غداة الإعلان عن وفاة الملكة “إليزابيث الثانية” (96 عاماً) ملكة بريطانيا مساء يوم 8 سبتمبر الجاري بعد حكم دام 7 عقود؛ تم تنصيب نجلها “تشارلز الثالث” ملكاً جديداً لبريطانيا والكومنولث (14 دولة تخضع للتاج البريطاني رمزياً) ليضمن استمراراً للتقاليد الملكية المتوارثة منذ القرن السادس عشر، وقد بدأ فوراً في المهام الملكية بعقد جلسات مع المستشارين ومجلس الوزراء البريطاني، وألقى كلمة أمام البرلمان ثم بدأت التحضيرات للجنازة الملكية التي ستُقام في 19 سبتمبر الحالي.
وقد تزامن مع ذلك تشكيك في استمرارية الملكية الدستورية نظاماً للحكم في بريطانيا بعد رحيل الملكة الأكثر شعبيةً في تاريخ البلاد، وكذلك التشكيك في استمرارية الكومنولث بوصفه تجمعاً للمستعمرات البريطانية السابقة، في ظل تصاعد الدعوات للاستقلال عن التاج البريطاني عقب وفاة الملكة مباشرةً؛ الأمر الذي يضيف المزيد من التحديات أمام حكم الملك “تشارلز الثالث”، لا سيما في ظل سياقات إقليمية ودولية مضطربة.
مؤشرات متصاعدة
منذ عام 1952 مثَّلت الملكة “إليزابيث الثانية” بريطانيا والكومنولث في مراحل تاريخية متعاقبة ومتغيرة، ووصفت بأنها “رمز الاستقرار والتوازن” بالمملكة؛ وذلك رغم أن صلاحياتها رمزية؛ فالملك البريطاني “يملك ولا يحكم” والبرلمان والحكومة يديران البلاد باسمه وبصلاحياته، وكان لها دور بارز في الحفاظ على “الكومنولث البريطاني” نظراً إلى شعبيتها المرتفعة بدوله، وهو “رابطة شعوب بريطانيا – الكومنولث” الذي أسس عام 1949 من 54 دولة، وهو اتحاد سياسي طوعي ويستند إلى التزام مشترك بالقيم بما في ذلك الحرية وحقوق الإنسان والتجارة والحكم الرشيد. وقد زارت الملكة جميع دول المنظمة مرة واحدة على الأقل. وهذه الرابطة تختلف عن “دول الكومنولث البريطاني” المكون من 14 دولة تخضع رمزياً للتاج البريطاني، وقد أعلنت بعض تلك الدول رغبتها في الاستقلال والتخلي عن التاج البريطاني بعد وفاة الملكة مباشرة.
وترتبط دعوات الخروج من الكومنولث باتجاه متصاعد خلال السنوات الماضية؛ فمنذ عامين تتصاعد الدعوات في دول الكومنولث الـ14 للخروج من سلطة التاج البريطاني والحصول على الاستقلال وإعلانها باعتبارها جمهوريات، وجاء ذلك بعد إعلان جزيرة “باربادوس” الخروج من الكومنولث في عام 2021، ثم ألمحت 6 دول من جزر الكاريبي نيتها التخلي عن التاج البريطاني، ومنها (بليز ، وجامايكا، وجزر الباهاما، وجرينادا)، فضلاً عن ارتفاع الدعوات المؤيدة إلى استقلال أستراليا، وبلغت عام 2020 نحو 62% بعدما كانت ترفض تماماً التخلي عن التاج البريطاني. وغداة وفاة الملكة، دعا النائب بالبرلمان الأسترالي “آدم باندت” إلى الاستقلال عن التاج البريطاني والتحول إلى جمهورية.
ونمت الدعوات للانفصال عن النظام الملكي في كندا بعض الشيء؛ ففي أبريل الماضي أظهر استطلاع رأي تأييد 51% من الكنديين الاستقلال مقارنةً بـ26% يؤيدون البقاء في ظل التاج البريطاني والكومنولث، بينما كشفت رئيسة وزراء نيوزيلندا “جاسيندا أرديرن” بعد وفاة الملكة أن “بلادها ستتحول إلى جمهورية في وقت ما، ولكن ليس في المستقبل القريب”. كما أعلن رئيس وزراء جزيرة “أنتيجوا وبربودا” (دولة صغيرة عدد سكانها 100 ألف نسمة بالبحر الكاريبي) “جاستن براون” يوم 11 سبتمبر الحالي عن عزمه إجراء استفتاء للتحول إلى جمهورية في غضون السنوات الثلاث المقبلة؛ ما سيؤدي إلى التخلي عن التاج البريطاني وإزاحة الملك “تشارلز الثالث” عن رئاسة الدولة. وأكد “براون” أن “هذا خطوة أخيرة لإكمال دائرة الاستقلال؛ لنضمن أننا أمة ذات سيادة حقاً، وليس عملاً عدائياً ضد أحد”.
