• اخر تحديث : 2024-05-10 13:04
news-details
أبحاث

العلاقات المالية – الفرنسية.. أبعاد الأزمة وسيناريوهات المستقبل


يبدو أن العلاقات بين مالي وفرنسا في الوقت الحالي تتجه نحو مزيد من التوتر، ولا توجد مؤشرات واضحة حتى الآن عن اتجاه هذا التوتر أهو إلى التصاعد أم إلى الكمون والتراجع؟ فمنذ الانقلاب العسكري الذي حدث في مايو 2021 وأطاح بالرئيس المالي المعين من قِبل المجلس العسكري الحاكم، باه نداو، ورئيس وزرائه، أصبحت العلاقات المالية – الفرنسية في مهب الريح، فمع إعلان فرنسا إدانتها الانقلاب حتى خروج قواتها بشكل كامل من مالي في أغسطس 2022، جرت أمور كثيرة جسدت معظمها إصرار الطرفين على المضي بالعلاقات إلى منحى ينبئ بقطيعة دائمة بين المركز الفرنسي (المحتل القديم) والطرف المالي (السودان الفرنسي – المستعمرة القديمة). فهل ستستمر العلاقة بين الدولتين في هذا الاتجاه السلبي حتى تصل إلى مرحلة عدم السيطرة على اتجاه توترها؟ أم إن الأمر سيهدأ نسبياً بعد استنفاذ كل طرف لأوراقه؟ هذا ما ستحاول هذه الورقة الإجابة عنه من خلال تسليط الضوء على الأبعاد التي أدت إلى نشوء هذا الوضع الذي يسود العلاقات بين البلدين، واستشراف مستقبل هذه العلاقات في ضوء المعطيات القائمة حالياً على أرض الواقع.

مقدمات سلبية

كان واضحاً منذ وقوع الانقلاب العسكري في مالي في مايو 2021 أن العلاقات بين البلدين يسودها حالة من التوتر، خاصة بعد إدانة باريس لهذا الانقلاب ورفض المجلس العسكري الحاكم لهذا الموقف، غير أن مجموعة القرارات التي اتخذها المجلس العسكري المالي في مطلع مايو 2022 كانت موشراً واضحاً على أن هذه العلاقات تسير في اتجاه منحدر شديد الخطورة، حيث أعلن المجلس إلغاء ثلاث اتفاقيات كانت توفر الإطار القانوني لنشاط فرنسا العسكري وشركائها الأوروبيين في باماكو، فقد أعلن المتحدث باسم الحكومة المالية، الكولونيل عبدالله مايغا، إلغاء اتفاقية وضع القوات “سوفا”، الموقعة في مارس 2013، التي تتضمن الإطار القانوني الحاكم للقوات الفرنسية الموجودة في مالي، والبروتوكول الإضافي الموقع في مارس 2020، والمنظم لعمل القوات الأوروبية الموجودة في عملية تاكوبا، واتفاقية التعاون الدفاعي المشتركة، الموقعة في 16 يوليو 2014 بين مالي وفرنسا.

وقد عزا المجلس العسكري الحاكم هذه القرارات إلى ما سماه الانتهاكات الفرنسية المتكررة لسيادة مالي الوطنية، والموقف الأحادي الذي تتبنّـاه فرنسا في تحركاتها العسكرية على الأراضي المالية، سواء عندما قررت تعليق العمليات المشتركة مع القوات المالية في يونيو 2021، أو عندما قررت في فبراير 2022 إنهاء مهمة “برخان”، وفي يوليو 2022 إنهاء انتشار قوة “تاكوبا” الأوروبية، وذلك من دون تشاور مع باماكو. وقد اعتبرت الخارجية الفرنسية أن قرارات المجلس العسكري “غير مبررة”، وتمثل انتهاكاً للإطار القانوني الثنائي، فيما عبّـر المتحدث باسم الاتحاد الأوروبي، بيتر ستانو، عن أسفه لتلك القرارات. وفي ضوء هذه التطورات زادت العلاقات بين فرنسا ومالي سخونة لا سيما مع صدور تصريحات سلبية من الطرفين ضد بعضهما.

