حققت القوات الأوكرانية، في الأسابيع الماضية، تقدماً باستيلائها على المنطقة المحيطة بخاركيف في شمال شرق روسيا والتي تبلغ حوالي 3000 كم مربع. وعُد هذا التقدم الأوكراني بمنزلة تحول في مسار الحرب الروسية التي بدأت في 24 فبراير 2022. وتراوحت التقديرات الغربية في التعامل مع هذا التقدم بين وصفه بانتصار أوكراني أمام إخفاق روسي أو المبالغة في اعتباره بداية النهاية للوجود العسكري الروسي في أوكرانيا، فيما تخوفت اتجاهات أخرى من أن "الحالة اليائسة" للحرب الروسية قد تدفع الكرملين نحو خيارات أكثر يأساً، في إشارة إلى إمكانية التلويح باستخدام أسلحة غير تقليدية.
وفي هذا الإطار، عكس إعلان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، يوم 21 سبتمبر 2022، التعبئة العسكرية الجزئية لقوات الاحتياط، أن الحرب الجارية قد دخلت مرحلة جديدة تؤكد فيها موسكو عزمها ردع أية محاولات تقدم عسكري أوكراني.
تقدم أوكراني:
بعد انسحاب القوات الروسية من كييف وشمال أوكرانيا، تركّزت المواجهة مع القوات الأوكرانية في الأشهر الماضية على ثلاث جبهات، هي الشمال الشرقي في خاركيف، والشرق الأوكراني في الدونباس ودونيتسك، وجبهة الجنوب حيث تقع خيرسون وزاباروجيا، والتـي مازالت مفاعلاتها النووية مثار مخاوف دولية بسبب القصف المُتبادل بين القوات الروسية والأوكرانية.
وبدأت القوات الأوكرانية في تطوير هجومها في أواخر أغسطس 2022، بالتركيز على المحور الجنوبي، بيد أن القوات الروسية تمكنت من صد الهجوم الأوكراني على خيرسون. وأدى ذلك إلى تركيز الجهود الروسية على هذه الجبهة، تاركة الشمال الشرقي لقوات أقل تدريباً وعُتاداً، وهو ما خلق فجوات في خطوط الجبهة الروسية.
ومنح هذا الأمر القوات الأوكرانية القدرة على القيام بمناورة سريعة بشن هجوم خاطف على الشمال الشرقي القريب من خاركيف، حيث تم تحرير عدد من البلدات والمدن مثل بالاكليا وكوبناسك وإيزيوم، والأخيرة مدينة محورية في حركة التجارة والنقل في شمال أوكرانيا وتُعد منفذاً لمنطقة دونباس الصناعية في شرق البلاد.
خلل روسي:
يمكن رصد عدد من الأسباب التي تُفسر تقدم القوات الأوكرانية في مواجهة نظيرتها الروسية في الحرب الجارية خلال الأشهر الماضية، على النحو التالي:
1. الخلل في الخطوط القتالية الروسية: تعاني القوات الروسية الموجودة في أوكرانيا من نقص عددي، وحاولت موسكو تعويضه من خلال توظيف مقاتلي شركة "فاجنر" وقوات الانفصاليين، فضلاً عن تحفيز الرجال فوق سن الأربعين والسجناء للانضمام إلى القتال. وكانت هذه الفئات الأخيرة المسؤولة عن تأمين خاركيف، وهي بطبيعة الحال أقل تدريباً واستعداداً. وقد عبّر قرار القيادة الروسية بإعلان التعبئة العسكرية الجزئية، ودعوة ذوي الخبرة والتخصص العسكري للانضمام للقتال، عن سعيها لعلاج هذا القصور بما يساعد على تعزيز السيطرة الروسية في أوكرانيا.
2. قصور أجهزة الاستطلاع الروسية: يبدو أن ثمة قصوراً واضحاً في تعرف الاستخبارات العسكرية الروسية على الأرض على نوايا القوات الأوكرانية التـي فتحت جبهتي الجنوب والشمال الشرقي في وقت واحد. فربما لم تستوعب الأجهزة المعنية الجاهزية التكتيكية للقوات الأوكرانية في الشمال بعد أن تم صد هجومها على خيرسون في الجنوب. ويرتبط بهذا وجود خلل في عمليات القيادة والسيطرة، فضلاً عن مواطن الضعف المتعلقة بخطوط الاتصال والدعم اللوجستي على الأقل في محور خاركيف.
