دخل الصراع الأوكراني مرحلة جديدة أكثر تعقيداً في الفترة الأخيرة؛ إذ بدا أن الحرب تمتد بوتيرة متسارعة بعيداً عن مسرح العمليات العسكرية التقليدي داخل الأراضي الأوكرانية. وقد تبلورت مؤشرات هذا الأمر مع التخريب الذي تعرَّض له خطَّا “نورد ستريم للغاز” خلال شهر سبتمبر 2022؛ حين تبادلت روسيا والدول الغربية الاتهامات بشأن الطرف المسؤول عن تسرب الغاز في بعض المواقع بخط “نورد ستريم 1” الذي يربط روسيا بألمانيا في بحر البلطيق؛ وذلك بالتزامن مع إعلان السلطات الدنماركية والسويدية، يوم 27 سبتمبر 2022، عن تسرب للغاز في "نورد ستريم 2".
وفي هذا الإطار، نشر “مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية”، بتاريخ 29 سبتمبر 2022، مقالاً بعنوان “التداعيات الأمنية لتخريب خطَّي (نورد ستريم)”، للكُتَّاب: جوزيف ماغكوت (مدير برنامج أمن الطاقة وتغير المناخ في المركز، و”أليغرا داوز” الباحث المشارك في برنامج أمن الطاقة وتغير المناخ التابع للمركز)، وليزلي بالتي غوزمان الزميلة الأولى (غير المقيمة) في برنامج أمن الطاقة وتغير المناخ، وماكس بيرغمان مدير برنامج أوروبا في المركز، وكولين وول الباحث المشارك في برنامج أوروبا وروسيا وأوراسيا في المركز. ويُجِيب المقال على عدد من التساؤلات عن الأبعاد الأمنية لتخريب خطَّي الغاز الروسيَّين، منها: ما التأثير المباشر على أمن الطاقة في الاتحاد الأوروبي؟ وهل سبق لروسيا أن هددت البنية التحتية الأوروبية تحت سطح البحر؟ وإذا كانت روسيا مسؤولة، فلِمَ تهاجم البنية التحتية المملوكة لها؟ وما وضع البنى التحتية الأخرى؟
تداعيات أمنية
توقف نقل الغاز الروسي إلى أوروبا ببداية الحرب الأوكرانية عبر خطَّي نورد ستريم، وفي 27 سبتمبر 2022 قالت شركة “نورد ستريم إيه جي” مشغل خط نورد ستريم 1 من روسيا إلى ألمانيا، إن نظام الأنابيب تحت بحر البلطيق تعرَّض لأضرار “غير مسبوقة”. ورداً على ذلك أصدر الناتو في 29 سبتمبر 2022 بياناً أشار فيه إلى أن تسريبات خطوط الغاز كانت نتيجةَ تخريب مُتعمَّد، مشيراً إلى أن الهجمات على البنية التحتية الحيوية للحلفاء ستُقابَل “برد مُوحَّد وحازم”. وبحسب المقال، تتضمَّن هذه الأحداث بعض التداعيات الرئيسية المتمثلة فيما يأتي:
1– تأثُّر إمدادات الغاز الطبيعي إلى أوروبا: يشير المقال إلى أنه سيكون للأضرار التي لحقت بخطَّي “نورد ستريم 1 و2” تأثير فوري محدود على إمدادات الغاز الطبيعي إلى أوروبا؛ حيث لم يُشغَّل أيٌّ منهما، وفي 2 سبتمبر 2022 أوقفت شركة “غازبروم” إلى أجل غير مسمى تدفُّقات الغاز عبر “نورد ستريم 1 “، مشيرة إلى وجود أعطال في التوربينات الرئيسية على طول خط الأنابيب. وحتى قبل الإغلاق، كانت التدفقات عبر “نورد ستريم 1” منخفضةً؛ حيث بلغ متوسطها نحو 30 مليون متر مكعب في اليوم (نحو 20% من إجمالي السعة) منذ أواخر يوليو الماضي.
2– ارتفاع أسعار الغاز بعد تخريب نورد ستريم: يشير المقال إلى أنه في الوقت الذي انخفضت فيه أسعار الغاز كثيرًا منذ الذروة في أواخر أغسطس الماضي، أدى الضرر الذي لحق بخطَّي الأنابيب إلى ارتفاع الأسعار الأوروبية وسط تساؤلات حول إمدادات الغاز الروسي عبر خطوط أنابيب بديلة لا تزال قائمةً، كما لم تُسلَّم أيُّ كميات عبر خط أنابيب “يامال” منذ مايو 2022، لكن بعض التدفقات استمرَّت عبر أوكرانيا وخط الأنابيب “ترك ستريم”. وبينما تظلُّ هذه الأحجام منخفضة، لكنها مهمة بالنسبة إلى أوروبا مع اقتراب فصل الشتاء.