أبعاد متعددة والنتيجة شبه واحدة

يبدو أن ما تشهده العلاقات المالية – الفرنسية في الوقت الراهن ليس وليد حدث معين أو أزمة محددة ولكنه نتيجة لمجموعة من التراكمات تجسدت في شكل أبعاد متعددة أسهم بعضها في توتر تلك العلاقات في حين أن بعضها الآخر يساعد في ضبطها وعدم دفعها إلى منحدر الهبوط السريع ويمكن توضيح هذه الأبعاد في التالي:

أولاً: البُعد التاريخي

شكل البُعد التاريخي أحد الأبعاد التي تصب في زيادة توتر العلاقات بين فرنسا ومالي نتيجة لذلك الإرث الاستعماري السلبي الذي يحمله الماليون في إدراكهم للطرف الفرنسي، فقد تمكّنت فرنسا في عام 1893 من السيطرة على منطقة غرب أفريقيا لتشكل إحدى مستعمراتها في المنطقة، وفي عام 1904 تحول اسم المستعمرة إلى “السودان الفرنسي” الذي مُنح مرتبة الولاية في الاتحاد الفرنسي في عام 1946، ثم نال استقلاله التام في 22 سبتمبر 1960 تحت اسم جمهورية مالي. بعدها سارع موديبو كيتا، رئيس مالي، آنذاك، إلى تأسيس علاقات قوية مع الاتحاد السوفييتي.

مع ذلك لم تكن باريس تعتقد أن حصول مستعمراتها السابقة في أفريقيا عموماً ومالي خصوصاً على الاستقلال الرسمي يعني انحسار نفوذها، لا سيما في ظل إدراكها بعد الحرب العالمية الثانية أن مجال المنافسة بين القوتين العظميين سوف يتركز في أوروبا وآسيا والشرق الأوسط، وأن أفريقيا هي المجال الدولي الأوحد والأنسب لممارسة نفوذها كقوة استعمارية سابقة.

على ضوء ذلك، حاولت فرنسا ممارسة نفوذها الاستعماري على مالي، وهو ما رفضه الماليون بشدة على اعتبار أن هذا الأمر يُعد امتداداً لسياسات باريس الاستعمارية الاستغلالية لبلادهم، ما تسبب في نشوء حالة من الغضب الكامن لديهم. وهو أمر يؤشر إلى تأثير التاريخ الاستعماري على الإدراك الشعبي المالي للنفوذ الفرنسي في بلادهم وعدم ترحيبهم به، ما يضع البُعد التاريخي كأحد مسببات التوتر في العلاقات المالية – الفرنسية.

ثانياً: البُعد الأمني

يأتي البُعد الأمني في مقدمة الأبعاد التي تقف وراء اتجاه العلاقات بين مالي وفرنسا، بما له من تعقيدات وتفاصيل متعددة التأثير، قد تحمل في طياتها عوامل التوتر والانسداد، لكنها قد تشكل في الوقت ذاته عوامل ربما تساعد في إيجاد حلول توافقية بين البلدين في ظل بيئة متوترة بهذه العلاقات. وانطلاقاً من ذلك التعقيد فسوف نقسم ذلك البُعد إلى ثلاثة مستويات، لنبرز ذلك البُعد في شقه المتعلق بزيادة التوتر، وفي شقه الآخر المساعد على التهدئة. في المستوى الأول نتناول الرؤية الفرنسية للأمن في أفريقيا، والثاني نستعرض موقف القوى الدولية والإقليمية من الوضع في مالي، أما المستوى الثالث فيتعلق بفكرة المناطق غير المحكومة وتأثيرها في مدى قدرة الدولة المالية على الحركة في إطار خلافاتها مع فرنسا.

المستوى الأول: الرؤية الفرنسية للأمن في أفريقيا

تتسم السياسة الفرنسية تجاه أفريقيا بالاهتزاز وعدم الثبات، ما قد يسهم في إدراك باماكو لتلك السياسة باعتبارها متعددة الوجوه تتغير بتغير المصلحة الفرنسية تجاه مالي وليس بناءً على توافق أو تقارب في المصالح المشتركة بين البلدين، ففرنسا قد تتبنّـى سياسة معينة، لكنها عندما تصطدم بالواقع تقوم بتغييرها وتبديلها حسب المصلحة التي تتوقعها من خلف هذا التغيير.

فعلى سبيل المثال، لجأت فرنسا في بداية التسعينيات إلى تقليص وجودها العسكري في أفريقيا عن طريق عدد من الإجراءات، كان أهمها تخفيض عدد القوات الفرنسية بنسبة 40%، وتصفية قواعدها العسكرية في القارة، واللجوء إلى الأطر الأوروبية الجماعية للتدخّل في القارة، وبناء قدرات المؤسّسات الأمنية الأفريقية عن طريق برنامج Recamp عام 1997 بهدف تمكين الجيوش الأفريقية من مواجهة – أو منع – الصراعات الداخلية المسلّحة بنفسها. إلا أن هذه التوجهات لم تقف حائلاً دون أن تواصل سياستها في التدخّل الأحادي عند الضرورة لدعم حلفائها في أفريقيا، فبعد انتخاب فرانسوا هولاند عام 2012، وهو الذي كانت له رؤيته الخاصة في العلاقة مع أفريقيا، لم تتردد باريس في التدخّل العسكري في مالي في يناير 2013، لمنع تقدّم قوات المعارضة الشمالية إلى العاصمة باماكو. كما لم تمنع تلك التوجهات وزارة الدفاع الفرنسية من وضع خطتها الاستراتيجية في إبريل 2013، التي أولت فيها اهتماماً خاصاً بأفريقيا؛ محددة مناطق: (الساحل الأفريقي، وخليج غينيا، والمغرب العربي) بوصفها مناطق ذات أولوية في التعاون الدفاعي مع الشركاء الأفارقة.

