مع قرب دخول الحرب الروسية الأوكرانية في حيز الـ 7 أشهر، بدأت العديد من الدوائر الغربية تحذر من بعض الارتدادات السلبية للتوسع في عمليات تسليح أوكرانيا، سواء على مستوى التأثير على تسليح الجيوش الوطنية لهذه الدول، أو على مستوى تصاعد الاضطرابات الداخلية نتيجة معارضة هذا التوجه. وقد عبَّر عن هذه التخوفات تصريحات وزيرة الدفاع الألمانية كريستين لامبرشيت بأن برلين وصلت إلى “الحد الأقصى” من السلاح الذي يمكن منحه لكييف، دون الإضرار بقدرات وتسليح الجيش الألماني. وفي هذا السياق، تتصاعد التساؤلات حول تداعيات عمليات تسليح أوكرانيا على الدول الغربية، وأبرز المؤشرات التي عكست هذه التخوفات لدى بعض الدول الغربية.
تنامي التخوفات
شهدت الفترة الأخيرة صعود العديد من المؤشرات والمواقف التي عكست قلق بعض دوائر صنع القرار الغربية من التداعيات السلبية التي قد تترتب على التوسع في عمليات تسليح أوكرانيا، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:
1– تحذيرات من نفاد مخزون الأسلحة الألمانية: قالت وزيرة الدفاع الألمانية كريستين لامبرشيت في الاجتماع الأخير لمجلس الوزراء الألماني في أغسطس 2022، إن “هناك مجالاً ضئيلاً لإرسال أسلحة من مخزون الجيش الألماني إلى أوكرانيا. يجب أن أعترف أننا وصلنا إلى حدود ما يمكننا تقديمه. لا بد أن يكون جيشنا قادراً على ضمان الدفاع عن الولايات والاتحاد الألماني.. سأحرص على استمرار هذا الوضع” وفق تعبيرها، وقد عبَّرت هذه التصريحات عن قرب وصول الدعم العسكري الألماني لأوكرانيا إلى الحد الأقصى؛ ما يعني محدودية خيارات ألمانيا في هذا الصدد في الفترات المقبلة، وكذا تباطؤ وتيرة الدعم لأوكرانيا.
2– تباطؤ في تحديث ترسانة الأسلحة الأمريكية: أشارت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية، في تقرير حديث لها، إلى أن تباطؤ الولايات المتحدة في تحديث ترسانتها من الأسلحة يثير مخاوف المسؤولين من تعرض الاستعداد العسكري الأمريكي للخطر بسبب النقص في ظل المساعدات العسكرية لأوكرانيا، فيما حذرت شركة “نورثروب جرومان” إحدى أكبر شركات الدفاع الأمريكية، من عدم قدرة مخزونات الأسلحة على خدمة قتال طويل الأجل، مطالبةً الحكومات الغربية بتوضيح الموقف بشأن قدرة الصناعة على توفير الأسلحة في الحرب الأوكرانية. وفي هذا الإطار، أشارت تقارير إلى أن مستوى الذخائر القتالية من عيار 155 ملم ضمن المخزون العسكري، أصبح ضئيلاً بدرجة تبعث على القلق، وهي مؤشرات عبرت عن التخوفات الأمريكية من تأثير الدعم العسكري لأوكرانيا على قدرات الجيش الأمريكي.
وفي سياق متصل، أشار تقرير لشبكة راديو “صوت أمريكا” في مايو الماضي إلى أن الكم الكبير من شحنات الأسلحة التي ترسلها الولايات المتحدة إلى أوكرانيا لمواجهة القوات الروسية، يدفع باتجاه استنزاف الترسانة العسكرية في المخازن الأمريكية التي قد تحتاجها في وقت لاحق حال نشوب حرب بينها وبين دول أخرى مثل إيران وكوريا الشمالية، خصوصاً مع تجاوز الدعم العسكري الأمريكي لأوكرانيا ثلث المخزون الأمريكي من الأسلحة، وفق بعض التقديرات الأمريكية. وما يزيد من تعقيد الوضع عدم قدرة الشركات العسكرية والدفاعية على إعادة إنتاج هذه الأسلحة في المدى الزمني الذي تطلبه الإدارة الأمريكية.
