبر2019، تقرر فيها إصلاح المنظمة، لأول مرة منذ 70 عاماً.

وفي هذا الإطار، تسعى الدراسة إلى التعرف على مكانة قضايا الشرق الأوسط في “المفهوم الاستراتيجي للحلف”، وهل تراجعت تلك القضايا في الوثيقة الجديدة للحلف، وما الدور المحتمل الذي يمكن أن يلعبه الحلف في فك شفرات قضايا الإقليم خلال الفترة المقبلة، فضلاً عن طبيعة التعاون المحتمل بين دول الشرق الأوسط والحلف.

وبناءً عليه، فإن الدراسة لن تتناول ما طرحته الوثيقة الجديدة من تغيرات في البيئة الاستراتيجية الدولية، أو القضايا الأمنية والعسكرية الرئيسية التي تركز عليها، أو الأدوات التي يسعى الحلف لامتلاكها من أجل تماسكه، ومواجهة التهديدات التي رصد المفهوم الجديد له. إن التركيز الأساسي في هذه الدراسة سوف يكون مقتصراً على قضايا الشرق الأوسط التي ركز عليها الحلف، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، وتلك القضايا التي تهم المنطقة ولم يُشر إليها المفهوم الجديد، وذلك من أجل فهم آليات الحركة، ومناطق التركيز، التي سوف يقوم بها الحلف خلال العقد المقبل في منطقة الشرق الأوسط.

أولاً، قضايا الشرق الأوسط في الوثيقة الجديدة: ملاحظات عامة

ثمة جملة من الملاحظات، بعضها شكلي والآخر متعلق بالمضمون، على الوثيقة الجديدة للحلف، تحاول الإجابة عن التساؤل الرئيسي للدراسة، والمتمثل في هل تراجعت قضايا الشرق الأوسط في الوثيقة الجديدة للحلف، ومنها ما يلي:

1– الترتيب والأولويات: يلاحظ أن عدد المرات التي ذكرت فيها وثيقة الناتو الجديدة المكونة من 16 صفحة، روسيا كانت 17 مرة، وتليها الصين بـ 10 مرات، ثم الإرهاب 7 مرات، وأفريقيا 4، ثم الشرق الأوسط 3 مرات، وأخيراً البلقان وأفغانستان مرة واحدة لكل منهما.

2- المشاركة الضعيفة لدول الشرق الأوسط في أعمال قمة الحلف: شارك في أعمال قمة مدريد من الشرق الأوسط والعالم العربي كل من الأردن والرئيس الموريتاني. وعلى عكس ذلك شارك عدد من زعماء قارة آسيا، وعلى الرغم من تناول أعمال الجلسة الأخيرة من قمة حلف شمال الأطلسي “الناتو” التهديدات والتحديات من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والساحل، فإن ذلك لم ينعكس بشكل واضح في متن الوثيقة الجديدة للحل. ومع هذا، وللمرة الأولى، اتفقت دول الحلف العسكري على تقديم حزمة “بناء القدرات الدفاعية” لموريتانيا، حيث أشار المفهوم الاستراتيجي الجديد إلى وجود مصلحة استراتيجية له في هذه المنطقة، وذلك بالنظر إلى المخاطر الأمنية التي يشكلها الإرهاب والهجرة غير النظامية في منطقة الساحل والصحراء، كما تم الاتفاق على تقديم دعم إضافي لبناء القدرات لتونس، والاستمرار في دعم الأردن.

3- وضع الشرق الأوسط وأفريقيا في بوتقة واحدة: وردت الإشارة إلى الشرق الأوسط وأفريقيا في المفهوم الاستراتيجي الجديد في النقطة الحادية عشرة ضمن التهديدات التي تواجه “الناتو وشركاءه”، التي ذكرت أن الجوار الجنوبي لحلف “الناتو”، لاسيما منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والساحل، يواجه تحديات أمنية وديموغرافية واقتصادية وسياسية مترابطة. وتتفاقم هذه المشكلات بسبب تأثير تغير المناخ والمؤسسات الهشة وحالات الطوارئ الصحية وانعدام الأمن الغذائي. الأمر الذي يمثل أرضاً خصبة لانتشار الجماعات المسلحة من غير الدول، بما في ذلك المنظمات الإرهابية، ويمكّن “المنافسين الاستراتيجيين” من “التدخل المزعزع للاستقرار.

