• اخر تحديث : 2024-11-22 10:05
news-details
تقدير موقف

في منتصف أغسطس الماضي، احتفلت الهند بمرور 75 عاماً من الاستقلال عن الحكم البريطاني، إلا أن تلك الاحتفالية سبقتها تظاهرات واسعة بدأت في الخامس من أغسطس، بإيعاز من حزب المؤتمر المعارض الرئيسي في الهند، ضد حزب بهاراتيا جاناتا الحزب الحاكم الحالي بزعامة “ناريندرا مودي”؛ وذلك اعتراضاً على ارتفاع أسعار الغذاء والبطالة، فضلاً عن السياسات التمييزية والقمعية للحريات السياسية والمدنية المتبعة منذ وصول مودي إلى سدة الحكم في عام 2014، وزادت وتيرتها بعد الانتخابات البرلمانية عام 2019، وسرعان ما اتخذت الاحتجاجات منعطفاً أكثر احتداماً عندما انضم إليها نواب بارزون في البرلمان بقيادة راهول غاندي الخصم الرئيسي لمودي في الانتخابات العامة الأخيرة؛ ما أدى إلى تصاعد مواجهات عنيفة مع الشرطة، لتنذر تلك الأحداث بأزمة سياسية واقتصادية غير مسبوقة تتعرض لها أكبر ديمقراطيات العالم.

أبعاد الأزمة

ثمة عدة مظاهر للأزمة السياسية والاقتصادية داخل الهند، التي تمثل بدورها ضغوطاً لم يسبقها مثيل تتعرض لها الديمقراطية الهندية خلال الفترة الأخيرة، ويمكن استعراض أبرز أبعاد تلك الأزمة على النحو التالي:

1- التكريس لسياسات تمييزية: بالرغم من أن الهند دولة ديمقراطية متعددة الأحزاب، فإن الحكومة بقيادة رئيس الوزراء “ناريندرا مودي” وحزبه القومي الهندوسي بهاراتيا جاناتا قد قادا سياسات تمييزية وممارسات اضطهادية ضد السكان المسلمين، لا سيما فيما يتعلق بالعقبات التي يتعرض لها الهنود المسلمون أمام التمثيل السياسي في البلاد؛ فعلى سبيل المثال فاز المرشحون المسلمون بـ27 مقعداً من أصل 545 مقعداً في الانتخابات البرلمانية لعام 2019، وهو ما يمثل 5% فقط من المقاعد البرلمانية، بينما يشكل المسلمون نحو 14% من السكان، ناهيك عن أن حزب “بهاراتيا جاناتا” هو أول حزب حاكم في تاريخ الهند لا يضم في صفوفه عضواً مسلماً واحداً في البرلمان. علاوة على الشكوك حول إقدام الحكومة الهندية على إنشاء سجل وطني للمواطنين؛ حيث يعتقد العديد من المراقبين أن الغرض من السجل هو حرمان الناخبين المسلمين من التصويت من خلال تصنيفهم فعلياً مهاجرين غير شرعيين.

2- التضييق على الحريات المدنية: بالرغم من أن الدستور الهندي يكفل الحريات المدنية، بما في ذلك حرية التعبير عن الرأي، وحرية ممارسة الشعائر الدينية، فإنه في ظل حكم مودي، قد زادت بشكل ملحوظ حملات ملاحقة وتقييد الصحافة والمنظمات غير الحكومية ومنتقدي الحكومة الآخرين؛ إذ يسعى النظام إلى الهيمنة؛ ليس على المعارضة الحزبية فقط، بل أيضاً على المثقفين المعارضين والصحفيين المستقلين؛ حيث فرض عدداً من القيود على المعارضة لتقويض ممارسة كافة أشكال الحريات المدنية، وقد أدى ذلك إلى خلق مناخ من الخوف يتردد فيه الأغلبية عن التعبير عن وجهات نظر مخالفة، علاوة على التقليل من قيمة المؤسسات الإعلامية والتعليمية المستقلة، بل تقوم السلطات بإعادة تنظيم مناهج المدارس والكليات لتعكس التحيزات الأيديولوجية والثقافية للنظام الحالي.