3– إطالة المدة الزمنية المطلوبة لتجديد المخزون البريطاني: كانت بريطانيا واحدة من أهم الداعمين الغربيين لأوكرانيا خلال الشهور الماضية، وهو الأمر الذي أثار شكوكاً كثيرة حول إمكانية تجديد المخزون التسليحي البريطاني؛ إذ صرح ” توني راداكين” رئيس أركان الدفاع البريطاني، في شهر يونيو الماضي، بأن إعادة مخزون المملكة المتحدة من الأسلحة إلى مستويات ما قبل الحرب الأوكرانية قد يستغرق عدة سنوات؛ بسبب القيود المفروضة على القدرة الصناعية للمملكة المتحدة. ونقلت تقارير إعلامية عنه قوله: “الأمر سوف يستغرق عدة سنوات؛ فليس بمقدورنا بلمسة سحرية الإنتاج السريع للأنواع المتطورة من الأسلحة”، وأضاف: “سنحتاج إلى عدة سنوات للعودة إلى المستوى اللازم من المخزونات، والحديث هنا لا يدور عن أكثر الأسلحة تطوراً”.
4– صعوبات التوسع في التصنيع العسكري لتلبية احتياجات الحرب: في إطار التحذيرات من تداعيات التوسع في عمليات تسليح أوكرانيا، أشارت صحيفة “فايننشيال تايمز” البريطانية، في شهر يوليو الماضي، إلى أن الغرب يعاني نقصاً في الأسلحة؛ ما يؤثر على قدرته على إمداد أوكرانيا باحتياجاتها من السلاح. واستشهدت الصحيفة بطلب الحكومة الفرنسية من شركة “نيكستر” الفرنسية الدفاعية تصنيع مدافع من نوع “هاوتزر قيصر” بعد إرسالها 18 مدفعاً إلى أوكرانيا، لكن الشركة قالت إنها بحاجة إلى عام ونصف العام تقريباً لإتمام المهمة؛ ما يعني أن الدول الغربية تعاني من أزمة ذات بُعدَيْن في هذا الصدد: البعد الأول يتمثل في نقص مخزون الأسلحة والذخائر والمعدات بدرجة مقلقة، والبعد الثاني يتمثل في الصعوبات التي تواجه شركات الدفاع فيما يتعلق بعمليات إنتاج أسلحة جديدة خلال مدى زمني قريب.
5– اللجوء المتزايد إلى بدائل التسوق الأمني والعسكري: ففي محاولة للتعاطي مع هذه الأزمة بدأت معظم الدول الغربية، خصوصاً الدول الأوروبية، تلجأ إلى ما تصفه بعض الدوائر بـ”التسوق الأمني والعسكري”، في إشارة إلى اللجوء إلى استيراد الأسلحة من بعض الدول؛ فعلى سبيل المثال، ذكرت صحيفة “ذي ماركر” الإسرائيلية، في شهر مارس الفائت، أن الطلب على الأسلحة الإسرائيلية من الدول الأوروبية شهد ارتفاعاً ملحوظاً. وذكر التقرير أن هناك أسلحة الطائرات المسيرة وأنظمة التحكم والمراقبة وبعض أنظمة القتال الإلكتروني، تستحوذ على اهتمام كبير من جانب دول أوروبية مثل ألمانيا والسويد ورومانيا والتشيك وبلغاريا.