وهنا يمكننا القول: إن المفهوم الاستراتيجي الجديد للحلف وضع شمال أفريقيا في منطقة ذات “مصلحة استراتيجية، على جناحه الجنوبي”. بذلك تكون الخريطة الجديدة لسياسة الحلف العسكرية قد حددت لأول مرة، وبصريح العبارة، خط المواجهة الذي انزاح جنوباً نحو القارة السمراء، على الرغم من أن الجناح الشرقي لأوروبا والحلف، حيث الوجود الروسي في أوكرانيا هو الذي نال الأهمية الكبرى في بيانات الحلف ووثائقه ومخططاته، المتفرعة عن قمته في مدريد، نهاية يونيو الماضي.

4- غياب منطقة الخليج في المفهوم الجديد: إن اهتمام “الناتو” بدول الشرق الأوسط، ليس مستحدثاً، فخلال قمته عام 2004 تأسست “مبادرة إسطنبول للتعاون” لتعزيز التعاون الأمني على أساس ثنائي بين “الناتو” والدول الشريكة في منطقة الشرق الأوسط الأوسع، بهدف الإسهام في الأمنين العالمي والإقليمي على المدى الطويل، وشاركت في المبادرة الإمارات والبحرين والكويت وقطر، بينما تشارك عمان والسعودية في أنشطة مختارة بإطار المبادرة. وفي ختام القمة، التي عقدت في مقر الحلف في العاصمة البلجيكية بروكسل عام 2018، أعلن “الناتو” تخصيص حزمة مبادرات خاصة بدول الجنوب (التي تمتد من موريتانيا حتى الخليج وإسرائيل) تتضمن مبادرات تعاون سياسية وعملية نحو نهج استراتيجي أكثر تماسكاً وتركيزاً على الشرق الأوسط وأفريقيا، باعتبار أن هذه المنطقة تواجه عدداً من التهديدات المعقدة والتحديات، التي تؤثر في أمن الدول عبر الأطلنطي.

وعلى عكس قمم الحلف السابقة، فإن قمة مدريد عام 2022 لم تعطِ منطقة الخليج الاهتمام الكافي الذي حظيت به من قبل. وهنا يمكننا القول، إن الحرب الروسية في أوكرانيا، والصراع الأمريكي- الصيني، دفعا بتغييرات جذرية في استراتيجية “الناتو” تجاه دول الشرق الأوسط والخليج العربي.

5- التهديدات اللامتماثلة: اللافت للنظر أن الوثيقة الجديدة للحلف ركزت على التهديدات اللامتماثلة، أو بالأحرى ركزت بشكل كبير على التهديدات غير العسكرية، ومع ذلك فإن المفهوم الجديد لم يغير مفهوم الردع العسكري، حيث إن هناك جانباً آخر للردع والدفاع يجب أن يؤخذ في الاعتبار متمثلاً في إمدادات الطاقة أو سلاسل التوريد أو الإنترنت أو في الابتكار والتكنولوجيا. وقد سلط المفهوم الاستراتيجي لعام 2022 الضوء على قضايا الأمن السيبراني وتغير المناخ والحكم الاستبدادي باعتبارها تهديدات تواجه الحلف. وذلك على عكس وثيقة عام 2010، التي تم ذكر “تغير المناخ” فيها مرة واحدة فقط، بينما تم ذكره 11 مرة في نسخة عام 2022. وأكدت الوثيقة أن على الناتو أن “يصبح المنظمة الدولية الرائدة عندما يتعلق الأمر بفهم تأثير تغير المناخ على الأمن”. وتم إيلاء اهتمام إضافي بالهجمات الإلكترونية، وأعاد الحلف التأكيد على سياسته المتمثلة في مواجهة “الأنشطة السيبرانية الخبيثة والعمليات العدائية المتعلقة بالفضاء” وقد يدفع ذلك الناتو إلى تفعيل المادة الـ 5 الخاصة بالدفاع المشترك لردع الهجمات الإلكترونية التي تسبب ضرراً مادياً. أخيراً، يُشير المفهوم الاستراتيجي لعام 2022 مرات عدة إلى الاستبداد باعتباره تحدياً يواجه مصالح الحلف وقيمه، وهو تهديد عام 2010 لم يتم الاعتراف به بشكل مباشر.

