• اخر تحديث : 2024-05-10 13:04
news-details
أبحاث

واقع وتحديات التعاون العربي الإفريقي في ظل متغيرات الصراع الدولي


يكتسي تناول العلاقات العربية-الإفريقية بالدراسة والتحليل أهمية بالغة، لاعتبارين على الأقل: الأول: تنامي الجدل والنقاش المتزايد حول طبيعة المتغيرات الجوهرية التي يعيشها النظام الدولي الراهن، المتمثلة في بروز قوى دولية وإقليمية تعديلية (الصين، روسيا..) منافسة للقوة المهيمنة عالميًّا، أي الولايات المتحدة الأميركية. الاعتبار الثاني: أن إفريقيا تبرز، في سياق متغيرات الصراع الدولي، بوصفها ساحة تنافس وصراع شرس حول الموارد والنفوذ بين القوة المهيمنة والقوى التعديلية، فالولايات المتحدة الأميركية تحاول الاحتفاظ بموقعها القيادي في العالم، بينما تسعى الصين، مثلًا، إلى الاعتراف بنفوذ لها يعادل قوتها الاقتصادية الصاعدة؛ ما يجعلهما في احتكاك وتنافس مع بعضهما البعض في جبهات متعددة.

ومما لا شك فيه أن الاحتكاك بين القوتين يُلقي بظلاله على علاقات إفريقيا الدولية، ومنها العلاقات الإفريقية-العربية؛ حيث إن الصراع بين أميركا والصين بات يفرض على الدول الإفريقية الاختيار بين إحداهما، وهي تطورات ما فتئت تتعمق وتتسع، وتذكِّر بما حصل زمن الحرب الباردة؛ حيث انقسمت الأنظمة الإفريقية بين المعسكر الرأسمالي والمعسكر الاشتراكي، الواقع الذي حال دون تعزيز الطرح الذي نادى به الآباء المؤسسون للوحدة الإفريقية ممن دافعوا عن منظور إفريقي بديل لأنماط الهيمنة المختلفة، من خلال تعزيز العلاقات الدولية جنوب-جنوب.

تبحث هذه الورقة، إذن، واقع وتحديات التعاون العربي-الإفريقي في ضوء الصراع الأميركي-الصيني المتصاعد، وهو الصراع الذي تعد إفريقيا والعالم العربي من بين أهم ساحاته، وباعتبار ذلك الصراع من أبرز متغيرات النظام الدولي التي تحول دون بناء نموذج ناجح للتعاون العربي-الإفريقي. وتفترض هذه الورقة أن الدول العربية أو الإفريقية تضطر تحت ضغط الصراع الأميركي-الصيني إلى تفضيل نمط العلاقات الثنائية (دولة-دولة) على حساب نمط العلاقات متعددة الأطراف (جامعة الدول العربية-الاتحاد الإفريقي مثلًا)، وهو ما يحد حتى الآن من بناء نموذج للتعاون الإقليمي عربي-إفريقي.

أولًا: أبرز متغيرات الصراع الدولي

تتمثل أبرز متغيرات الصراع الدولي في التنافس الأميركي-الصيني حول النفوذ والموارد في إفريقيا؛ حيث تسعى أميركا، باعتبارها قوة مهيمنة عالميًّا، إلى الحفاظ على دورها الريادي، بالتعاون مع حلفائها التقليديين والجدد، بينما تحاول الصين فرض نفسها قوةً تعديلية في بنية النظام الدولي القائم، كونها تمثل نموذجًا بديلًا في بناء القوة والنفوذ. وقد برز التنافس بين القوتين منذ سنة 2010، عقب تبني أميركا إستراتيجية للأمن القومي ترى في الصين تهديدًا لمصالحها ولقيادتها العالمية، وهي الرؤية التي عبَّر عنها الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، في قوله: "إن الصين تريد أن تغير القواعد الناظمة للمنطقة التي تعرف أكبر نمو سريع في العالم، لماذا سنتركها تفعل؟ ينبغي أن نكون نحن من يغيِّر القواعد".

