لأول مرة منذ عام 2019، عقد الرئيس الكوري الجنوبي يون سوك يول ورئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا في 21 سبتمبر 2022، أول اجتماع ثنائي بينهما، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، واتفق خلاله الزعيمان على أهمية التعاون الاستراتيجي المشترك في مختلف المجالات، لا سيما تسريع جهود إصلاح العلاقات المتوترة الناجمة عن الإرث التاريخي للحكم الاستعماري الياباني السابق لشبه الجزيرة الكورية، خلال الفترة (1910-1945)؛ وذلك من خلال اتباع طرق موجهة نحو مستقبل قائم على أساس العلاقات الودية التي أقامها البلدان منذ تطبيع العلاقات الدبلوماسية عام 1965، فضلاً عن التعاون في مواجهة التهديدات المشتركة، وعلى رأسها البرنامج النووي الكوري الشمالي، وتنامي الصعود الصيني في المنطقة، وتداعيات الحرب الأوكرانية.
تحسن العلاقات
ثمة مساعٍ حثيثة للدولتين لزيادة أوجه التقارب بينهما خلال الفترة الأخيرة؛ وذلك من خلال حل جميع القضايا العالقة، برعاية ودعم من واشنطن. ويمكن إيجاز أبرز أبعاد التقارب بينهما على النحو التالي:
1- الدعم الأمريكي للعلاقات الإيجابية: تأخذ واشنطن على عاتقها مهمة إحداث التقارب في وجهات النظر بين الطرفين حول مجمل القضايا العالقة بينهما؛ حيث عادة ما تلعب دور الوسيط في حل النزاعات القائمة بينهما، بل تشجعهما على الدخول في تحالف ثنائي أو ثلاثي –تكون طرفاً فيه – للتعامل مع التحديات الإقليمية بشكل فعال، لا سيما في منطقة المحيطين الهندي والهادئ؛ إذ تؤكد باستمرار أهمية العمل والتعاون من أجل تحقيق النزع الكامل للسلاح النووي من شبه الجزيرة الكورية.
كما تعمل الولايات المتحدة على استقطاب الدولتين في تعاون عسكري مشترك، يعمل على حلحلة الخلافات بينهما، ويعجل وتيرة دفع العلاقات الثنائية؛ إذ تستضيف كوريا الجنوبية واليابان الجزء الأكبر من القوات الأمريكية في آسيا، التي قد تصل إلى نحو 80 ألف جندي، بل تجري تدريبات مشتركة للدفاع الصاروخي قبالة هاواي معهما؛ لتحفيز وتيرة التدريبات العسكرية المشتركة، وإظهار استعدادهما على العمل معاً لمواجهة التهديدات التي تشكلها كوريا الشمالية والصين في المنطقة.
2- تهديد البرنامج النووي الكوري الشمالي: يوفر المشهد الجيوسياسي فرصة ذهبية لإذابة الجليد بين الحكومتين، خاصة مع الموجة الأخيرة من التجارب الصاروخية التي أجرتها كوريا الشمالية، وإمكانية إجراء تجارب نووية في المستقبل؛ لذا دائماً ما تعرب طوكيو وسيول عن مخاوفهما المشتركة بشأن البرنامج النووي لكوريا الشمالية، بما في ذلك إصدار الأخيرة قانوناً يجيز الاستخدام الاستباقي للأسلحة النووية في ظروف معينة، واحتمالية استئناف التجارب النووية لأول مرة منذ عام 2017؛ لذا اتفق زعيما البلدين على ضرورة بذل مزيد من الجهد للتعاون في ردهما على التهديدات المتكررة الصادرة عن بيونج يانج، خاصة أن اجتماعهما قد تزامن مع إعلان موقع “North 38”، المتخصص في شئؤون كوريا الشمالية، أن الأخيرة ربما تستعد لتدشين غواصة جديدة يعتقد أنها قادرة على إطلاق صواريخ باليستية.