هذا الاهتزاز في سياسة فرنسا الأمنية تجاه القارة الأفريقية عانت من جرّائه مالي أيضاً، ففيما كانت فرنسا تسعى إلى تقليص وجودها العسكري في أفريقيا وتنمية قدرات الجيوش الأفريقية لتعتمد على نفسها في درء التهديدات والمخاطر، فإنها في الوقت ذاته سارعت إلى التدخل عسكرياً في مالي في عام 2013، كما استمر هذا التدخل في مواجهة حركات التطرف والإرهاب في البلاد، وبرغم وجاهة هذا السبب الأخير فإن بعض الإجراءات الأحادية التي اتخذتها فرنسا تسببت في تنامي الشعور المناهض لها لدى الماليين.

المستوى الثاني: موقف القوى الدولية والإقليمية من مالي

تلعب القوى الإقليمية والدولية دوراً مهماً في مالي، بالنظر إلى رغبة هذه القوى في إيجاد موطئ قدم لها في البلاد بما يساعد في تحقيق مصالحها، وهو ما تسبب بدرجة أو بأخرى في توتر العلاقات بين باريس وباماكو، رغم وجود بعض الأطراف التي ربما يشكل موقفها ضغطاً على الطرف المالي يدفعه في نهاية المطاف إلى التخفيف من توتر علاقاته مع فرنسا.

روسيا:

تعد روسيا هي الداعم الرئيسي للمجلس العسكري الحاكم في مالي، وذلك بالنظر إلى العلاقات الوثيقة التي تربط موسكو بأعضاء المجلس، الذين إما قضوا جزءاً من حياتهم العسكرية في روسيا، وإما أنهم يعتقدون بتمايز المشروع الروسي عن المشروعات الفرنسية خصوصاً والغربية عموماً.

وهناك مجموعة من المظاهر التي توضح المدى الذي وصلت إليه هذه العلاقات، ومن بينها:

- توقيع اتفاقية دفاع مشترك بين مالي وروسيا في عام 2019.

- انتشار قوات شركة “فاغنر” الروسية في بعض مناطق مالي لدعم المجلس العسكري الحاكم في فرض سيطرته على البلاد وفي محاربة الإرهاب في شمال البلاد.

- إرسال موسكو في أغسطس 2022 معدات عسكرية جديدة وأعداداً كبيرة من “المدربين” العسكريين.

وقد أثار التقارب الروسي- المالي المخاوف الفرنسية والغربية عموماً من أن تحظى روسيا بموطئ قدم في القارة الأفريقية، يساعدها في تعزيز نفوذها ويجعلها قادرة على تهديد المصالح الغربية هناك، ومن ثم أسهم هذا التقارب في توتر العلاقات بين باريس وباماكو.

الصين :

تدرك الصين جيداً محورية دور فرنسا في مالي، لذلك تقدم نفسها باعتبارها نموذجاً مخالفاً للنموذج الغربي الاستعماري في محاولة لشيطنة هذا الدور. ويوفر الشعور المناهض لفرنسا في مالي أرضاً خصبة للترويج لخطاب بكين خاصة في ظل ترحيب أفريقي عموماً بالدور الصيني.

ويمكن القول إن الوجود الصيني في مالي يشكل تحدياً مباشراً للمصالح الاقتصادية الفرنسية، إذ دخلت الشركات الصينية قطاعات اقتصادية تهيمن عليها الشركات الفرنسية منذ فترة طويلة، مثل: الهندسة المدنية، والصناعات الاستخراجية، والاتصالات، والموانئ.

وقد أسهم تنامي النفوذ الصيني في مالي في توتر العلاقات بين باريس وباماكو، خاصة أن هذا التنامي يأتي على حساب النفوذ الفرنسي. ومن ثم من الطبيعي أن تتخذ فرنسا موقفاً مناهضاً للنفوذ الصيني ليس في مالي فقط، وإنما في أفريقيا كلها أيضاً.