3. الدعم الغربي للقوات الأوكرانية: على مدار الأشهر الماضية، امتلكت القوات الأوكرانية ميزة نسبية تمثلت في وجود مدد بشري في مقاومة التدخل العسكري الروسـي، إلا أن هذه العناصر عانت من نقص التدريب، وسرعان ما تمكن الدعم الغربي من دعم عمليات هذه القوات. وليس من المُتصور تحقيق القوات الأوكرانية لهذا التقدم على محور خاركيف من دون دعم عسكري ولوجستي واستخباراتي غربي، حيث كان للصواريخ الأمريكية المُضادة للرادارات دور فعال في إرباك منظومة الاتصال الروسية، كما أن الأسلحة الألمانية المُضادة للطيران حيّدت من تدخل الطيران الروسي. وساعد تدفق المعلومات الاستخباراتية لصالح القوات الأوكرانية على تحديد مواقع خصمها الروسي وتحركاته بدقة. يُضاف إلى ذلك، عمليات التدريب والدعم بالذخيرة التي تقوم بها مختلف أطراف التحالف الغربي.
دلالات استراتيجية:
مكّنت العوامل السابقة القوات الأوكرانية من تنفيذ خطة خداع عملياتية، والتحرك سريعاً لضم المنطقة المحيطة بخاركيف. ويمكن رصد عدة دلالات استراتيجية لهذا التقدم الأوكراني، فيما يلي:
1. عدم التماثل القتالي في الحرب: تعاني الحرب الروسية في أوكرانيا جوانب عدم التماثل القتالي بين قوات مركزية ممتدة على مساحة جغرافية واسعة، وقوات أوكرانية صغيرة نسبياً وغير مركزية وسريعة الحركة. وهذا ملمح مشترك عند انخراط القوى الكبرى في حروب من هذا النوع، على النحو الذي شهدناه في أنماط الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة في العقود الأخيرة وخرجت منها بهزائم عسكرية مع طول أمد العمليات.
2. شكوك حول الهجوم العسكري الأوكراني المُضاد: لا يوجد ما يؤشر على أن التقدم الأوكراني الأخير في بعض المناطق يمثل بداية لعملية هجوم عسكري مُضاد، فالهجوم كان على محور واحد وتم بشكل خاطف وسريع، وسبقه إخفاق أوكراني في اختراق محور خيرسون الجنوبي. وسيتطلب انتقال العمليات الأوكرانية إلى مرحلة الهجوم المُضاد ثبات القتال على الجبهات الثلاث أو على الأقل إحداث اختراق في خطوط السيطرة الروسية بطرد قواتها في الشرق، وهو الأمر الأكثر صعوبة؛ نظراً لتعميق موسكو وجودها العسكري والاستخباراتي في هذه المنطقة منذ عام 2014، والأمر ذاته ينطبق على الجنوب. كما أن القيام بهذه العملية المُنسقة سيتطلب زيادة الدعم الغربي للقوات الأوكرانية وجعلها قادرة على تهديد الداخل الروسي، وبالتالي خلق هدف سياسي قوي لتخلي موسكو عن طموحاتها في أوكرانيا.
3. تردد الغرب في التصعيد العسكري ضد موسكو: على الرغم من أن الدعم الغربي كان حاسماً في تحقيق التقدم الأوكراني الأخير، فإن الغرب مازال مُتردداً في اتخاذ خطوات تصعيدية عسكرية جادة ضد موسكو. فعلى سبيل المثال، كانت صواريخ "الهايمرس" (بمدى 80 كم) التي تسلمتها كييف من الولايات المتحدة فعّالة في استهداف بعض المواقع الروسية داخل أوكرانيا، إلا أن توظيفها في تهديد الداخل الروسي انطلاقاً من المنطقة المُستولى عليها حديثاً سيكون قراراً سياسياً بيد واشنطن التي ترفض منذ بداية الحرب تقديم صواريخ طويلة المدى أو الاتجاه لفرض منطقة حظر جوي داخل أوكرانيا لاعتبارات مُتعلقة بقواعد المواجهة غير المباشرة مع موسكو والتي تضع "خطوطاً حمراء" لتجنب الوصول إلى سيناريو "حافة الهاوية النووية". كذلك، مازالت ألمانيا مُترددة في تقديم أسلحة هجومية برية لدعم القوات الأوكرانية، وتتفاوض برلين مع دول أوروبية أخرى مثل سلوفينيا لإمداد كييف بدبابات سوفييتية سابقة.
4. ارتدادات قطع إمدادات الطاقة الروسية: يرتبط الدعم الغربي، والأوروبي تحديداً، بتداعيات سياسات الطاقة "العقابية" لموسكو تجاه الغرب، خاصةً بعد قطع إمدادات الغاز عبر خط "نورد ستريم 1". وقد يؤدي الشتاء القادم وما يحمله من المزيد من الضغوط الاقتصادية والأعباء التضخمية على موازنات الدول الغربية، إلى تقليص الدعم العسكري والاقتصادي لكييف، خصوصاً في حال تصاعد التأثير الشعبوي اليميني الأقرب إلى وجهة النظر الروسية.