3- مواجهة النفوذ الصيني: بالرغم من قوة العلاقات التجارية التي تجمع بين الصين من جهة وبين كوريا الجنوبية واليابان من جهة أخرى، فإن الإدارة الأمريكية عادة ما تعمل على استخدام كل من سيول وطوكيو لمواجهة النفوذ الصيني المتصاعد في منطقة جنوب وشرق آسيا، لا سيما تأمين خطوط إمداد السلع الاستراتيجية، وخاصة أشباه الموصلات؛ حيث تهدف واشنطن إلى تقليص اعتمادها على بكين في هذا المجال، واستغلال المقومات الإنتاجية والتكنولوجية التي تتمتع بها الدولتان في إنتاج أشباه الموصلات، وتشجيعهما على التعاون من أجل زيادة قدراتهما الإنتاجية منها؛ الأمر الذي قد يعقد العلاقات المشتركة بين بكين وطوكيو وسيول، خاصة في ظل عضوية اليابان في الحوار الأمني الرباعي، بجانب كل من الولايات المتحدة والهند وأستراليا، المناهض لنفوذ الصين في المنطقة.
4- أهمية التعاون الاقتصادي والتجاري: بالرغم من توتر العلاقات بين البلدين، فإن العلاقات الاقتصادية كانت من الدعائم الرئيسية لإحداث التقارب بينهما؛ ففي ظل تعافي حركة التجارة العالمية، بعد انحسار وباء كورونا عالمياً، يطمح الجانبان إلى تعزيز حجم التبادل التجاري بينهما، الذي كان قد وصل إلى نحو 85 مليار دولار عام 2021؛ وذلك مقابل نحو 71 مليار دولار عام 2020، بزيادة تصل إلى نحو 20%، نظراً إلى القرب الجغرافي، والتقدم التقني والتكنولوجي للسلع المنتجة في البلدين؛ إذ تتصدر الآلات والمعدات الكهربائية والسلع الوسيطة المنتجة للرقائق الإلكترونية قائمة معاملاتهما التجارية.
5- التوافق مع الغرب حول الحرب الأوكرانية: تماشياً مع التوجهات الغربية، هناك توافق كبير بين البلدين على إدانة العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، باعتبارها عملية غير مبررة؛ حيث أعربا عن دعمهما الثابت لسيادة أوكرانيا واستقلالها وسلامتها الإقليمية، وأكدا أنهما سيعارضان أي محاولات لتغيير الوضع الراهن للأراضي والمناطق في أي مكان في العالم بالقوة أو الإكراه، لا سيما تأكيد الحاجة إلى الوقوف جنباً إلى جنب مع المجتمع الدولي للرد بحزم على هذا الانتهاك الواضح للقانون الدولي، وتقديم المساعدة إلى الحكومة الأوكرانية وشعبها.
تحديات رئيسية
يظل نجاح الجهود الحثيثة بين كوريا الجنوبية واليابان، من أجل تخطي خلافات الماضي وتطوير العلاقات الثنائية بينهما، مرهوناً بتجاوز عدة تحديات رئيسية، ومن أبرزها:
1- التأثير المتواصل للإرث الاستعماري: بالرغم من تطبيع العلاقات بين الدولتين عام 1965، لا تزال التوترات في العلاقات بينهما قائمة حتى اليوم؛ حيث عمل الفصيل القومي بالحزب الديمقراطي الليبرالي الياباني، الذي كان بقيادة رئيس الوزراء الأسبق شينزو آبي حتى اغتياله مؤخراً، على مراجعة ماضي الحكم الاستعماري الياباني لشبه الجزيرة الكورية؛ من أجل تخفيف ما يعتبره “تاريخاً ماسوشياً”، وهذا يعني الدفاع عن استعمار اليابان لشبه الجزيرة الكورية باعتباره قانونياً في ذلك الوقت، فضلاً عن دعم تنقيحات الكتب المدرسية التي تتستر على جرائم الحرب التي ارتكبها اليابانيون، وقد ساهمت تلك الأمور في استمرار تعقيدات التطلعات إلى علاقة جديدة بين سيول وطوكيو، لا سيما استمرار الإرث النزاعي حول المطالبة بحقوق “نساء المتعة”، وهو نظام أجبر الكوريات على العبودية الجنسية للجيش الياباني؛ حيث لا تزال تلك القضية تثير مشاعر المواطنين في كوريا الجنوبية، بالرغم من إبرام اتفاقية عام 2015 لحل هذا النزاع؛ وذلك نتيجة فشلها في حشد الدعم من نساء المتعة وبقية المواطنين من أجل تجاوز الماضي وتطوير العلاقات نحو المستقبل.