3- ضعف سيادة القانون: خلال السنوات الماضية أشارت العديد من التقارير إلى أن النظام القضائي الهندي أصبح يواجه مشكلات عديدة؛ فبعد أن كان هذا النظام معروفاً في السابق بنشاطه واستقلاله، بات غير فعال في الوقت الحالي بحسب العديد من المراقبين؛ إذ يوجد نحو 40 مليون قضية معلقة؛ ما يولد شكوكاً شعبية عديدة حول مفهوم سيادة القانون، وتآكلاً للثقة بنزاهة القضاء بسبب عدم قدرة المحكمة على دعم الحريات المدنية في بعض الحالات من خلال حرمان الناس من الإفراج عن سجناء الرأي بكفالة، فضلاً عن إساءة استخدام قوانين الفتنة ومكافحة الإرهاب من قبل الشرطة، ناهيك عن أن تطبيق القوانين يتم بشكل غير متساوٍ؛ إذ قد تصل إلى إلقاء القبض على المسلمين بسبب صلاتهم في الأماكن العامة، لا سيما أنه يتم الآن النظر إلى النظام القضائي بأنه يعمل بشكل وثيق مع توجهات النظام السياسي الحاكم، كما يتغاضى قضاة المحكمة العليا عن انتهاكات رئيس الوزراء مودي نفسه.

4- تفاقم المشكلات الاقتصادية: سجل الاقتصاد الهندي نمواً قوياً خلال الربع الثاني من عام 2022، إلا أن الاقتصاديين يتوقعون تعرض الهند لبعض المشكلات الاقتصادية، خاصة في ظل اتجاه البنك المركزي الهندي نحو تشديد سياسته النقدية لكبح جماح التضخم الذي ظل أعلى من نطاق المستهدف من قبل البنك المركزي (2% – 6%)، في وقت تعاني فيه البلاد من ارتفاع في معدلات البطالة وانخفاض الأجور إلى مستويات قياسية، لا سيما النزيف المستمر لقيمة الروبية الهندية أمام الدولار الأمريكي، الذي يتم تداوله منذ شهور بما يقرب من 80 روبية؛ وذلك على خلفية التداعيات السلبية للأزمة الروسية الأوكرانية، وتصاعد عجز الحساب الجاري كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي إلى أعلى مستوى له منذ عقد على الأقل، الذي قد يصل بحسب بعض التقديرات إلى 3.1% خلال العام الجاري؛ ما قد يضع مزيداً من الضغط على العملة المحلية.

تداعيات محتملة

قد يتمخض عن الأزمات السياسية والاقتصادية في البلاد العديد من الانعكاسات السلبية على الاستقرار السياسي الداخلي، فضلاً عن تشوه صورة النظام الهندي أمام المجتمع الدولي، ومن أبرز تلك التداعيات ما يلي:

1- التحول السريع نحو نظام الهيمنة المطلقة للأغلبية: من المتوقع استمرار نهج سياسات حكومة “ناريندرا مودي” كما هي عليه في الوقت الراهن؛ الأمر الذي قد نجد فيه الهند نموذجاً مشابهاً لبعض الدول بالمنطقة من حيث سيطرة الأغلبية فقط على جميع مفاصل الحكم، دون إشراك أي من أقليات المجتمع؛ حيث إن جارتيها باكستان وبنجلاديش ذواتا أغلبية مسلمة، وجارتيها ميانمار وسريلانكا ذواتا أغلبية بوذية، ومن ثم قد تصبح المناصب القيادية والمشاركة السياسية في الهند محصورة للأغلبية الهندوسية فقط، مع الاستمرار في تهميش بقية الطوائف الأخرى، بما فيهم المسلمون الذين يمثلون نحو 14% من إجمالي سكان البلاد.