تعبئة موسكو:
ظهرت ردة فعل موسكو على التقدم العسكري الأوكراني في التصريحات التي أدلى بها الرئيس بوتين يوم 16 سبتمبر 2022، مشيراً إلى أن جزءاً من القوات الروسية هو الذي يقاتل في أوكرانيا، وهدد "برد عنيف" في حالة استمرار الهجمات الأوكرانية. ويبدو أن هذه التصريحات كانت موجهة في جزء منها للداخل الروسي، لاسيما بعد انتقادات اليمين القومي للقيادة العسكرية واتهامها بالتخاذل في مواجهة التقدم الأوكراني. كما يسعى بوتين إلى تأكيد قدرة بلاده على تحقيق أهدافها الاستراتيجية حتى في حالة "التراجع التكتيكي".
وبدأت موسكو بالفعل في اتخاذ خطوات تصعيد عسكري من خلال الاستمرار في استهداف مواقع في الداخل الأوكراني، والضغط على "جيوب المقاومة" في الشرق، وصولاً إلى إعلان الرئيس بوتين التعبئة العامة العسكرية الجزئية اعتباراً من يوم 21 سبتمبر 2022، وهو التطور الخطير الذي انطوى على العديد من الدلالات والدوافع، وأبرزها الآتي:
1. تصعيد عسكري روسي: هذه أول مرة تعلن فيها موسكو التعبئة العسكرية منذ الحرب العالمية الثانية، وهو ما يؤكد نية روسيا في تبني المزيد من الإجراءات التصعيدية في حربها ضد أوكرانيا وحلفائها من الدول الغربية.
2. سد العجز في القوات الروسية: تشير بعض التقديرات إلى أن القوات الروسية في أوكرانيا عانت في الفترة الأخيرة من خسائر بشرية، وهو ما يدفع موسكو إلى تعويض هذا النقص عبر الدفع بمزيد من القوات الإضافية. إذ يتضمن قرار التعبئة الجزئية استدعاء 300 ألف من قوات الاحتياط الروسية، وبالتالي سينطبق على من لديه خلفية عسكرية. وعلى الرغم من ردود الفعل الغربية التي اعتبرت هذه الخطوة الروسية دليل "ضعف"، فإنها تبدو واقعية في ظل جمود خطوط الجبهة العسكرية وتهديد الضغط الغربي لأهداف موسكو الاستراتيجية في أوكرانيا.
3. وقف الدعم الغربي لكييف: يُدرك بوتين أن الدول الغربية وحلف "الناتو" زادت من دعمها العسكري لأوكرانيا، وهو ما ظهرت نتائجه في الهجمات المُضادة التي شنتها القوات الأوكرانية خلال الفترة الأخيرة. كما لوح الرئيس الروسي، في خطابه يوم 21 سبتمبر الجاري، إلى ما تمتلكه بلاده من أسلحة دمار شامل، مشيراً في هذا الصدد أيضاً إلى تعرض روسيا لتهديدات نووية. وبالتالي يسعى بوتين إلى ردع الغرب والتهديد بسياسة "الأرض المحروقة" في حالة استمرار الدعم المُقدم لكييف.
4. دعم الاستفتاءات في المناطق الانفصالية: اتجهت روسيا أيضاً لتغيير قواعد المواجهة مع أوكرانيا من خلال دفع الانفصاليين الروس في دونيتسك ولوهانسك وخيرسون وزاباروجيا لإجراء استفتاءات حول الانضمام للاتحاد الروسـي في الفترة ما بين 23 و27 سبتمبر 2022. ويعني إجراء مثل هذه الاستفتاءات أن موسكو لم تعد مُهتمة بالتفاوض حول إنهاء الحرب الأوكرانية، وأنها قادرة على تثبيت وجودها في هذه المناطق اعتماداً على الأقليات الروسية فيها، وأيضاً بقوة السلاح. وفي هذا الإطار، شدد بوتين يوم 21 سبتمبر الجاري على ضمان إجراء الاستفتاءات في المناطق الأوكرانية التي تريد الانضمام إلى روسيا.
الخلاصة أنه لا تلوح في الأفق حالياً نهاية الحرب الروسية – الأوكرانية، بل إن كل المؤشرات تُرجح اتجاهها نحو مزيد من التصعيد في ظل إعلان موسكو التعبئة العسكرية الجزئية في مواجهة دعم الدول الغربية لكييف، وإصرار هذه الدول على الاستمرار في هذا الدعم العسكري والضغط على بوتين حتى مع تهديد الأخير باستخدام ما لديه من أسلحة دمار شامل، وهو ما يُنذر بسيناريو مُخيف في الفترة المُقبلة، ولا يبدو أن أياً من الأطراف قادر على تحمل تبعاته.