3– تكهُّنات بعدم كفاية مخزون أوروبا من الغاز في الشتاء: على الرغم من هذه التحديات، حققت أوروبا تقدماً كبيراً قبل فصل الشتاء؛ فبحسب المقال، تم حتى الآن ملء أكثر من 80% من مساحة التخزين في الاتحاد الأوروبي، متجاوزةً بذلك الهدف الذي حددته الكتلة قبل حلول فصل الشتاء. ومع ذلك، فإن التخزين ولو بنسبة 100% من السعة لن يكون كافياً على الأرجح لتلبية الطلب في فصل الشتاء، دون تقنين ودون المزيد من الإغلاق الصناعي. ومع ذلك، خففت مستويات الاستيراد القوية للغاز الطبيعي المسال بعض المخاوف بشأن الإمدادات؛ إذ زوَّدت الولايات المتحدة معظم واردات أوروبا اليومية من الغاز الطبيعي المسال، بمتوسط 381 مليون متر مكعب خلال شهرَي أغسطس وسبتمبر.
4– تزايد المخاوف بشأن استهداف أمن البيانات: أصدرت الحكومات على جانبَي المحيط الأطلسي وكذلك الناتو تحذيرات خاصة من وجود غواصات روسية بالقرب من الكابلات البحرية في شمال المحيط الأطلسي. وقد كان القلق في أوروبا والولايات المتحدة في الأساس على كابلات الألياف الضوئية الموجودة تحت سطح البحر، وهي جزء آخر من البنية التحتية الحيوية يحمل أكثر من 95% من البيانات الدولية. وبحسب المقال، هناك تكهنات بأن النشاط الروسي بالقرب من الكابلات كان في الأساس محاولة لرسم خريطة الخطوط.
5– تعزيز الشكوك حول ارتكاب روسيا حوادث قطع الكابلات البحرية: كثيراً ما تتعرَّض الكابلات المغمورة للتلف، ولكن السبب الأكثر شيوعاً هو الأضرار المادية العرضية من السفن التجارية أو الكوارث الطبيعية (من 150 إلى 200 اضطراب سنوياً في المتوسط). وحتى الآن، لم تُلْقِ الولايات المتحدة ولا حلفاؤها اللوم علناً على روسيا في انهيار البنية التحتية تحت سطح البحر.
ومع ذلك، في أوائل عام 2022، انقطع فجأة كابل تحت البحر يربط أرخبيل “سفالبارد النرويجي” بالبر الرئيسي للنرويج. وشكَّت السلطات النرويجية في تورط بشري في الحادث؛ إذ تجتاز السفن والغواصات الروسية بوتيرة متكررة المياه حول “سفالبارد”، وقد اشتكت روسيا مراراً من طريقة تنفيذ النرويج للمعاهدة التي تحكم وصول الأجانب إلى “سفالبارد”.
أهداف روسية
تستدعي حوادث تخريب خطَّي “نورد ستريم” عددًا من الدلالات الرئيسية المتعلقة بأهداف موسكو، وهو ما يتناوله المقال من خلال ما يأتي:
1– تخريب البنية التحتية المدنية الأوروبية: أشار القادة الأوروبيون إلى أنهم يشتبهون بحدوث تخريب، لا سيما بالنظر إلى تعرُّض ثلاثة خطوط أنابيب للانفجارات في تتابع سريع. ويشير المقال إلى أن المشتبه به الرئيسي هي روسيا التي لديها الدافع والوسائل والفرصة لإجراء مثل هذه العملية. وبحسب المقال، فإن السياق مهم؛ إذ تأتي التفجيرات بعد أن حشدت روسيا للحرب، ونظَّمت استفتاءات “وهمية”، ووجهت تهديدات نووية لحسم غزوها المتعثر في أوكرانيا، كما قد تشعر روسيا بأن الغرب يستخفُّ بقوتها، وتريد إرسال رسالة واضحة مفادها أنه يجب أخذها على محمل الجد.
2– تصعيد الحرب الهجينة الروسية نحو جهود أكثر حركيةً: يؤكد المقال أن دوافع الكرملين لشن هجوم على خطوط الأنابيب الخاصة به ليست واضحة تماماً؛ فربما تحذر روسيا كلاً من أوروبا والغرب، وترسل رسائل أنها مستعدة لاستهداف البنية التحتية المدنية، كما قد تنذر الهجمات على خطوط أنابيب الغاز بهجمات على كابلات البيانات تحت البحر فيما بعد. وبعبارة أخرى، تشير روسيا إلى أنها يمكن أن تُصعِّد حربها الهجينة ضد الغرب في اتجاه أكثر حركيةً لاستهداف البنية التحتية (وهو نهج يمكن أن يشمل أيضاً الهجمات في الفضاء الإلكتروني).
