بعد كثير من التفاؤل الإسرائيلي بقرب توقيع اتفاق لترسيم الحدود البحرية بين البلديْن ينهي حالة التوتر ويسمح لإسرائيل باستئناف استكمال أعمال منصة "كاريش" واستخراج الغاز على إثر المقترح الأمريكي المتعلق بترسيم الحدود البحرية وتقسيم المياه الاقتصادية، وهو ما روجت له الحكومة على لسان لبيد وغانتس باعتباره اتفاقًا يحقق لإسرائيل مصالحها الأمنية والاقتصادية، وباعتباره إنجازًا مُهمًا بحاجة فقط للمسات أخيرة قبل توقيعه، ما جعل نتنياهو يهاجم حكومة لبيد التي - بحسب قوله - خضعت لتهديدات حزب الله وتنازلت عن حدود إسرائيل السيادية، وبعد أن اعتبره حزب الله تقدمًا مُهمًا، ووصفه نبيه بري بالإيجابي؛ جاءت الملاحظات اللبنانية على الاتفاق برفض بنديْن أساسييْن فيه؛ الأول الخاص برفض أن تكون حدود العوامات على عرض الخمسة كيلو مترات من رأس الناقورة غربًا شمال خط الـ 23 حدودًا بحكم الأمر الواقع، وهي حدود أمنية فرضتها إسرائيل سابقًا كأمر واقع يحقق لإسرائيل مصالح أمنية، فهي تمنحها فرصة إنذار كافية وقدرة على التصدي لأيّ هجوم أو اختراق يستهدف سواحلها وحدودها البحرية الشمالية. والبند الثاني يتعلق بالفيتو الإسرائيلي على حقل الغاز اللبناني "قانا" وحق إسرائيل بتحديد قيمة التعويضات عن نصيبها في الحقل، بالتفاوض المباشر مع الشركات التي تمتلك امتياز استخراج الغاز منه.
إسرائيل أبلغت الوسيط الأمريكي هوكشتاين رفضها للمطالب اللبنانية، ووصفتها بالمطالب الوقحة، واتهمت الحكومة اللبنانية بلعب لعبة مزدوجة؛ فمن جهة تعلن للعلن ترحيبها بالاتفاق، ومن جهة أخرى ترسل ملاحظات تفجر الاتفاق.
الملاحظات اللبنانية على الاتفاق أوقعت حكومة لبيد بحرج شديد، ووضعتها أمام تحدٍ مُهم، الحرج في أنها احتفلت مبكرًا بالاتفاق وسوّقته داخليًا باعتباره إنجازًا مُهمًا لحكومة لبيد وها هي بدون اتفاق؛ الأمر الذي جعلها تواجه انتقادات حتى من وزراء الكابينت، متهمين لبيد وغانتس بالتسرع ببث البشرى وحصد الإنجاز، ما سمح لنتنياهو بأن يدعي بأن حرصه وانتقاده للاتفاق هو الذي منع الحكومة من السير بعيدًا في التنازلات.
الرفض اللبناني لصيغة الاتفاق يجعل توقيع الاتفاق قبل الانتخابات (التي من المُقرر أن تجري في الأول من نوفمبر القادم) أمرًا مُستبعدًا، وهو ما يجعل أمر تمديد تأجيل استخراج الغاز من حقل "كاريش" - الذي تم تحت ضغط تهديدات حزب الله إلى أجل غير مسمى آخر - أمرًا مطلوبًا لمنع الصدام مع حزب الله، لكنه أمر سيظهر الحكومة بالعاجزة والضعيفة. وكان لبيد قد أعلن سابقًا أن استئناف أعمال منصة "كاريش" سيتم قريبًا دون الاعتبار لوجود اتفاق من عدمه، والتحدي هو إظهار الحزم واستئناف الأعمال والمخاطرة بتصعيد كبير مع حزب الله أو استمرار تعليق الأعمال والاستمرار في التفاوض، والمقامرة بخسارة الانتخابات لصالح نتنياهو، لا سيما أن الفرق بين الكتلتيْن لا يتجاوز مقعديْن.
أمريكا - التي تدرك تعقيدات الأمر - تمارس الآن ضغوطًا شديدة على لبنان للقبول بالاتفاق، وإسرائيل من جهتها تلوح باستخدام القوة في حال قام حزب الله بأيّ عمل تعبره إسرائيل استفزازيًا أو عملًا عدوانيًا، وهناك من يعتقد بأن إسرائيل قد تقوم بعمل استباقي، غانتس هدد لبنان وحزب الله باستخدام قوة مدمرة، والجيش يقوم باستنفار كامل قواته الشمالية ونشر منظومات الدفاع الجوي ونشر بطاريات الدفاع عن حقل "كاريش"، وسائل الإعلام الإسرائيلية - التي تغطي بشكل واسع ما تسميه بتصاعد التوتر على الحدود الشمالية - تتحدث عن احتمالات متزايدة للتصعيد.
عاموس يادلين اعتبر الاتفاق بصيغته المعروفة إنجازًا أمنيًا واقتصاديًا لإسرائيل، واعتبر أن إسرائيل قدمت تنازلات في المجال الاقتصادي مقابل تحقيق مصالحها الأمنية (المقصود هنا خط العوامات)، وشدد على أنه من غير المسموح لإسرائيل التنازل عن مصالحها الأمنية.
تقديرنا أن إسرائيل أمام سيناريوهيْن؛ الأول: أن توقف المفاوضات وتبقي الوضع على حاله إلى أن تتشكل حكومة جديدة، والثاني: أن تبدأ باستئناف أعمال منصة "كاريش" في ظل تقدير إسرائيلي بأن التصعيد الناتج عن ذلك سيكون محدودًا، نتيجة لتعقيدات وحسابات لبنانية داخلية ستمنع حزب الله من الذهاب لتصعيد كبير، لكن إسرائيل ستمتنع عن أيّ تصعيد كبير يفجر حربًا واسعة، حتى لو كان ثمن منعها استمرار تجميد أعمال المنصة وأثمان سياسية، فكل ثمن سياسي أو اقتصادي هو أقل بكثير من ثمن حرب كبيرة مع لبنان، لا سيما في ظل حكومة انتقالية.