وفي هذا الإطار، يقول ديفيد فان ويل، مساعد الأمين العام لحلف الناتو للتحديات الأمنية الناشئة، خلال قمة Defense One Tech أنه كان “يجب أن يكون المفهوم الاستراتيجي بارزاً وفعالاً خلال العقد المقبل، لأنه يتطلع إلى ما هو أبعد من الأزمة الحالية في أوكرانيا، إنه يبحث في الآثار المترتبة على أمننا من تغير المناخ والابتكار واستخدام الحرب الهجينة والإلكترونية ودور الإنترنت في مجتمعاتنا. بالإضافة إلى المرونة التي يقصد بها قياس مدى مرونة مجتمعاتنا الغربية في مواجهة هذا النوع من الهجمات وماذا يتعين علينا القيام به لمواجهة ذلك؟”.

ثانياً، موقع قضايا الشرق الأوسط في الوثيقة الجديدة:

على الرغم من عدم ذكر منطقة الشرق الأوسط إلا ثلاث مرات فقط في الوثيقة الجديدة للحلف، إلا أن هناك عدداً من قضايا الشرق الأوسط التي أشارت إليها، بعضها ذكر بشكل مباشر، وبعضها الآخر تم الإشارة إليه ضمنياً، أو في إطار عام للقضية المؤثرة في أمن الحلف، وهي كما يلي.

(1) الصراع والهشاشة: ذكر المفهوم الجديد للحلف صراحةً أن الصراع والهشاشة وعدم الاستقرار في الشرق الأوسط وأفريقيا تؤثر بشكل مباشر في أمن الحلف وشركائه. وأكدت أن الجوار الجنوبي لحلف الناتو، ولاسيما منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والساحل، بمنزلة تحديات أمنية وديموغرافية واقتصادية وسياسية مترابطة، وتتفاقم هذه المشكلات بسبب تأثير تغير المناخ والمؤسسات الهشة وحالات الطوارئ الصحية وانعدام الأمن الغذائي، ويوفر هذا الوضع أرضاً خصبة لانتشار الجماعات المسلحة من غير الدول بما في ذلك المنظمات الإرهابية. كما أنه يمكّن من التدخل المزعزع للاستقرار والقسر من قِبل المنافسين الاستراتيجيين. وقد أشارت الوثيقة في مقدمتها إلى أن الحلف سيواصل العمل من أجل تحقيق سلام عادل وشامل ودائم أيضاً، وذلك بالتعاون مع الشركاء من الدول والمنظمات الدولية، مثل: الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة للمساهمة في السلم والأمن الدوليين.

(2) قضايا الإرهاب: في مقارنة المفهوم الاستراتيجي السابق (2010- 2020)، نجد أن الإرهاب كان التهديد الأبرز والأساسي في مفهوم الحلف، حيث تحدّث عن المشكلات والتحديات والحروب خارج منطقة الناتو، وأنه سيواجهها بوسيلة “إدارة الأزمات”، وعلى العكس تماماً، فإن التهديد الإرهابي يأتي في مرتبة ثانوية في التصور الاستراتيجي الجديد. وقد أبقت الوثيقة الجديدة خطر الإرهاب من دون أن تحدّد تفصيلاً كيفية مواجهته، واكتفت بذكر التعاون مع الحلفاء في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والساحل في مكافحة الإرهاب (المادتان الـ 10 والـ 11). ومع ذلك ذكر الحلف أن مكافحة الإرهاب أمر أساسي، ويسهم الناتو في الحرب ضد الإرهاب في المهام الأساسية الثلاث جميعها وهو جزء لا يتجزأ من نهج الحلف الشامل للردع والدفاع، وأنه سوف يتم تعزيز التعاون مع المجتمع الدولي بما في ذلك الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، لمعالجة الظروف المؤدية إلى انتشار الإرهاب.