3– إرسال رسائل سياسية إلى الجانب الأوروبي: يشير المقال إلى أنه بقطع الأنابيب التي تنقل الغاز الروسي إلى أوروبا، قد تستهدف روسيا إرسال رسالة إلى الاتحاد الأوروبي أنها هي التي قررت قطع العلاقات في مجال الطاقة – وليست أوروبا – وفك الارتباط، وأنه لا عودة إلى الوراء. ولكن يبدو أن هذا يتناقض مع الحكمة التقليدية بأن روسيا كانت تأمل أن تنهار أوروبا هذا الشتاء بسبب ارتفاع تكاليف الطاقة، وأن تسعى إلى التراجع عن العقوبات، وأن تضغط على أوكرانيا للتفاوض، لكن ربما أدرك بوتين أن مثل هذه الآمال كانت خيالية – خاصةً أن أوروبا وجدت طرقاً لإعادة تخزين إمداداتها من الغاز لفصل الشتاء – فيلجأ الآن إلى تكتيكات جديدة.
تهديدات ممتدة
بموازاة التداعيات التي نجمت عن تخريب “نورد ستريم”، فإن المقال يشير إلى أن عملية التخريب تستدعي احتمالية تعرُّض مشروعات الطاقة لتهديدات وهجمات مماثلة، وهو ما يتبلور من خلال ما يأتي:
1– الهجمات الإلكترونية على خطوط الأنابيب: بجانب انفجارات خطوط الأنابيب، يمكن أن تشكل قابلية التعرض للهجمات الإلكترونية تهديداً كبيراً لنظام الطاقة؛ ففي مايو 2021، تم صد هجوم إلكتروني على “خط الأنابيب كولونيال” في الولايات المتحدة، وإبطال العديد من العمليات، وهو ما أدى إلى نقص الوقود والشراء؛ ما أثار الذعر عبر الساحل الشرقي. وفي وقت سابق من هذا العام، أدى هجوم إلكتروني على مركز التكرير بأمستردام وروتردام وأنتويرب إلى تأخيرات كبيرة في شحنات النفط والمنتجات المكررة ونقص محلي في الوقود حسب المقال.
2– استهداف صادرات الغاز الطبيعي المسال الأمريكية: طبقاً للمقال، قد يكون للهجوم على البنية التحتية للغاز في الولايات المتحدة تأثيرات كبيرة على العرض العالمي والأسعار؛ إذ سلط حريق “محطة فريبورت” للغاز الطبيعي المسال في وقت سابق من هذا العام الضوء على ضعف أوروبا أمام أي اضطراب؛ حيث أدى توقُّف محطة فريبورت إلى إيقاف ما يقرب من 17% من صادرات الغاز الطبيعي المسال الأمريكية، وارتفعت أسعار الغاز في الاتحاد الأوروبي بنحو 12% على خلفية الأخبار.
ومع وجود إمدادات الغاز الروسي عند الحد الأدنى من المستويات، فإن أهمية الغاز الطبيعي المسال الأمريكي يمكن أن تجعل هذه المنشآت هدفاً رئيسياً للهجمات الإلكترونية. وفي الوقت الذي كانت فيه منشآت الغاز الطبيعي المسال الأمريكية تستثمر في دفاعاتها الإلكترونية، فإنه لا تزال هناك مخاطر كبيرة.
3– الهجمات السيبرانية على الشبكات: في حرب الطاقة المتصاعدة، ستكون الهجمات على الشبكة مصدر قلق أيضاً وفقاً للمقال؛ حيث أظهر المتسللون الروس سابقاً قدرتهم على تعطيل العمليات؛ ففي عام 2015، شنَّ قراصنة روس هجوماً على شبكة الكهرباء الأوكرانية؛ ما أدى إلى انقطاع التيار الكهربائي عن 230 ألف شخص، كما يمكن أن تؤدي الهجمات الناجحة ضد الشبكة إلى انقطاع التيار الكهربائي؛ ما يؤثر على العمليات الحيوية، بما في ذلك الرعاية الصحية والوصول إلى المياه.
وختاماً.. يشير المقال إلى أن من المحتمل أن تتطلب معالجة بعض نقاط الضعف هذه استثمارات كبيرة وتعاوناً عبر المحيط الأطلسي بشأن الأمن السيبراني والمادي للبنية التحتية للطاقة؛ فبجانب الهجمات الخبيثة، سيكون للتوقف عن العمل بسبب البنية التحتية القديمة أو الانقطاعات نتيجة الحوادث، آثار كبيرة على أسواق الطاقة الضيقة. وسوف يستلزم أمن الطاقة لأوروبا تأمين وصيانة البنية التحتية الحيوية، بما في ذلك بنية الولايات المتحدة.