الولايات المتحدة الأمريكية:

للوهلة الأولى قد يعتبر الدور الأمريكي عاملاً ضاغطاً على الطرف المالي لتهدئة سخونة العلاقات بين مالي وفرنسا، إلا أنه بتقريب الصورة أكثر نستطيع أن ندرك أن المساعي الأمريكية تصب في المصلحة الأمريكية في المقام الأول، وهي وإن كانت أقرب إلى الطرف الفرنسي، وأبعد عن الطرفين الروسي والصيني، إلا أنها تبقى الصبغة الأمريكية التي تحركها مصالح استراتيجية قد تكون متمايزة إلى حد ما عن الرؤية الفرنسية، حيث تسعى الولايات المتحدة إلى تعزيز حضورها في المنطقة بهدف التصدي لكل من روسيا والصين تحديداً.

وتعتبر واشنطن مساعي بكين وموسكو لتأسيس تعاون عسكري مع دول الساحل الأفريقي عموماً ومالي خصوصاً تحدياً أمنياً على المدى الطويل، فالوجود العسكري لكل من الصين وروسيا في المنطقة، وبسبب قصر المسافة نسبياً من الساحل الغربي لأفريقيا إلى الساحل الشرقي للولايات المتحدة، قد يشكل خطراً على المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة، كما أن هناك قلقاً أمريكياً وغربياً من نفوذ الصين في مجال التكنولوجيا خوفاً من حصولها على العديد من البيانات والمعلومات السرية والتجسس على الحكومات الأفريقية، خاصة بعد ما أشارت تقارير لصحيفة “وول ستريت جورنال” إلى مساعدة شركة “هواوي” الصينية لبعض الحكومات الأفريقية في التجسس على قادة المعارضة السياسية. كذلك الأمر ينطبق على الدور السياسي والاقتصادي والتكنولوجي لروسيا بالإضافة إلى العسكري لشركة "فاغنر".

ألمانيا:

يعتبر موقف ألمانياً متسقاً إلى حد كبير مع الموقف الفرنسي، وذلك يرجع إلى تقارب وتشابه مصالح الدولتين في منطقة الساحل والصحراء عموماً وفي مالي خصوصاً، وهو ما قد يشكل عاملاً ضاغطاً على النظام السياسي في مالي لوقف التوتر الحادث في علاقاته مع فرنسا. ويأتي اتساق موقف البلدين في ظل إدراك ألمانيا للخطرين الروسي والصيني، وتنسيقها المشترك مع القوات الفرنسية على الأرض (عملية برخان) وفي إطار بعثة الأمم المتحدة في منطقة الساحل والصحراء (MINUSMA)

دول الجوار الإقليمي:

ترتبط مالي بسبع دول جوار هي: الجزائر وموريتانيا والنيجر والسنغال وبوركينا فاسو وساحل العاج وغينيا، تسود بينهم علاقات متوترة تارة ومستقرة نسبياً تارة أخرى، كما أن مالي هي واحدة من دول المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، وتعد إحدى الدول الخمس في منطقة الساحل الأفريقي، وهو ما يوضح مدى ارتباط مالي بالعديد من القوى الإقليمية، وبالتالي فإن توتر علاقاتها مع فرنسا قد يؤثر في مستقبل علاقاتها مع هذه القوى، خاصة تلك التي تعمل على الحفاظ على علاقات دافئة مع الطرف الفرنسي، وفي الوقت ذاته يجعل التعامل الفرنسي مع الدولة المالية بشيء من الحذر حتى لا يمتد السلوك المالي تجاه فرنسا إلى الدول المجاورة لها خصوصاً في ظل ما تتعرض له قارة أفريقيا من تحديات ومخاطر على المستوى السياسي والأمني والاقتصادي في ضوء هذا التهافت الدولي على خلق مناطق نفوذ لتلك القوى في أفريقيا. ليس ذلك فحسب، بل إن هذه التعقيدات وخاصة في ضوء تحفظ بعض دول الجوار على السلوك المالي، ومنها موقف النيجر والسنغال وساحل العاج وموريتانيا، التي حاولت لعب دور الوساطة في الأزمة ولكن دون استجابة حتى الآن، كما أن النيجر تحديداً تحولت إلى قاعدة للقوات الفرنسية والألمانية المنسحبة من مالي وما لذلك من تأثيرات على السلوك السياسي للنيجر تجاه مالي، وبالتالي إمكانية أن تكون هذه الدول منصات لعمليات عسكرية وغير عسكرية ضد الدولة المالية سواء كقبائل أو كحكومات أفريقية أو حتى كقواعد لهجمات من جانب القوات الأوروبية المتمركزة في النيجر على سبيل المثال وهو ما قد يجعل الماليون أكثر حرصاً على ضبط اتجاه العلاقات مع فرنسا.