(3) نزاع أسلحة الدمار الشامل: أشار الحلف إلى أن الهدف الأساسي له هو إيجاد عالم أكثر أماناً للجميع، وخلق بيئة أمنية لعالم خالٍ من الأسلحة النووية. وأكد أن هيكل تحديد الأسلحة ونزع السلاح وعدم الانتشار أثر تأثيراً سلبياً في الاستقرار الاستراتيجي أيضاً، ولا يزال الاستخدام المحتمل للمواد الكيميائية والبيولوجية والإشعاعية والنووية قائماً، وأشار إلى أن إيران وكوريا الشمالية تطور برامجها النووية والصاروخية، ولجأت سوريا وكوريا الشمالية والاتحاد الروسي إلى جانب جهات فاعلة غير حكومية إلى استخدام الأسلحة الكيميائية. ومع ذلك لم يذكر الحلف أي إجراءات سيعمل عليها من أجل الحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل في المنطقة، أو إلى منع إيران من امتلاك القنبلة النووية، أو يُخضع إسرائيل للحد من أنشطتها النووية.

(4) الأمن البحري: أشار الناتو إلى أن الأمن البحري هو مفتاح الأمن والازدهار له، وأنه سيعمل على تعزيز قدراته والوعي بالموقف لردع جميع التهديدات في المجال البحري والدفاع عنه ودعم حرية الملاحة، وتأمين طرق التجارة البحرية. لكنه في الوقت ذاته لم يشر إلى قيامه بأي خطوات إجرائية للعمل على مواجهة التهديدات البحرية في منطقة الخليج العربي أو مضيق باب المندب والبحر الأحمر.

(5) أمن الطاقة: أشار الحلف إلى أنه سوف يعمل على تعزيز أمن الطاقة، وسيستثمر في إمدادات الطاقة والموردين والمصادر المستقرة والموثوق بها. وأنه سوف يستثمر في تعظيم القدرات من أجل الاستعداد والردع والدفاع ضد الاستخدام القسري للتكتيكات السياسية والاقتصادية والطاقة والمعلومات وغيرها من التكتيكات الهجينة.

(6) التغير المناخي: أشار الناتو إلى أنه يجب أن تكون المنظمة الدولية هي الرائدة عندما يتعلق الأمر بفهم تأثير تغير المناخ في الأمن والتكيف معه، وأنه سيقود الجهود إلى تقييم تأثير تغير المناخ على الدفاع والأمن والتصدي لتلك التحديات، وأنه سيسهم في مكافحة تغير المناخ من خلال الحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري وتحسين كفاءة الطاقة والاستثمار في الانتقال إلى مصادر الطاقة النظيفة والاستفادة من التقنيات الخضراء مع ضمان الفعالية العسكرية والموقف الدفاعي والردع الموثوق به. وأكد المفهوم أن التغير المناخي يُعد تحدياً كبيراً وله تأثير عميق في أمن الحلفاء، واعتبر الحلف التغير المناخي أزمة وتهديداً مضاعفاً، يمكن أن يؤدي إلى تفاقم الصراع والهشاشة والمنافسة الجيوسياسية، وأن ارتفاع درجات الحرارة تتسبب في ارتفاع مستوى سطح البحر وحرائق الغابات والمزيد من الظواهر الجوية المتكررة والمتطرفة، ما يؤثر في الأمن والعمليات العسكرية التي يقوم بها الحلف.

(7) الفضاء السيبراني: أشارت الوثيقة إلى أن الفضاء السيبراني متنازع عليه في الأوقات جميعها، وتسعى الجهات الخبيثة إلى إضعاف البنية الحيوية والتدخل في الخدمات الحكومية واستخراج المعلومات الاستخباراتية وسرقة الملكية الفكرية وإعاقة الأنشطة العسكرية للحلف.

خلاصة القول أن القضايا الثلاث الأخيرة المذكورة المتعلقة بأمن الطاقة والتغير المناخي والفضاء السيبراني، وإن جاءت بشكل عام، ولم يتم الإشارة فيها إلى الشرق الأوسط، إلا أنها تقع في القلب من الاهتمام المؤثر في أمن المنطقة.