2- تراجع تصنيف الهند في المؤشرات الدولية: من المتوقع أن تشهد الهند انخفاضات متتالية في تصنيفها بالمؤشرات الدولية المتعلقة بقياس درجات الحرية السياسية وحقوق الإنسان، نتيجة السياسات المتبعة من قبل الحزب الحاكم؛ ففي عام 2021 خفض معهد “V-Dem” السويدي تصنيف الهند لتصبح “دولة استبدادية”، كما خفضت منظمة “فريدوم هاوس” تصنيف الهند من دولة “حرة” إلى “حرة جزئياً”، على خلفية التآكل المستمر للديمقراطية الهندية تحت قيادة رئيس الوزراء ناريندرا مودي. ووفقاً للكاتب والمحلل “ديباسيش روي شودري” في مقال منشور له بصحيفة نيويورك تايمز يوم 24 أغسطس الماضي، فإن تراجع تصنيف الهند في هذه المؤشرات “قد أدى إلى قلب ميزان الحرية العالمي بقوة لصالح الاستبداد، نتيجة تحول أكثر من 1.4 مليار نسمة من سكان العالم من العيش في دولة ديمقراطية إلى دولة مستبدة”. ولا يمكن إغفال أن هذا الأمر يتناقض مع تصريحات وزير الخارجية الهندي، في أبريل الماضي، بأنه “إذا كان هناك إحساس في العالم اليوم بأن الديمقراطية هي المستقبل، فإن جزءاً كبيراً منها يرجع إلى الهند؛ حيث كان هناك وقت كنا فيه، في هذا الجزء من العالم، الديمقراطية الوحيدة”.

3- احتمالية اتساع دائرة الصراع الداخلي: في ظل ضعف دور مؤسسات الدولة، على خلفية تقربها من أعضاء الحزب الحاكم، خاصة الشرطة والقضاء، وبجانب وجود أغلبية هندوسية مناهضة لحقوق وحريات الأقلية المسلمة؛ فقد نشهد خلال الفترة المقبلة اتساع ملامح الصراع الداخلي أو التعرض لحرب أهلية بين مختلف أطياف المجتمع الهندي، خاصة في ظل تردي الأوضاع الاقتصادية وانتشار الفقر والأمية، وكذلك تنامي الاستياء في صفوف بعض الأطياف، وخصوصاً المسلمين، تجاه سياسات الحزب الحاكم؛ ما قد يؤدي إلى مزيد من التشويه في صورة أكبر ديمقراطيات العالم، ناهيك عن احتمالات انتهاز الدول المجاورة المعادية للهند، فرصة دعم حالة عدم الاستقرار الداخلي من أجل تحقيق مصالحها.

4- التأثير السلبي على صورة الهند الخارجية: فعلى مدار عقود عملت الهند على التكريس لصورة إيجابية خارجية لها بوصفها الدولة المستقرة الأكثر احتراماً لمعايير الديمقراطية والحريات مقارنة بالدول المجاورة. وهذه الصورة سمحت للهند بتوطيد علاقاتها بالعديد من الدول الغربية والاستفادة السياسية والاقتصادية من هذه العلاقات، ناهيك عن صياغة صورة إيجابية عن الهند لدى الرأي العام في الكثير من الدول. ولكن مع تفاقم الأزمات الداخلية ومظاهر التمييز المجتمعي والسياسي التي باتت سائدة داخل الهند، أصبحت صورة الدولة خارجياً موضع شكوك كبيرة.

5- تنامي التوترات مع الغرب: يرجح البعض أن يحدث توتر بين نيودلهي والغرب؛ حيث قد تضطر الأولى إلى تجاهل التهديدات التي تواجه الدول الغربية من جراء الحرب الأوكرانية، التي دفعتها إلى فرض عقوبات اقتصادية على موسكو؛ وذلك بحجة معالجة أزمتها الاقتصادية الداخلية؛ إذ تعمل نيودلهي على زيادة وارداتها من النفط الروسي، مستفيدة من انخفاض أسعاره، لتأتي روسيا بالمرتبة الثانية عالمياً، بعد السعودية، بقائمة أكبر موردي النفط إلى الهند، بإجمالي نحو مليون برميل يومياً في أغسطس الماضي، بعدما كانت بالمرتبة العاشرة خلال عام 2021، كما أن من المتوقع أن تسعى الهند إلى زيادة وارداتها النفطية من روسيا إلى 1.5 مليون برميل يومياً، أي نحو 30% من إجمالي وارداتها النفطية، بهدف استيعاب ارتفاع الأسعار العالمية.