المستوى الثالث: المناطق غير المحكومة وإشكالية الدولة المركزية

تسيطر الحكومة المركزية في باماكو على نحو ثلث مساحة الدولة والثلثين الباقيين هما مشاع بين الجماعات الإرهابية والعصابات الإجرامية والقبائل، وهو أمر يفرض وضعية المناطق غير المحكومة التي تؤثر بالسلب في استقرار الدولة المالية، وبالتالي علاقة ذلك بالدور الفرنسي في مالي الذي يمتلك مع دول غربية أخرى خبرة طويلة في التعامل مع مثل هذا النوع من المناطق وهو ما قد يشكل ورقة ضغط في يد الفرنسيين لمحاولة تهدئة سعي النظام المالي لتوتير العلاقات معها. هذا الأمر ينطبق كثيراً على العديد من المناطق في مالي فهي مناطق شديدة الوعورة التضاريسية بعيدة عن سيطرة الدولة المركزية وتشكل ملاذاً آمناً للمتمردين على سلطة الدولة. وقد تلقفت الحكومة الفرنسية وحكومات غربية تلك المناطق وعززت من وجودها الأجنبي فيها. هذا الوجود الأجنبي قد يلبي مصلحة السلطات المركزية في النيجر – على سبيل المثال – سواء من الناحية المالية أو الاستراتيجية، وذلك لحمايتها من مخاطر اختراق الجهاديين أو المتمردين، ولكنه في الوقت ذاته قد يتعارض مع تطلعات مالي في الاستقلال عن الدول الغربية ونفوذها في تلك المناطق، حيث الانتماء فيها لمن يدفع وليس لمن يحكم في باماكو. وبالتالي فإن سيطرة مالية شبه منعدمة وقدرة غربية عموماً وفرنسية خصوصاً على التعامل مع مثل هذا النوع من المناطق قد يضع قيداً على الدولة المالية تحديداً في الدفع بالعلاقات بينها وبين فرنسا إلى التوتر.

ثالثاً: البُعد السياسي

يعتبر البُعد السياسي من الأبعاد المهمة في العلاقات المالية – الفرنسية، فمن جهة تسعى فرنسا لتكتيل أكبر عدد من الدول الأفريقية معها ككتلة تصويتية في الأمم المتحدة والمنظمات الدولية والإقليمية المشتركة        – ومن بينها مالي – وهو أمر محل تنافس العديد من القوى الكبرى التي ترى قوة في صوت أفريقيا كان له من الفاعلية في حسم الكثير من القضايا الدولية المُختَلف عليها بين القوى الكبرى، وإن كان هذا العامل قد تراجع ثقله بعض الشيء في ضوء أن مجلس الأمن هو الجهة المعنية بحسم أي قرارات تنفيذية من قِبل الأمم المتحدة.

ومن جهة ثانية فإن ملف الديمقراطية وحقوق الإنسان صار من الملفات المختلف عليها في السياسة الخارجية الفرنسية التي كانت على ما يبدو سبباً للتمدد في السياسة الخارجية الفرنسية تجاه أفريقيا ولكن بلا فائدة؛ نظراً لعدم القدرة الفرنسية على أقلمة سياستها مع سياسات النخب السياسية الأفريقية الحاكمة التي تتبنّـى وجهة نظر معارضة للرؤية الفرنسية.

فخلال القمة (الأفريقية – الفرنسية) التي عقدت في السادس عشر من فبراير 1990، أعلن الرئيس الفرنسي الأسبق، فرانسوا ميتران، أن فرنسا سوف تتبع نهجاً جديداً في علاقتها بالدول الأفريقية، وأنها لن تقدّم مساعدات إلا للدول التي تحقق تقدماً في مسار التحول الديمقراطي، وذهب ميتران إلى أبعد من ذلك؛ بتأكيد أن فرنسا لن تلتزم بمساندة الأنظمة التي تواجه تمرداً عسكرياً إلا إذا كانت هذه الأنظمة ديمقراطية.

وفي مالي كان موسى تراوري أطول رؤساء مالي حكماً حيث حكمها 23 عاماً، قبل أن يطيح به الجيش عقب انتفاضة شعبية على الأوضاع الاقتصادية، وكان ذلك الانقلاب الثاني في تاريخ البلاد الذي قاده الجنرال أمادو توماني توري في 26 مارس 1991. وهو ما فسره الفرنسيون باعتباره فشلاً في تأييد أنظمة استبدادية كانت سبباً فيما تعانيه مالي من فشل سياسي واقتصادي وأمني.