ثالثاً، القضايا المسكوت عنها في الوثيقة الجديدة:

يوجد عدد من القضايا التي تقع في قلب الاهتمامات الجيوسياسية والأمنية لدول الشرق الأوسط، ومع ذلك لم تجد اهتماماً يذكر في المفهوم الجديد للحلف، منها:

أ. عملية السلام الفلسطيني – الإسرائيلي: على الرغم من أن “المفهوم الاستراتيجي الجديد” للحلف هو المحطة الرابعة في تطور عقيدته الأمنية، وتحدث فيه عن السلام والاستقرار فإنه لم يُشر من قريب أو بعيد إلى عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، الأمر الذي يعكس تراجع عملية الاهتمام بالسلام والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط. وذلك على عكس المفهوم السابق الذي ركز على المخاطر الموجودة في منطقة الشرق الأوسط خصوصاً: كالجريمة المنظمة، والهجرة غير الشرعية، والإرهاب، والمخدرات، وندرة موارد الطاقة والمياه، وكل ما يرتبط بهذا من مشكلات اقتصادية واستمرار عدد من النزاعات من دون حلول سياسية، خاصة الصراع العربي – الإسرائيلي.

ب. تراجع الاهتمام بمواجهة الأصولية الإسلامية: إن وثيقة الناتو لعام 2022 تتجاهل تماماً مشكلة الإسلام الراديكالي، ولاسيما الجهادي منه الذي يتجاوز حدود الدول، وخطورته على الأمن والاستقرار والسلام في العالم. وجاءت الإشارة إليه بشكل مموه تحت مسمى الإرهاب الذي يأتي من الجنوب، وهي تعني بالتحديد الشرق الأوسط، وشمال أفريقيا ومنطقة الساحل الأفريقية. وعلى عكس المفاهيم السابقة، فإن المفهوم الجديد قام بتصنيف روسيا بوصفها العدو والخطر الجديد على الحلف، بعدما ظل يعد “الأصولية الإسلامية” عدواً له طوال قرابة 27 عاماً منذ سقوط الاتحاد السوفيتي. فعقب انهيار الشيوعية، بدأ الغرب يبحث عن “عدو بديل” بحسب تعبير وزير الدفاع الأمريكي، آنذاك، ديك تشيني، الذي أوضح في مؤتمر ميونخ للأمن عام 1995، أن الحلف وجد ضالته في الإسلام بسبب “الصحوة الدينية التي كانت منتعشة حينئذ”. وضمن عملية تعديل مفهوم الحلف الاستراتيجي حينئذ وتخليق عدو بديل، تم وصف المنطقة الإسلامية بـ “هلال الأزمات”. وتبلور هذا التعريف في قمة الحلف المنعقدة في العاصمة البلجيكية بروكسل في عام 1993، وهكذا في ظل غياب العدو الأحمر، بدأ الناتو يخترع عدواً جديداً كان لونه “أخضر” هذه المرة، سُمي بـ “الأصولية الإسلامية”.

ومن نافلة القول أن قمة مدريد أعادت المفهوم الاستراتيجي للناتو إلى حقبة الحرب الباردة بإعادة تصنيف روسيا، وريثة الاتحاد السوفيتي، كعدو أول من جديد، وتراجع الاهتمام بالإسلام الراديكالي.

ج. الهجرة غير النظامية: على الرغم من أن المفهوم الجديد للحلف أكد أن تفشي عدم الاستقرار يؤدي إلى العنف ضد المدنيين بما في ذلك العنف الجنسي المرتبط بالنزاع فضلاً عن الهجمات على الممتلكات الثقافية والأضرار البيئية، فهو يسهم في النزوح القسري ويؤجج الاتجار بالبشر والهجرة غير النظامية، وتشكل هذه الاتجاهات تحديات إنسانية وعابرة للحدود، إنها تقوض أمن الإنسان والدولة ولها تأثير غير متناسب في النساء والأطفال والأقليات. ومع ذلك لم يذكر المفهوم الجديد مشكلات اللاجئين في منطقة الشرق الأوسط، خاصة السوريين والعراقيين والفلسطينيين، أو كيفية التعامل مع تلك الظاهرة المتنامية.