أما في عهد الرئيس السابق، دونالد ترامب، فقد اتخذت الإدارة الأميركية من الصين عدوًّا إستراتيجيًّا لها، ودخلت العلاقات بينهما مرحلة المواجهة المفتوحة، التي تعدَّت الحرب التجارية، وفرض عقوبات قاسية على شركات صينية مثل "هواوي Huawie"، نحو مواجهة سياسية على خلفية فيروس كورونا مثلًا، قبل أن تتخذ أبعادًا جيوستراتيجية أكثر، منذ وصول الرئيس الحالي، جو بايدن، إلى السلطة، في 2020، والذي يسعى حثيثًا نحو تأسيس تحالف دولي ضد الصين، يوظف فيه مجموعة "السبع الكبار G7"، والاتحاد الأوروبي، ومجموعة "تحالف العيون الخمس الاستخباري"، علاوة على دول حليفة مثل الهند واليابان وكوريا الجنوبية.

لقد جعلت أميركا من تحجيم النفوذ الصيني في إفريقيا هدفًا معلنًا لها، تسعى إلى تحقيقه باستخدام وسائل متعددة، على رأسها الوسائل الأمنية والعسكرية، ممثلة في القيادة العسكرية "أفريكوم"، التي تسهر على تنفيذ أجندة أمنية وعسكرية، لا يبدو أنها تعكس الأولويات الأمنية لشعوب القارة الإفريقية، وإن كانت تتذرع بتوفير التدريب والتأهيل للجيوش الإفريقية، ودعم قدراتها في تأمين الحدود، ومكافحة الإرهاب والقرصنة التي توجد أساسًا بالقرب من طرق الوصول إلى الموارد الإستراتيجية مثل النفط والغاز. الواقع أن أميركا تُظهر قلقًا من التمدد الصيني في العالم، ويبدو أن انشغالها بالحرب الروسية على أوكرانيا، لم يغيِّر شيئًا من هذا الانشغال، ومن بين المؤشرات على ذلك مخرجات قمة "السبع الكبار" في ألمانيا، في 22 يونيو/حزيران 2022، التي أكدت اصطفاف الغرب بشقيه الأوروبي والأميركي ضد روسيا والصين، وتخصيص 600 مليار دولار للاستثمار في البنية التحتية العالمية على مدى السنوات الخمس المقبلة، في خطوة موحدة للرد على مشروع "طريق الحرير الصيني".

أما المؤشر الثاني، فقد عبَّرت عنه مخرجات قمة الحلف الأطلسي في إسبانيا، بين 29 و30 يونيو/حزيران 2022، التي أقرَّت تصورًا إستراتيجيًّا جديدًا للحلف، يتماشى مع أجندته في أفق 2030، معتبرًا روسيا "التهديد الأكبر والمباشر لأمن الحلفاء"، ومنددًا بـ"الشراكة العميقة والإستراتيجية" بين روسيا والصين، و"محاولاتهما المتبادلة زعزعة الاستقرار العالمي". لقد حدَّد الإعلان الصادر عن قمة الحلف روسيا والصين تهديدًا إستراتيجيًّا للحلف.

تدرك الصين بدورها هذه المتغيرات الجيوستراتيجية، لكن ما يُحركها هو نجاحها الاقتصادي، الذي يدفعها إلى المطالبة بنظام اقتصادي عالمي جديد، وبنظام دولي متعدد الأقطاب يأخذ بعين الاعتبار قوتها الاقتصادية، وهو الهدف الذي يشكِّل "الحلم الصيني" الذي يقوم على دعامات قوية، منها مبادرة "الحزام والطريق" التي أُعلن عنها في 2013، وتروم ربط الاقتصاد الصيني بأوروبا وإفريقيا، مرورًا بوسط آسيا وجنوبها وبالشرق الأوسط، عبر شبكة من الطرق البرية والبحرية. وهي المبادرة التي قد تغيِّر وجه العالم، وأن تقدم نموذجًا بديلًا عن النموذج الليبرالي الغربي؛ الأمر الذي قد يرفع من حدة المواجهة مستقبلًا بين القوتين، قد يتم احتواؤها سلميًّا، وقد تنفلت نحو السقوط في فخ "ثيوسيديد".