محفزات رئيسية
يرتبط اتجاه التفكك المحتمل في الكومنولث البريطاني بعد رحيل الملكة إليزابيث بعدد من المحفزات الرئيسية المتمثلة فيما يلي:
1- ضعف شعبية الملك “تشارلز الثالث” مقارنة بالملكة الراحلة: أظهرت مشاعر الحزن التي سادت المملكة المتحدة والكومنولث وبعض الدول الصديقة لها، كفرنسا، مدى المحبة والتقدير والاحترام والشعبية الواسعة التي حظيت بها الملكة الراحلة، ويعد هذا أكبر تحدٍّ يواجه خلفها “تشارلز الثالث”، الذي لا يتمتع بمثل هذه الشعبية، ورغم أنه تعهد باتباع نهج الملكة في إرساء الديمقراطية الدستورية بالبلاد خلال كلمته أمام البرلمان، فإن الانتقادات التي وجهت له خلال فترة توليه ولاية العهد تُعَد عقبة أمام ارتفاع شعبيته، كما أن هناك تشكيكًا في قدرة الملك الجديد على تحقيق أي إنجاز أو الحفاظ على وحدة وتماسك العائلة المالكة والمملكة المتحدة.
2- مواجهة الملك الجديد بيئة داخلية ودولية مضطربة: جاء رحيل الملكة في وقت عصيب على المملكة المتحدة؛ إذ تمر بعدم استقرار داخلي إثر تغير رؤساء الوزراء بصفة مستمرة منذ ست سنوات، كان آخرهم رئيسة الوزراء التي لم تُنتخَب انتخاباً مباشراً “ليز تراس” التي يُعرَف عنها رفضها النظام الملكي. وعلى الصعيد الإقليمي لا تزال ترتيبات الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي مستمرة، فضلاً عن الأزمات السياسية والاقتصادية، وأزمة الطاقة التي أسفرت عنها العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا المستمرة منذ ستة أشهر. وخلال الشهر الماضي تراجع ترتيب الاقتصاد البريطاني ليحل بالمركز السادس عالمياً، فضلاً عن ارتفاع نسبة التضخم إلى أعلى مستوياته منذ 40 عاماً، وهو ما وُصف بأنه أسوأ أزمة اقتصادية بالبلاد، كما تعد لندن من أكثر الداعمين لكييف في حربها، وقدمت لها العديد من المساعدات العسكرية؛ ما يُلزمها باستمرار هذا الدعم. وهذه الأزمات المتزامنة ستدفع بعض الدول للخروج من سلطة التاج البريطاني للتخلص من الأعباء الاقتصادية والسياسية المترتبة عليها، أو بمعنى آخر، قد تشعر الدول المرتبطة بالتاج البريطاني أنه لم يَعُد من الممكن لها الحصول على مزايا حقيقية في ضوء الأزمات التي تواجهها بريطانيا.
3- استدعاء ذاكرة الجرائم الاستعمارية: رغم حالة الحزن التي انتابت الكومنولث برحيل الملكة، فإن عدداً من المفكرين والمثقفين في المستعمرات البريطانية السابقة، بدؤوا يُذكِّرون بالجرائم الاستعمارية البريطانية خلال القرن الماضي، لا سيما ما يتعلق باضطهاد (السود، والأقليات، والسكان الأصليين بدول الكاريبي والدول الأفريقية) والسيطرة على الثروات والمواد الخام بتلك الدول دون مقابل لعقود من الاستعمار؛ ما أدى إلى تراجع اقتصادي واجتماعي بتلك الدول. وطالب بعض المفكرين بريطانيا بدفع تعويضات عن عقود الاستعمار الطويلة، وإعادة كتابة التاريخ مع إنصاف الدول النامية والمستعمَرة.
4- زخم التيار الانفصالي داخل المملكة المتحدة: تتكون المملكة المتحدة من أربع مقاطعات هي (اسكتلندا، إنجلترا، ويلز، أيرلندا الشمالية)، وقد زارها الملك الجديد “تشارلز الثالث” فور توليه منصبه، واستُقبل بفتور في اسكتلندا وأيرلندا الشمالية الساعيتين إلى الانفصال عن المملكة، كما خاضت أيرلندا حرباً للاستقلال على مدى عقدين ضد بريطانيا حتى التوقيع على اتفاق السلام عام 1998، وقد تصاعدت دعوات القومية فيهما مؤخراً؛ حيث يريد أكبر حزبين سياسيين في اسكتلندا وأيرلندا الشمالية مغادرة المملكة المتحدة والاستقلال، بينما يدعم ربع سكان مقاطعة ويلز ذلك. وقد أكدت صحيفة “جارديان” البريطانية أن “الإسكتلنديين كانوا مرتبطين بشخصية الملكة نفسها أكثر من المؤسسة الملكية”.