أضف إلى ذلك أن اتجاهاً داخل النخبة السياسية الفرنسية قد تعزز بضرورة إعادة صياغة (سياسة فرنسا الأفريقية) بوصول نيكولا ساركوزي للرئاسة عام 2007، وقد نُسب إلى ساركوزي قبل الرئاسة تبنّيه لمطلب التخلّي عن الروابط والشبكات الشخصية بين النخب الحاكمة في فرنسا والدول الأفريقية، وقد تجدّدت التوقعات نفسها بعد انتخاب فرانسوا هولاند الذي تعهد بمنح البرلمان الفرنسي دوراً أكبر في الرقابة على سياسة حكومته في أفريقيا، وأبدى هولاند اهتماماً بمحاربة الفساد، وفرض الرقابة على الصفقات الاقتصادية مع دول القارة، وخاصة صفقات السلاح، لكن يبدو أن عنصر العلاقات والروابط الشخصية ظل أحد ملامح الاستمرارية في العلاقات (الفرنسية – الأفريقية)، أما دعاوى الديمقراطية؛ فقد اقتصرت على الضغط من أجل تبنّـي تعددية حزبية، وإجراء انتخابات تعددية، دون الاهتمام بدعم الحريات السياسية، وحكم القانون، والحد من الفساد، ولذلك لم يكن غريباً أن تتقلص المساعدات الفرنسية للدول التي كانت تحرز تقدماً نحو الديمقراطية في بداية التسعينيات، مثل: (بنين، ومالي)، بينما تزيد للدول التي تحكمها قيادات تسلطية، مثل: (توجو، والكاميرون) وعلى الرغم من ادعاء ساركوزي العزم على إضفاء الشفافية والمؤسسية على العلاقات مع أفريقيا؛ فإن سياسته لم تختلف كثيراً عن سياسة سابقيه فقد استمرت سياسة هولاند على نهج البراغماتية نفسه الذي يعطي أولوية للاحتفاظ بصداقات فرنسا التقليدية على دعاوى الديمقراطية، ففي أول زيارة له للقارة في أكتوبر 2012، والتي توجّه فيها إلى داكار للمشاركة في أعمال القمة الفرانكفونية، أكّد الرئيس الفرنسي أنه برغم التزام فرنسا الدائم بالديمقراطية؛ فإنها تحترم استقلال الدول الأفريقية وخصوصيتها. وهو أمر وضع فرنسا في منطقة ضبابية غير واضحة المعالم، فهي لم تؤيد الديمقراطية وحقوق الإنسان، ولم تبلور خطاباً سياسياً ليبرالياً يدعم هذا التوجه وهو ما أسهم في تراجع أسهمها السياسية لدى كثير من النخب السياسية الأفريقية عموماً والمالية خصوصاً.

فرغم معارضتها الظاهرة لانقلاب مالي في أغسطس 2020، فإنها لم تأخذ موقفاً حاسماً منه بحجة أنه قد يمثل مرحلة انتقالية لحكم مدني ديمقراطي، ولكن عندما أطاح الضابط ذاته الذي قاد انقلاب أغسطس بالرئيس الانتقالي ورئيس الوزراء اعتبرت ذلك انقلاباً على الحكم المدني وقادت فرنسا اتجاهاً معارضاً للمجلس نفسه الذي أتى بالرئيس السابق ورئيس وزرائه، وهو أمر قد يخصم قليلاً من رصيد فرنسا وخطابها السياسي ذي المعايير المزدوجة. وينعكس على إدراك النخبة الحاكمة في مالي للعلاقات مع فرنسا باعتبار أنها سياسة متعددة الوجوه لا معيار ثابتاً لها تتسم بالانتهازية الشديدة، وهو ما أسهم في توتير العلاقات الفرنسية – المالية.

رابعاً: البُعد الاقتصادي

قد يكون البُعد الاقتصادي هو من الأبعاد التي تحدد بوصلة العلاقة بين دولتين فكلما زادت هذه العلاقات رسوخاً كان ذلك انعكاساً لقوة العلاقات الاقتصادية بينهما، والعكس صحيح، وبتطبيق تلك القاعدة على العلاقات الفرنسية – المالية فإنه من الممكن القول إن العلاقات الاقتصادية لم تكن من العوامل الحاسمة في توجه الماليين نحو تعزيز علاقاتهم مع فرنسا.

ففرنسا تصدّر إلى مالي ما قيمته 401 مليون دولار أمريكي من أجهزة الكمبيوتر والأدوية والقمح، ما يجعلها ثالث أكبر مصدّر لمالي، في حين تستورد ما قيمته 7.04 مليون دولار معظمها مواد زراعية وهناك نحو 16 شركة فرنسية رائدة متمركزة في مالي مع شركات تابعة لأمثال “توتال” و”لابوركس”. بالإضافة إلى ذلك، فإنها تتلقى من الاتحاد الأوروبي (والتي تشكل فرنسا أحد أعمدته الرئيسية) ما قيمته 145 مليون يورو كمساعدات إنمائية سنوية، بالإضافة إلى ملايين المساعدات الثنائية على مر السنين.