تداعيات سلبية
ارتبطت التحذيرات الغربية، فيما يتعلق بملف تسليح أوكرانيا، بالعديد من التداعيات السلبية المحتملة التي قد تترتب على هذا التوجه، ومن أبرز هذه التداعيات:
1– عدم القدرة على تلبية الاحتياجات العسكرية الوطنية: أحد الاعتبارات الرئيسية التي تقف خلف المخاوف والتحذيرات الغربية فيما يتعلق بعمليات تسليح أوكرانيا، يتمثل في تأثير هذا الدعم على الجهود الوطنية لهذه الدول في مجالات الأمن والدفاع، وقد تجلَّى هذا بوضوح في تصريحات وزيرة الدفاع الألمانية وعدد من المسؤولين، الذين أشاروا إلى أن الأولوية في المرحلة المقبلة تتمثل في دعم عمليات إعادة هيكلة المنظومة العسكرية، وبناء القدرات الوطنية في هذا الصدد. وفي ذات السياق، تُشير الدوائر الأمريكية المعارضة لهذا التوجه، إلى أن الأولوية في الفترات المقبلة ليست لدعم أوكرانيا عسكرياً، بل لبناء القدرات العسكرية الوطنية بما يضمن الاستعداد لأي مواجهات محتملة ضد الدول المناوئة لواشنطن.
2– زيادة وتيرة الاستياء المجتمعي في الدول الغربية: لم تقتصر تداعيات عمليات تسليح أوكرانيا على التأثير على منظومات وجهود التسليح الوطنية، بل امتدت لتشمل زيادة معدلات الاضطراب الداخلية في بعض البلدان الغربية؛ حيث ارتفعت وتيرة الاحتجاجات داخل بلدان الاتحاد الأوروبي اعتراضاً على عمليات تسليح أوكرانيا، في ضوء منطلقين رئيسيين: الأول أن عمليات التسليح الضخمة لأوكرانيا تدفع باتجاه إطالة أمد الحرب، والثاني يرتبط بما يحمله هذا التوجه من تداعيات اقتصادية على الدول الأوروبية. في هذا السياق اندلعت احتجاجات شعبية، في شهر سبتمبر الجاري، في مدن بألمانيا، كمدينة كاسل، فيما تظاهر ما يزيد على 70 ألف شخص في العاصمة التشيكية براج، منتقدين موقف حكومة بلادهم من الحرب في أوكرانيا، ومشيرين إلى أنها اهتمت بالحرب أكثر من معالجة الارتفاع الكبير في أسعار الطاقة.
3– تصاعد الضغوط السياسية على الحكومات الغربية: ربما يدفع الدعم العسكري المتنامي لأوكرانيا نحو تصاعد الضغوط السياسية على الحكومات الغربية، وخصوصاً أن بعض قوى المعارضة تنتقد الحكومات ودعمها الكبير لأوكرانيا؛ فعلى سبيل المثال، أشارت تقارير إلى حدوث صدام وخلافات داخل الإدارة الأمريكية بين الجمهوريين والديمقراطيين بخصوص الدعم العسكري لأوكرانيا؛ ففي الوقت الذي يُصر فيه الرئيس جو بايدن على زيادة حجم الدعم العسكري لأوكرانيا، ترى الدوائر الجمهورية والمحافظة أن هذا التوجه يُثقل كاهل الولايات المتحدة، وأن على واشنطن التركيز على مواجهة الصين.
كما ظهرت مؤشرات هذا الأمر في بريطانيا؛ إذ شكَّلت انتقادات التسليح الحكومي المتنامي محوراً هاماً من خطاب المعارضة خلال الشهور الماضية؛ ففي شهر أغسطس الماضي، على سبيل المثال، انتقد الزعيم السابق لحزب العمال البريطاني “جيرمي كوربين”، الدعم الذي تُقدِّمه الحكومة البريطانية لأوكرانيا، وذكر أن بريطانيا ودولاً غربية آخرى من خلال ضخها السلاح في أوكرانيا “ستُطِيل أمد هذه الحرب وتُضخِّمها فقط”.