شكَّلت أزمة كورونا حلقة جديدة في مسلسل المواجهة بين القوتين، حين حاولت أميركا ربط تفشي الوباء بالمختبرات الصينية، ونعته الرئيس السابق ترامب بـ"الفيروس الصيني"، في محاولة منه لتحميل الصين المسؤولية السياسية عن وباء كورونا. أما الحرب الروسية على أوكرانيا فقد أظهرت أن المواجهة بصدد أن تدخل طورًا أعلى من التصعيد، خصوصًا أنها دفعت بروسيا نحو التحالف مع الصين، كما عبَّر عن ذلك "بيان مشترك" صدر في فبراير/شباط 2022، وأكد أن العلاقات الدولية قد دخلت "عهدًا جديدًا" يضع حدًّا لزعامة أميركا، و"يؤسس لصداقة بين البلدين لا حدود لها". وبالطبع، فهذه المواجهة المفتوحة بين الصين وأميركا، يلاحظ أنها تشمل إفريقيا كذلك؛ حيث الصراع حول الموارد والنفوذ يختفي أحيانًا تحت عناوين براقة مثل الحرب على الإرهاب تارة، أو دعم التنمية المستدامة تارة أخرى.

تقر الصين بالقوة الأميركية لكنها تسعى إلى انتزاع اعتراف أميركي بمصالحها ونفوذها في العالم، ارتكازًا على تصور نظري يؤكد أن النظام الدولي القائم يرتكز على قوة عالمية وقوى إقليمية عالمية، أو فيما يُصطلح عليه بـ"أقاليم العالم"، بوصفها "عنقوديات من دول متقاربة ومترابطة.. على نحو مهم ومائز"، على شاكلة أوروبا الغربية والشرق الأوسط وأميركا اللاتينية وجنوب شرق آسيا. لكن لا يبدو أن هذه الفكرة تعكس، بحسب يورغن سورنسن، توزيعًا حقيقيًّا للقوة في النظام الدولي، لأن المعطيات المتاحة لا تسمح بالحديث عن أميركا كإمبراطورية، بل كدولة قائدة ومهيمنة، بسبب قوتها العسكرية أساسًا، كما أن المعطيات نفسها لا تسمح بالحديث عن نظام دولي قائم على "الأقاليم"، وإن كان يتجه بشكل حثيث نحو ذلك، أي نحو مرحلة تقوم على التوازن بين القوة المهيمنة والقوى الكبرى.

لكن حتى لو استطاعت الصين أن تفرض نفسها قوة دولية مؤثرة في محيطها الإقليمي والدولي، فإن النتائج المتوقعة بالنسبة إلى إفريقيا قد تظل نفسها، بمعنى أن الصراع الدولي بين القوة المهيمنة والقوى المناهضة لها قد يفضي إلى تحويل كثير من النزاعات الدولية إلى صراعات عنيفة، كما هو الواقع الإفريقي اليوم. وهذا يعني أن الصراع بين تلك القوى، وإن أفضى إلى واقع جيوستراتيجي جديد، إلا أن نتيجته واحدة بالنسبة لإفريقيا؛ حيث إنه صراع حول النفوذ والثروة، على حساب مصالح وطموحات الشعوب في دول الجنوب، سواء الإفريقية أو العربية. بمعنى آخر، إن الصراع الجيوستراتيجي الجديد بين أميركا والصين، يشكل تحديًا بالنسبة لأغلب الدول في إفريقيا والعالم العربي، كما يدل على ذلك واقع التعاون العربي-الإفريقي في الظرف الراهن.

ثانيًا: واقع التعاون الإفريقي-العربي الراهن

منذ حصول دول إفريقيا على استقلالها، تطورت علاقات التعاون الإقليمي العربي-الإفريقي على أساس روح التحرر الوطني، إلى التضامن، ثم التعاون. ففي مرحلة التحرر الوطني، تميزت العلاقات بين الحركات التحررية العربية والإفريقية بالإسناد المتبادل والنضال المشترك من أجل التخلص من الاستعمار الغربي، لكن في مرحلة ثانية، وأمام تحدي بناء الدولة الوطنية ومتطلبات الاستقلال الاقتصادي في سياق ضغوطات الصراع الدولي بين المعسكر الاشتراكي والمعسكر الرأسمالي، اكتست العلاقات العربية-الإفريقية طابع التضامن بما يعنيه من دعم اقتصادي ومالي عربي لإفريقيا. أما في مرحلة ثالثة، فقد اكتست العلاقات الطابع التعاوني لمواجهة تحديات العولمة، التي كانت إيذانًا بتفكك المعسكر الشرقي وتراجع تأثير حلفائه العرب والأفارقة.