ورغم ذلك فإن الوضع الاقتصادي في مالي أصبح على المحك نتيجة لانتشار الفساد في العديد من مؤسسات الدولة ما جعل مالي تنحدر على مؤشر الشفافية الدولي من المركز 105 عام 2012 إلى المركز 136 عام 2021 على مستوى العالم، وهو انحدار كافٍ للقضاء على أي مؤشرات اقتصادية إيجابية أو أي من ثمار التنمية ويزيد وضعها الاقتصادي صعوبة.

من ناحية أخرى فإنه وطبقاً للمؤشرات سالف الإشارة إليها فإنه يبدو أن العلاقات الاقتصادية بين فرنسا ومالي لا تشكل محوراً أساسياً في العلاقات المالية مع العالم الخارجي، وإن ظهرت الصين كمنافس تجاري قوي سواء باعتبارها مصدِّراً (تحتل المركز الرابع في قائمة الدول المستورِدة من مالي) أو باعتبارها مستورِداً (المركز الثاني في قائمة الدول المصدِّرة إلى مالي)، ما يضع الفرنسيين في مرتبة متأخرة في أولويات السياسة التجارية لدولة مالي، وكذلك بالنسبة إلى فرنسا على المستوى الاقتصادي. وهو ما يهمش من تأثير العامل الاقتصادي في تهدئة التوتر الحالي في العلاقة بين الدولتين.

مستقبل متشابك الأطراف كثير الضبابية

تشابكت الأبعاد التاريخية والأمنية والسياسية والاقتصادية لتشكل واقعاً شديد الحساسية في العلاقات المالية – الفرنسية، من سماته تعقده وتعدد أطرافه وقدرتها على التأثير في المشهد المالي خصوصاً والأفريقي عموماً. وهو ما يفتح الباب أمام سيناريوهات مستقبلية على النحو التالي:

السيناريو الأول: مصالحة مالية – فرنسية 

يتمثل السيناريو الأول في توجه باريس وباماكو إلى معالجة الخلافات للحيلولة دون تفاقمها ومن ثم التهدئة وخفض التوتر وصولاً إلى تسوية الأزمة القائمة ومن ثم إلى مصالحة بين البلدين.

 وما يؤيد هذا السيناريو محاولات النيجر والسنغال تحديداً للعب دور وساطة بين فرنسا ومالي لتهدئة الأزمة بينهما، بالإضافة إلى إمكانية خسارة باريس وباماكو في حالة استمرار الأزمة وتفاقمها. فمن ناحية لا ترغب فرنسا في تصاعد الأمور في منطقة الساحل والصحراء، بالنظر إلى ما قد يترتب على ذلك من مكاسب استراتيجية تحققها الجماعات الإرهابية، ستؤثر بلاشك في نفوذها في المنطقة عموماً، بالإضافة إلى القلق من نجاح روسيا والصين في ملء الفراغ الناتج عن التراجع الفرنسي إن لم تحدث المصالحة. في المقابل فإن المجلس العسكري في مالي قد لا يستطيع الاستمرار في سياسة شد الحبل مع فرنسا إلى نهايته نظراً إلى تراجع الأوضاع الاقتصادية والسياسية والأمنية في البلاد، وعدم قدرته على السيطرة عليها بشكل كامل في الأمدين المتوسط والبعيد، وتأثير ذلك في تماسك النخبة العسكرية الحاكمة في باماكو، بالإضافة إلى صعوبة الرهان بشكل تام على روسيا والصين، فالأولى قد تتأثر عسكرياً واقتصادياً في ظل انشغالها بالحرب في أوكرانيا، والصين لن ترغب في الدخول في صدامات عسكرية مع أي طرف داخلي (جماعات إرهابية وتنظيمات قبلية وعصابات مسلحة) أو خارجي (الفرنسيين والأوروبيين). ورغم صعوبة هذا السيناريو في ظروف التوتر الحالي فإنه يبقى السيناريو الأقرب للتحقق.

السيناريو الثاني: استمرار التوتر في العلاقات الفرنسية – المالية

يقوم هذا السيناريو على فكرة استمرار كل طرف في شد الحبل من جانبه حتى يصل إلى مرحلة الانفجار/ الصدام المباشر، فالنظام في مالي يعول كثيراً على وجود اتجاه شعبي معارض للوجود الفرنسي في البلاد، كما تتوافر قوى دولية وإقليمية تستطيع أن تشكل بديلاً لفرنسا التي يرى بعض الماليين أن البلاد لم تستفد من العلاقات معها خاصة في شقها الاقتصادي، حيث لا تعتبر فرنسا من الدول الرئيسية في خريطة العلاقات التجارية مع مالي – كما أسلفنا القول – في المقابل، لن تقف فرنسا مكتوفة الأيدي إزاء هذا التوجه الإقصائي لدورها في المنطقة، سواء بسبب العلاقات التقليدية التاريخية مع المُستَعمرة القديمة، أو عدم رغبتها في ترك الساحة لروسيا والصين اللتين تُعتبران الخطر الأكبر على النفوذ الفرنسي والغربي عموماً في المنطقة، ومع استمرار التوتر قد تجد فرنسا نفسها مدفوعة نحو تدخل عسكري في مالي يطيح بالمجلس العسكري الحاكم.