وكانت رئيسة الوزراء الأسكتلندية “نيكولا ستورجن” قد أعلنت أولى الخطوات على طريق الاستقلال في نهاية يونيو الماضي؛ حيث كشفت عن عزمها تنظيم استفتاء جديد حول الاستقلال في 19 أكتوبر 2023، ومن المقرر أن تبحث هذا القرار المحكمةُ العليا البريطانية بالخريف الحالي. وجدير بالذكر أن اسكتلندا قد أجرت استفتاء للانفصال عن المملكة المتحدة عام 2014، واختار 55% من الناخبين الأسكتلنديين البقاء ضمن التاج البريطاني بعد أن دعتهم دعوة الملكة الراحلة “إلى التفكير ملياً في مستقبلهم”، وكان لهذه الدعوة دور في تراجعهم عن الاستقلال، بيد أن استطلاعات الرأي الحالية تشير إلى إمكانية انفصال اسكتلندا بالفعل عن المملكة المتحدة لتصبح دولة مستقلة، وتنضم فيما بعد إلى الاتحاد الأوروبي. وإذا استقلت اسكتلندا بالفعل، ربما تتبعها في ذلك أيرلندا الشمالية لتقتصر المملكة المتحدة على مقاطعتَي إنجلترا وويلز فقط.
سيناريوهات محتملة
مما سبق نجد أن هناك عدة سيناريوهات رئيسية تطرح نفسها لمستقبل المملكة المتحدة والكومنولث البريطاني في عهد الملك الجديد “تشارلز الثالث”، وتتمثل فيما يلي:
1- الحفاظ على تماسك المملكة المتحدة والكومنولث: فور الإعلان عن تنصيب الملك “تشارلز الثالث”، أعلنت 12 دولة من 14 هي مجمل دول الكومنولث، الاعتراف به وبحكمه الجديد، ومن المرجح أن يستلم رئاسة الاتحاد من بعد الملكة، وإذا أبدى تمسكه بوحدة الكومنولث والمملكة المتحدة وأعاد تواصله مع مختلف القوى السياسية والأحزاب داخل وخارج المملكة وتمكن من ملء الفراغ السياسي والتاريخي الناجم عن رحيل الملكة، فسيمكنه الحفاظ على المملكة والكومنولث. وفي هذا الإطار، ربما يكون عليه طرح آليات جديدة وتحديد أهداف جديد لتطوير الاتحاد ولمواجهة الأزمات والتحديات الاقتصادية الآنية التي تمر بالمملكة والكومنولث.
2- تفكك جزئي واستقلال بعض الدول بوصفها جمهوريات: ينبني هذا السيناريو على الرغبة الواضحة من قبل بعض دول الكومنولث في الاستقلال على فترات زمنية متقاربة، ومنها (جامايكا، بليز، نيوزيلندا، أنتيجوا وبربودا)، بيد أن ذلك ليس من الضرورة أن يؤدي إلى قطع علاقاتها بالمملكة المتحدة أو رابطة الكومنولث الموسعة التي تضم 54 دولة، وربما يؤدي ذلك إلى المزيد من التفاعلات فيما بينها، وربما يكون الأحرى بالمملكة المتحدة والملك “تشارلز” وضع قواعد لاستقلال تلك الدول دون أزمات سياسية أو دستورية فيما بينهما، كما أن هناك عدداً آخر من الدول لا تزال متمسكةً بالبقاء تحت مظلة التاج البريطاني، ومنها كندا.
3- التفكك الكامل للكومنولث: يقضي هذا السيناريو بتفكك الكومنولث تماماً بحيث لا تبقى أي دولة من الـ14 ترغب في البقاء تحت مظلة التاج البريطاني، وقد يحدث ذلك على المديين القصير والمتوسط في غضون خمس سنوات على سبيل المثال؛ وهذا نتيجةً لارتفاع التيارات القومية والاستقلالية بتلك الدول، وبفعل الأزمات الاقتصادية والسياسية التي ستدفع تلك الدول إلى الخروج من السلطة البريطانية الرمزية، وربما يتبع ذلك تفكك للمملكة المتحدة أيضاً باستقلال اسكتلندا وأيرلندا الشمالية، وسيتبع هذا العديد من التعديلات الدستورية في دول الكومنولث والمقاطعات البريطانية لتغيير الدستور الذي ينص على الولاء للمملكة المتحدة وملكها، وبعد ذلك ربما يمكن الإبقاء على العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والثقافية بين تلك الدول نظراً إلى الروابط التاريخية المشتركة بينها.
4- إنشاء تكتل بديل للكومنولث: وبحسب هذا السيناريو فإن تفكك الكومنولث الحالي قد يتبعه الاتفاق على تشكيل تكتل بديل له، أو قد تنضم الدول المستقلة عنه إلى “رابطة شعوب بريطانيا – الكومنولث” التي تضم حالياً 54 دولة، وتعد تكتلاً طوعياً رمزياً لا يترتب عليه أي التزامات سياسية بين دوله.
مما سبق، نجد أن رحيل المملكة “إليزابيث الثانية” قد أنهى مرحلة فاصلة في تاريخ المملكة المتحدة، وسيكون لها العديد من التداعيات على المملكة والكومنولث ربما يكون أقلها هو تفكك تلك التكتلات التاريخية والبدء بمرحلة جديدة في التاريخ البريطاني، والخروج من عباءة التاج. وقد تصل التداعيات إلى إمكانية حدوث تغيرات راديكالية في السياسة البريطانية لتصبح بلا “ملكية” للمرة الأولى منذ قرون.