في هذا السياق، يمكن أن نسجل ملاحظة مهمة تتمثل في أن الانتقال من علاقات مبنية على إرادة التحرر المشترك إلى خطاب التضامن، في سياق أزمة اقتصادية ومالية عالمية جرَّاء الحرب العربية-الإسرائيلية سنة 1973، وارتفاع أسعار البترول، جعل الخطاب يبدو وكأنه موجه من أصحاب المال الأغنياء نحو الفقراء، أي خطاب الثروة بعد خطاب الثورة، ولم تعد القضية هي المشاركة بقدر ما أصبحت مقايضة. وعلى أي، فقد دفع انتصار العرب على إسرائيل في حرب 1973، والثروة النفطية التي تحققت لهم بعد تلك الحرب، ثم تجاوب الأفارقة من خلال قطع علاقاتهم الدبلوماسية مع إسرائيل، وحضور منظمة الوحدة الإفريقية في اجتماعات القمة العربية، إلى التفكير في مأسسة العلاقات العربية-الإفريقية، وهو ما أسفرت عنه القمة العربية-الإفريقية الأولى في القاهرة، سنة 1977، التي وضعت الأسس القانونية والمؤسساتية للتعاون متعدد الأطراف بين المجموعتين العربية والإفريقية، التي تتمثل في:

- عقد قمة عربية-إفريقية على مستوى الرؤساء، تنعقد كل ثلاث سنوات.

- المجلس الوزاري العربيالإفريقي، وينعقد على مستوى وزراء الخارجية كل 18 شهرًا.

- اللجنة الدائمة العربيةالإفريقية، تتكون من 24 وزيرًا وتنعقد كل 6 أشهر، لتفعيل اتفاقيات التعاون المختلفة.

- لجنة تنسيق التعاون العربيالإفريقي، تتكون من الأمينين العامين للجامعة العربية والاتحاد الإفريقي.

- المصرف العربي للتنمية الاقتصادية في إفريقيا، الذي تأسس سنة 1973 في الخرطوم.

- بالإضافة إلى مؤسسات أخرى مثل المعرض التجاري العربي الإفريقي، والمعهد الثقافي العربي الإفريقي، والمحكمة العربية الإفريقية.

لكن الحصيلة تبدو محدودة جدًّا، فالقمم العربية-الإفريقية على مستوى رؤساء الدول انعقدت أربع مرات فقط: قمة القاهرة سنة 1977، وقمة سرت سنة 2010، وقمة الكويت سنة 2013، وقمة غينيا الاستوائية سنة 2016. وكان مقررًا أن تنعقد القمة الخامسة في السعودية سنة 2019، لكنها لم تنعقد حتى الآن. إن تعثر قمة الرؤساء معناه تعثر كل المؤسسات الأخرى، وهو الوضع الذي يكشف عن ضعف الإطار المؤسسي الاقتصادي والسياسي والأمني بين الطرفين، علاوة على وجود تفاوت وتباين مؤسساتي، فالدول العربية لم تنجح اقتصاديًّا حتى الآن في إيجاد سوق عربية مشتركة، ولم تنجح أمنيًّا في إيجاد آلية للأمن الجماعي. في حين يلاحظ أن الأفارقة حققوا تقدمًا ملموسًا على الصعيدين معًا: اقتصاديًّا، في تشكيل هياكل إقليمية للتكامل الاقتصادي داخل القارة، مثل المنظمة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا "الإيكواس"؛ أما عسكريًّا، فقد بات لديهم قوات عسكرية مشتركة للتدخل، ومجلس إفريقي للأمن والسلم، وآليات فرعية أخرى. ويحدُّ هذا التباين المؤسساتي بين الطرفين من إيجاد آليات للتنسيق بينهما بخصوص القضايا والأزمات المشتركة.