هذا السيناريو محفوف بالمخاطر لكلا الجانبين، فمن جهة تدرك فرنسا صعوبة تحقيق نصر حاسم في أي مواجهة عسكرية قد تتدخل فيها أطراف أخرى، كما أن فرنسا المشغولة بالحرب في أوكرانيا لن تقدم على تدخل عسكري في مالي من شأنه أن يزيد الأمور تعقيداً مع روسيا صاحبة العلاقات القوية مع المجلس العسكري الحاكم. كما أن النخبة الحاكمة في مالي قد تخشى مخاطر هذا الصدام لعدم يقينها من وجود قدر كاف من التماسك والالتفاف حولها، ومن ثم قد تتعرض للسقوط والانهيار. في ضوء هذه المخاطر التي ستتعرض لها الدولتان فإنه يصعب ترجيح حدوث هذا السيناريو

السيناريو الثالث: تقسيم مناطق النفوذ

تقوم فكرة هذا السيناريو على تسويةٍ من نوعٍ ما بين الأطراف الدولية والإقليمية والمحلية المتصلة بالشأن المالي بحيث تكون للفرنسيين السيطرة على بعض الدول في منطقة الساحل والصحراء، وكذلك يكون للروس والصينيين والأوروبيين والأمريكيين. بالإضافة إلى الدور الأممي، أي أن يبقى الوضع على ما هو عليه، إلا أن هذا السيناريو يبقى نظرياً صعب التطبيق نتيجة للتشابك المعقد بين دول الساحل والصحراء سواء قبلياً أو حدودياً أو حتى مصلحياً، وعدم قدرة أي طرف على السيطرة على منطقة دون أخرى وحساسية منطقة الساحل والصحراء بالنسبة إلى الأمن القومي الغربي نظراً إلى وقوع بعضها على المحيط الأطلسي واقتراب ذلك من مناطق النفوذ الغربية عموماً والأمريكية خصوصاً. ومن شأن سيطرة الصينيين والروس على مثل هذه المناطق أن يعرض مصالحهم الاستراتيجية للخطر. أضف إلى ذلك أن العالم في الوقت الحالي يغلب على تفاعلاته سمة الصراع أكثر منه التعاون وما الحرب الروسية – الأوكرانية ببعيدة عن المشهد الأفريقي.

وبالتالي فإنه وأمام السيناريوهات الثلاثة يرى الباحث أن السيناريو الأول المتمثل في المصالحة المالية – الفرنسية هو الأقرب إلى التحقق وإن كان المشهد على الأرض في الوقت الحالي يسير في عكس اتجاهه، فكلا الطرفين يدرك أهميته بالنسبة إلى الطرف الآخر، وكلا الطرفين يدرك حجم الأوراق التي يملكها كل طرف، سواء كأوراق سياسية أو اقتصادية أو أمنية، وهو ما يجعل من الصعب تحقق السيناريوهين الآخرين، فالصدام في ظل هذا الوضع صعب التحقق، كما أن بقاء الوضع على ما هو عليه وما قد يترتب عليه من تقسيم مناطق النفوذ بين القوى الكبرى، وما يحمله ذلك من تبعات يتحملها كل من الطرفين الفرنسي والمالي وهو أمر يصعب قبوله من جانب الأطراف الدولية الطامعة في لعب دور في مالي.

خاتمة:

تأتي الأزمة المالية – الفرنسية في ظل مشهد دولي وإقليمي شديد التعقيد، متعدد اللاعبين المسيطر منهم والساعي إلى السيطرة، فيما يمتلك كلٌّ من الطرفين المالي والفرنسي أوراقاً محددة قد تساعده على أن يكون جزءاً من هذا المشهد المعقد أو لا يكون من الأساس (خاصة بالنسبة إلى الطرف المالي)، فكما هي الحرب الروسية في أوكرانيا التي قد يترتب عليها تغير شكل النظام الدولي عموماً، فإن تداعيات الأزمة المالية الفرنسية قد تسهم في تغيير طبيعة توازنات القوى الدولية في أفريقيا، ولكن ذلك يعتمد على كيفية إدارة الأزمة من قِبل أطرافها وطبيعة الحل الذي سيتم التوصل إليه في النهاية.