4– تنامي المخاوف الأوروبية من وقوع الأسلحة في قبضة العصابات: أشارت صحيفة “ديلي ميل” البريطانية، في تقرير لها، في شهر يوليو الماضي، إلى أن عصابات إجرامية من أوروبا الشرقية تدخل أوكرانيا من بولندا، وتدفع أموالاً مقابل شراء الأسلحة الغربية ليعودوا بها إلى الاتحاد الأوروبي، وكانت روسيا قد نشرت مقاطع مصورة أظهرت مقاتلين متمركزين في سوريا يحملون أسلحة غربية مضادة للدبابات كانت قد أُرسلت إلى أوكرانيا، فضلاً عما يتم تداوله من معلومات حول بيع الأسلحة الغربية في الأسواق السوداء، وهي اعتبارات زادت المخاوف الغربية فيما يتعلق بدعم أوكرانيا عسكرياً، خصوصاً أن هذه الأسلحة قد تتحول إلى مصدر تهديد كبير بالنسبة إلى أوروبا حال وقوعها في أيدي جماعات إرهابية أو إجرامية.
5– احتمالية حدوث تغيرات في مسار الصراع الأوكراني: لا يمكن إغفال أن التأثير السلبي على مخزون الأسلحة قد يكون له انعكاسات محتملة على مسار الصراع الأوكراني؛ فمن جهة أولى، يبدو أن الدول الغربية بدأت تقلل وتيرة دعمها التسليحي لأوكرانيا؛ فالتقديرات تشير إلى تراجع التزامات الدعم الموجهة لأوكرانيا من الدول الأوروبية الرئيسية، وهي بريطانيا وألمانيا وبولندا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا، خلال الشهور الماضية؛ ففي شهر يونيو 2022 أعلنت هذه الدول عن التزامات بقيمة 1.71 مليار يورو تقريباً؛ وذلك انخفاضاً من دعم قيمته 4.16 مليار يورو في شهر مايو 2022. هذا التراجع في الدعم التسليحي قد يكون له تأثير على القدرات العسكرية والدفاعية لأوكرانيا. ومن جهة ثانية، يبدو أن روسيا تتبنى استراتيجية إطالة الأمد في الحرب وصولاً إلى الشتاء كي تُضعِف الموقف الأوروبي بدرجة كبيرة؛ وذلك بتوظيف ورقة الغاز، وهو أمر قد تراهن عليه روسيا كثيراً في ظل الخسائر التي بدأت تتعرض لها مؤخراً في بعض المناطق داخل أوكرانيا.
6– إمكانية التأثير على توازنات القوة بين أوروبا وروسيا: تنطوي مؤشرات تراجع مخزون التسليح الغربي على تأثيرات محتملة على توازنات القوة العسكرية بين أوروبا وروسيا، وهو أمر انتبهت إليه الدول الأوروبية، فعلى سبيل المثال، ذكر مفوض الأمن والسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي “جوزيب بوريل”، في شهر أغسطس الماضي، أن “الاتحاد الأوروبي أنشأ مجموعة عمل لدراسة الإمكانات وتعزيز التطبيق العملي للطلبات العسكرية المشتركة لدول الاتحاد الأوروبي لتجديد مخزوناتها من الأسلحة”، وأضاف أن “المفوضية الأوروبية خصصت 500 مليون يورو للسنتين القادمتين من أجل تكثيف التطبيق العملي للطلبات المشتركة، وهو أمر ضروري لتحسين كفاءة المشتريات ودعم الصناعة العسكرية”.
في الختام، يمكن القول إن التوسع الغربي في عمليات تسليح أوكرانيا والرهان على خيار الحل العسكري، كان له العديد من التداعيات السلبية على الدول الغربية نفسها؛ وذلك في ضوء ما سبَّبه ذلك من أزمات فيما يتعلق بعمليات التسليح الوطني، فضلاً عما سبَّبه هذا التوجه من اضطرابات وأزمات سياسية داخلية، واحتمالية تحول أوكرانيا إلى سوق سوداء للأسلحة، بما يهدد الجغرافيا الأوروبية بأكملها.