2- استمرار النزاع الحدودي بين الدولتين: يمثل النزاع على جزر دوكدو/ تاكيشيما مصدراً دائماً للتوتر بين حكومتي ومواطني البلدين منذ عام 1945؛ حيث يدعي كلا البلدين السيادة على المنطقة والمنطقة الاقتصادية الخالصة المرتبطة بها، نظراً إلى ما تتمتع به تلك الجزر من موارد طبيعية، لا سيما الغاز الطبيعي، بجانب مناطق الصيد الوفيرة؛ لذا تحرص كوريا الجنوبية على استمرار وجودها العسكري النشط في تلك الجزر، بل تستضيف تدريبات عسكرية نصف سنوية في المياه المحيطة بها؛ ما يعيق المحاولات اليابانية للتوسط في محادثات حول الاستقرار السياسي والاقتصادي في المنطقة، خاصة أن اليابان تدعي تبعية تلك الجزر لها بسبب دمجها قبل غزوها الإمبراطوري في الحرب العالمية الثانية.
3- النزاعات القضائية بين سيول وطوكيو: بحلول عام 2018، وصلت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ فتراتها، عندما قضت المحكمة العليا في كوريا الجنوبية بأنه يجب على شركتين يابانيتين (نيبون ستيل وميتسوبيشي للصناعات الثقيلة) تعويض الكوريين الذين أجبروا على العمل أثناء الاحتلال الاستعماري لليابان، بيد أن الشركتين والحكومة اليابانية رفضت تنفيذ تلك الأحكام، بحجة أن جميع قضايا التعويض قد تمت تسويتها بالفعل بموجب معاهدة 1965التي تضمنت تقديم طوكيو مئات الملايين من الدولارات لسيول في شكل مساعدات اقتصادية وقروض.
وفي هذا الإطار، دفع الخلاف الحكومتين إلى تخفيض حجم التبادل التجاري بينهما، حتى وصل إلى 76 مليار دولار عام 2019، مقابل أكثر من 85 مليار دولار عام 2018، بل صارت الأمور أكثر تعقيداً عندما نادى عمال السخرة الكوريون السابقون وأنصارهم بالبيع القسري لأصول الشركات اليابانية في كوريا الجنوبية، وفي المقابل حثت طوكيو الشركات على عدم قبول قرارات المحكمة، حتى لا يفتح الباب على مصراعيه لقرارات مماثلة.
4- تعقيدات الانضمام إلى تحالفات مشتركة: يعد الحوار الأمني الرباعي من المبادرات الإقليمية الرئيسية التي يجب أن تكون منتدى طبيعياً للتعاون بين كل من اليابان وكوريا الجنوبية، إلا أن الأخيرة لم تكن مهتمة بالانضمام إلى تلك المجموعة الرباعية بسبب مخاوف إثارة غضب الصين؛ وذلك في ظل إدارة الزعيم الأسبق مون جاي إن، بيد أن إدارة “يون” الحالية قد أعربت عن اهتمامها بالانضمام إلى الآلية المتعددة الأطراف، إلا أن واشنطن وطوكيو أصبحتا هما الطرفين المترددين جزئياً؛ بسبب الخوف من تأثير توتر العلاقات بين سيول وطوكيو على مسار نجاح عمل المجموعة؛ الأمر الذي قد يزيد تعقد مسألة التعاون الأمني والاستخباراتي بين الجانبين.
إجمالاً، من المحتمل أن نشهد تحسناً في العلاقات بين سيول وطوكيو في إطار نهج تعاوني مزدوج يرتكز في شقه الأول على المحور الأمني لمواجهة التهديدات المتكررة لكوريا الشمالية وتنامي النفوذ الصيني في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. أما الثاني فيرتكز على المحور الاقتصادي من أجل الحد من التداعيات السلبية للأزمة الاقتصادية العالمية الناجمة عن اندلاع الحرب الأوكرانية وتعطل سلاسل التوريد العالمية، خاصة في ظل الدعم الأمريكي المتواصل لتذويب الخلافات التاريخية بينهما، لا سيما إعراب زعيمي البلدين عن اهتمامهما ببذل مزيد من الجهود لتطوير العلاقات الثنائية بين البلدين، بل بتوجيه دبلوماسييهما بضرورة تكثيف المحادثات من أجل ذلك.