د. أسلحة الدمار الشامل: في الوقت الذي أكد فيه الحلف ضرورة الحد من التسلح ونزع السلاح ومنع الانتشار النووي لتقليل المخاطر وتعزيز الأمن والشفافية. وأن هدفه خلق بيئة أمنية لعالم خالٍ من الأسلحة النووية بما يتوافق مع أهداف معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية. فإنه لم يوضح كيفية تطبيق ذلك في منطقة الشرق الأوسط. وذلك في الوقت الذي أعطى فيه المفهوم القديم أهمية قصوى للأنشطة المرتبطة بهذا النوع من الأسلحة خاصة بمنطقة الشرق الأوسط. وكان يرى أن البرنامج النووي الإيراني يثير الشكوك ويغير من موازين القوى الإقليمية والدولية ويعرض معاهدة عدم الانتشار النووي للخطر. الأمر الذي يستوجب أهمية تدخل الناتو لممارسة دور تفعيل الرقابة الدولية على تلك الأسلحة ونزعها.

هـ. أمن الخليج العربي: يعتبر حلف الناتو نفسه أداة أمنية وعسكرية مفيداً في علاقاته مع الدول لتقديم المساعدة بهدف حماية البنية التحتية المرتبطة بالصناعة البترولية وكذا مراقبة الممرات البحرية وربما حتى التدخل العسكري إذا اقتضت الضرورة. فلا شك في أن للحلف مصلحة مباشرة في ربط علاقات جديدة مع دول منطقة الخليج التي تعتبر أكبر مخزون للنفط في العالم خاصة في ظل أزمة الطاقة العالمية التي يمر بها العالم بسب الحرب الأوكرانية – الروسية. وفي الوقت الذي أشار فيه المفهوم الجديد إلى أمن الطاقة، إلا أنه لم يُشر إلى أمن منطقة الخليج العربي، أو إلى أي دور محتمل في مواجهة التهديدات الإيرانية التي باتت تستهدف المنشآت النفطية أو خطوط الملاحة الدولية.

خاتمة:

مما لا شك فيه فقد تأثر المفهوم الجديد للحلف بشكل كبير بالحرب الروسية والأوكرانية، والتوترات المتزايدة في منطقة المحيطين الهندي والهادي بين الصين والولايات المتحدة. كما يرجع السبب الرئيسي في تأخر صدور المفهوم للرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، الذي كان أحد منتقدي الحلف، الذي هدد بالانسحاب منه عام 2018. ويجب الاستعداد لحقيقة أن دعم الناتو قد ينتهي بنهاية ولاية الرئيس الأمريكي، جو بايدن، في حال فوز الجمهوريين في انتخابات عام 2024 وعودة ترامب إلى البيت الأبيض، فإن هذا التضامن الذي تم إحياؤه من جديد، قد يصبح من الماضي.

وفي الوقت الذي كان يتوقع فيه بعضهم المزيد من مأسسة اهتمام الناتو بمنطقة الشرق الأوسط في المفهوم الجديد، إلا أن الواقع جاء غير ذلك، رغم أن المنطقة تقع ضمن المجال الجغرافي الذي حدده الفصل الخامس من معاهدة واشنطن التي أسست الحلف. وقد كانت هناك أطر مؤسسية يمكن البناء عليها بين الجانبين مثل الحوار المتوسطي، ومبادرة إسطنبول لعام 2004، التي تشارك فيها أربعة دول خليجية (قطر، الكويت، الإمارات العربية المتحدة والبحرين)، لكن هذه الأطر المؤسسية والمبادرات توقفت عند هذا الحد، ولم تشهد أي إشارة أو تطوير في المفهوم الجديد.

وأخيراً، في الوقت الذي أبدى فيه الحلف اهتماماً متزايداً بموريتانيا، وربما يعود ذلك إلى حالة عدم الاستقرار في منطقة الساحل الأفريقي، فلم تحظَ أي دولة في منطقة الشرق الأوسط بهذا الاهتمام سواء في أعمال مؤتمر مدريد، أو من خلاله الوثيقة الجديدة للحلف.