بيد أن تعثر التعاون العربي-الإفريقي على المستوى متعدد الأطراف، لم يمنع الدول العربية والإفريقية من تطوير علاقات تعاون ثنائية، سواء الخليجية أو غير الخليجية:

- على مستوى علاقات التعاون الخليجي-الإفريقي، يمكن الإشارة إلى نموذجين: الأول: تمثله الإمارات العربية المتحدة، التي تعد رابع أكبر مستثمر عالمي في إفريقيا، بعد الصين وأوروبا وأميركا، باستثمارات قدرها 25 مليار دولار، خلال المدة ما بين 2014 إلى 2019، تشمل مجالات: الطيران، والبنيات التحتية، وصناديق الاستثمار، في دول مثل نيجيريا، وجنوب إفريقيا، وكينيا، وأوغندا. وتركز الإمارات على تعزيز علاقاتها الثنائية بالصومال والسودان كذلك؛ حيث أقامت مشروعات كبرى في مجال الزراعة من أجل تأمين الغذاء لمواطنيها. النموذج الخليجي الثاني تمثله المملكة العربية السعودية، التي تركز استثماراتها على قطاع الزراعة والطاقة، بحيث تستثمر في مليوني هكتار في عدد من دول القارة، وبالتالي تأمين حاجاتها الغذائية، وهي كلها استثمارات تقع في شرقي القارة. ففي السودان، بلغت قيمة المشروعات الزراعية المنجزة والمبرمجة في أفق 2027، نحو 35.7 مليار دولار. وفي إثيوبيا، جرى توجيه المستثمرين السعودية بالمئات (305 رجال أعمال سعوديين) للاستثمار في الزراعة والإنتاج الحيواني، والمجال الصناعي، واستصلاح الأراضي، وتوفير شبكات الطاقة.

- بخصوص النموذج غير الخليجي، يمكن الإشارة إلى المغرب الذي تبنى إستراتيجية متعددة الأبعاد، تركز على دول منطقة غرب ووسط إفريقيا، عبر مداخل: الأمن والسياسة، والاقتصاد والتجارة والربط، والبيئة والتنمية المستدامة. وقد اكتست الإستراتيجية المغربية في إفريقيا زخمًا جديدًا بعد عودته إلى منظمة الاتحاد الإفريقي في 2017، وتقديم طلب الانضمام إلى المنظمة الاقتصادية لغرب إفريقيا (الإيكواس)، ثم تفعيل مشروع منظمة "الدول الإفريقية الأطلسية"، في يونيو/حزيران 2022، بعضوية 21 دولة إفريقية مطلة على المحيط الأطلسي، تسعى إلى "هيكلة الفضاء الإفريقي الأطلسي، والعمل على تحويله إلى قطب إستراتيجي واقتصادي". وللمغرب، كذلك، علاقات تقليدية ثنائية مع دول مثل السنغال والكونغو والنيجر وتشاد ومالي وغيرها، قائمة على اتفاقيات مبنية على شرط الدولة الأكثر تفضيلًا، وتطورت مع بعضها من علاقات تعاون إلى شراكات إستراتيجية، وهو ما يفسر أن المغرب اليوم يعد البلد الإفريقي الثاني الأكثر استثمارًا في إفريقيا بعد مصر، والأول في منطقة غرب إفريقيا. وتتنوع استثمارات المغرب لتشمل قطاعات إستراتيجية مثل البنوك والتأمينات، وقطاع الاتصالات، والبنيات التحتية، والفلاحة والأمن الغذائي، والتعليم والثقافة والدين، والتجارة والربط البحري، وتبلغ استثماراته نحو 6 ملايين دولار، وهي مبادرات تندرج وفق رؤية تسعى إلى تحقيق اندماج إقليمي للمغرب في إفريقيا.

يمكن القول: إن التعاون الثنائي بين العرب والأفارقة متقدم على التعاون متعدد الأطراف؛ ما يعكس غياب رؤية عربية موحدة تجاه إفريقيا، في ظل تنامي نزعة التعاون الثنائي؛ حيث كل دولة عربية تفضل التوجه نحو إفريقيا بشكل منفرد. لكن لا يبدو أنه توجه منفصل عن إرادة القوى الدولية الفاعلة في إفريقيا، وقد يندرج ضمن إستراتيجياتها، فالدور المغربي في الحرب على الإرهاب في منطقة الساحل والصحراء، مثلًا، لا يمكن فصله عن الدعم الأميركي السخي على هذا الصعيد، وكذلك الأمر بالنسبة للجزائر التي تربطها علاقات إستراتيجية مع روسيا، تسمح بعدم استبعاد وجود تنسيق بينهما في مالي ومنطقة الساحل والصحراء، كما تكشف عن ذلك التطورات الأخيرة في المنطقة.