6- تزايد الفرص المتاحة أمام المعارضة السياسية: ربما تدفع الأزمات السياسية الراهنة في الهند إلى تعزيز فرص المعارضة السياسية ومن ثم التصعيد من خطابها المناهض للحزب الحاكم. وظهرت مؤشرات ذلك الأمر خلال الشهور الماضية حينما صعد حزب “المؤتمر الوطني” المعارض انتقاده لحزب بهاراتيا جاناتا؛ ففي شهر أغسطس الماضي، اعتقلت الشرطة عدداً من نواب حزب “المؤتمر الوطني”، بينهم رئيسه السابق راهول غاندي، أثناء محاولتهم تنظيم مسيرة يوم 5 أغسطس 2022، إلى قصر الرئاسة ومقر إقامة رئيس الوزراء، احتجاجاً على ارتفاع أسعار الأغذية والوقود وزيادة ضريبة السلع والخدمات. وفي هذا الإطار، ذكر “غاندي” في مؤتمر صحفي قبل اعتقاله: “ما نشهده هو موت الديمقراطية في الهند”، وأضاف: “أي شخص يعارض فكرة ظهور الدكتاتورية، يتعرض لهجوم شرس ويُسجن ويُعتقل ويُضرب. الفكرة هي وجوب الامتناع عن إثارة قضايا الناس، سواء كانت ارتفاع الأسعار أو البطالة أو العنف في المجتمع. هذا هو جدول الأعمال الوحيد للحكومة”.

7- مضاعفة ضغوط الإصلاح الاقتصادي على الحكومة الهندية: لا يمكن إغفال أن الأزمات الراهنة في الهند تضاعف الضغوط على الحكومة لإصلاح الأوضاع الاقتصادية كأداة يمكن عبرها تهدئة التوترات المجتمعية. وفي هذا السياق، يتوقع الخبراء الاقتصاديون نمو الاقتصاد الهندي بقوة خلال العامين الحالي والمقبل بمعدل 6.5 – 7.5%؛ وذلك في حالة نجاح السياسات المالية والنقدية الهندية لتجاوز الأزمة الاقتصادية الراهنة؛ الأمر الذي يعطي تفاؤلاً وثقة لقدرة نيودلهي على إزالة الضغوط الاقتصادية الحالية، ومن ثم إذا نجحت تلك السياسات في خفض معدلات التضخم لأسعار السلع الأساسية، وتحقيق مزيد من فرص العمل، فربما قد نشهد حينها هدوءاً نسبياً للرأي العام الداخلي.

خلاصة القول: بالرغم مما نراه في المشهد السياسي الهندي الراهن، فإن من السابق لأوانه الجزم بانتهاء عصر الحريات السياسية والمدنية في الهند، فضلاً عن ضرورة عدم إلقاء اللوم كله على الحكومة؛ وذلك لأن المؤسسات الحكومية الضعيفة والتفاوت الاجتماعي، قد استنزفا ديمقراطيتها ووفرت أرضية خصبة لترسيخ سياسة تفوُّق الطائفة الهندوسية، كما أن مشكلات الاقتصاد الهندي يتعلق جزء كبير منها بالهبوط الشديد لأداء الاقتصادات العالمية الكبرى، الناتجة عن المخاطر الجيوسياسية في أوكرانيا وتايوان، واستمرار التداعيات السلبية لانتشار فيروس كورونا ومتحوراته، فضلاً عن أزمة سلاسل التوريد العالمية.