ثالثًا: تحديات التعاون العربي-الإفريقي

لا شك أن تفضيل الدول العربية والإفريقية الانخراط في الإستراتيجيات الكبرى للقوى الدولية المهيمنة، يعد من أول التحديات أمام بناء نموذج جديد للتعاون الإقليمي العربي-الإفريقي، وهذا التحدي يطرح عدة إشكالات على دول المجموعتين معًا، من قبيل تحدي الحفاظ على التوازن الإستراتيجي، أي كيفية تدبير الدول الإفريقية والعربية لعلاقاتهما الدولية في ظل الضغوط المتزايدة على القارة من لدن القوة المهيمنة المتمثلة في أميركا، والقوى الدولية الصاعدة مثل روسيا والصين، وهي ضغوط تفرض على الدول العربية والإفريقية أن تتموقع وأن تنحاز في علاقاتها بتلك القوى؛ ما يجعلها رهينة في نهاية المطاف لإحدى القوى الدولية، ويشكِّل "نموذج أنغولا"، القائم على "القروض مقابل الموارد"، مثالًا حيًّا على الوضع الذي يمكن أن تنتهي إليه الدول الإفريقية في علاقتها بالصين مثلًا. أما الدول العربية، خصوصًا الغنية منها مثل دول الخليج، فقد تجد نفسها تحت ضغط الحاجة إلى ضمان الأمن والبقاء، منخرطة في تمويل مشاريع ومبادرات القوى العظمى وليس مصالح شعوبها أو الشعوب الإفريقية، خصوصًا أن الانحياز إلى قوة دولية معينة يجعلها تحت ضغط وفي مرمى القوى الدولية الأخرى.

ويفرض هذا التحدي على الدول العربية والإفريقية مجابهة تحدٍّ ثان، يتعلق بكيفية تعزيز تلك الدول، الإفريقية والعربية، لاستقلاليتها الإستراتيجية إزاء أميركا باعتبارها، القوة المهيمنة، أو القوى الكبرى الأخرى مثل الصين وروسيا، حتى لا تجد نفسها في وضعية تحتم عليها أن تدفع جزءًا من فاتورة الحرب الباردة الجديدة بين تلك القوى، وهو التحدي الذي يُحتم عليها مراجعة حساباتها باستمرار، وعلى نحو براغماتي ومرحلي على اعتبار أن المصالح متغيِّرة، ويستدعي ذلك تنويع علاقاتها الإستراتيجية، والرهان على القوى المتوسطة، مثل الهند وتركيا والبرازيل، أو البحث عن بدائل للقوى الكبرى.

أما التحدي الثالث، فهو البحث عن كيفية التوازن بين التعاون متعدد الأطراف والتعاون الثنائي، بحيث يكمل بعضهما البعض، على غرار التعاون بين الاتحاد الأوروبي والاتحاد الإفريقي الذي يكمل التعاون الثنائي بين الدول الأوروبية والدول الإفريقية، وهذا يفرض درجة عالية من الثقة، ومن حسن التنسيق والتعاون، كما يتطلب إرادة سياسية للدول العربية لتجنب أي خيارات تضر بمصالح بعضها البعض. يمكن القول، في هذا السياق: إن التعاون الخليجي-المغربي في إفريقيا يشكِّل مثالًا للاقتداء، بينما يشكِّل التنافس المغربي-الجزائري المثال الذي ينبغي تجنبه. ويمكن في حالة تفعيل المؤسسات العربية-الإفريقية المشتركة، وتبني مشاريع مشتركة تعود بالمنفعة المتبادلة على العرب والأفارقة، أن تسهم في بلورة نموذج جديد للتعاون العربي-الإفريقي.

بيد أن كل ذلك لا يمكن الوصول إليه بدون توافر الإرادة السياسية لدى العرب والأفارقة معًا. لقد شكلت الرغبة في التحرر المشترك من مخلفات الاستعمار الغربي والاستعمار الصهيوني الدافع الرئيسي نحو وضع أسس التعاون بينهما في قمة القاهرة، سنة 1977، ويمكن في حالة توافر الإرادة السياسية مرة أخرى أن تكون تحولات النظام الدولي القائم، الذي يشهد صراعًا قويًّا بين القوة المهيمنة والقوى الدولية الكبرى، حافزًا جديدًا للتعاون النافع بين العرب والأفارقة، بدل الاستمرار في الوضع الراهن، أي دفع فاتورة الحرب الباردة المرتقبة بين أميركا والغرب من جهة، والصين وروسيا من جهة أخرى.