في بداية أكتوبر الجاري، أفرجت فنزويلا عن سبعة أمريكيين، بينهم خمسة مديرين تنفيذيين بشركات نفطية، مقابل اثنين من أقارب الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو المسجونين في الولايات المتحدة، اعتُقلا عام 2015 بتهم تتعلق بالمخدرات، وهي واحدة من أكبر عمليات الإفراج الجماعي عن الأمريكيين المحتجزين في الخارج مؤخراً؛ ما يجعل البعض يعتقد أن هذا التبادل قد يمثل ذوباناً للجليد في العلاقات المتوترة بين واشنطن وكاراكاس، خاصة بعد قطع العلاقات الدبلوماسية بينهما منذ يناير 2019، وفرض الأولى عقوبات على حكومة مادورو في الوقت الذي ضغطت فيه واشنطن لإجراء مفاوضات بين مادورو وخوان جوايدو رئيس الجمعية الوطنية السابق، الذي تعتبره الولايات المتحدة الرئيس الشرعي المؤقت لفنزويلا.
دوافع الانفتاح
في ظل تصاعد حدة التوترات العالمية، من جراء التطور المستمر للحرب الأوكرانية وتداعياتها على الاقتصاد العالمي، تسعى كل من الولايات المتحدة وفنزويلا إلى إيجاد موطئ قدم لتحسين العلاقات المشتركة؛ فخلال الشهور الماضية، وبالتحديد في شهر مارس الفائت، أجرى وفد أمريكي يضم مسؤولين كباراً من وزارة الخارجية الأمريكية والبيت الأبيض زيارة رسمية إلى فنزويلا لمناقشة العلاقات بين الدولتين، وخرجت المتحدثة باسم البيت الأبيض حينها جين ساكي في حوار مع مجموعة من الصحفيين، يوم 7 مارس 2022، لتؤكد أن "هدف الرحلة التي أجراها مسؤولون في الإدارة إلى فنزويلا، هو مناقشة مجموعة من القضايا منها الطاقة وأمنها". وبالتزامن مع هذه الزيارة أطلقت فنزويلا سراح الأمريكيين جوستافو كارديناس وجورج فرنانديز.
واستمرت هذه المؤشرات على مدار الشهور التالية لتلك الزيارة وصولاً إلى الإعلان في شهر أكتوبر الجاري، عن إطلاق فنزويلا سراح سبعة أمريكيين، بينهم خمسة مديرين تنفيذيين بشركات نفطية، مقابل اثنين من أقارب الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو المسجونين في الولايات المتحدة. وفي هذا الصدد، يمكن القول إن هذا الانفتاح في العلاقات يرتبط بعدد من الدوافع الرئيسية المتمثلة فيما يلي:
1- تطوير العلاقات الاقتصادية بين الدولتين: يستحوذ البعد الاقتصادي على مساحة معتبرة من مسار تقدم العلاقات بين واشنطن وكاراكاس، خاصةً بعد أن تضرر الاقتصاد الفنزويلي كثيراً من القطيعة مع واشنطن؛ حيث كانت الولايات المتحدة أكبر شريك تجاري لفنزويلا، بتبادل تجاري وصل إجمالاً إلى نحو 20 مليار دولار في عام 2018، وكان الميزان التجاري حينها في صالح فنزويلا بمقدار 7.5 مليار دولار، بيد أن توتر العلاقات بينهما قد أضعف حجم المعاملات التجارية بينهما حتى وصلت إلى ملياري دولار فقط عام 2021. كما تسعى الشركات الأمريكية ورجال الأعمال إلى زيادة دورها في تطوير العلاقات مع فنزويلا، وخصوصاً في ظل تداعيات الأزمة الأوكرانية؛ فعلى سبيل المثال تسعى شركة النفط شيفرون إلى الحصول على ترخيص أمريكي لاستئناف عملها في فنزويلا؛ ما قد يجعلها تضطلع بدور فعال في اتجاه الانفتاح الأمريكي على النظام الفنزويلي.
2- تعزيز العزلة الدولية المفروضة على روسيا: لا تنفصل التحركات الأمريكية الراهنة تجاه فنزويلا عن معطيات الحرب الأوكرانية ومحاولات الولايات المتحدة والدول الأوروبية، فرض عزلة دولية على روسيا؛ فالتقارب الأمريكي مع كاراكاس قد يساعد على إبعادها عن موسكو التي باتت من أهم حلفائها في السنوات الماضية، بيد أن كاراكاس عبرت عن درجة من التماهي مع التحركات الروسية تجاه الأزمة الأوكرانية؛ حيث ألقت فنزويلا اللوم على الولايات المتحدة وحلف الناتو في الأزمة بأوكرانيا.
3- محاولة تحجيم العلاقات الإيرانية–الفنزويلية: تستهدف الولايات المتحدة أيضاً من تقاربها مع فنزويلا تحجيم العلاقات الإيرانية–الفنزويلية المتصاعدة خلال السنوات الماضية، وهي العلاقات التي انطوت على تعاون اقتصادي وسياسي؛ فعلى سبيل المثال، أنشأ البلدان بعض الشركات المشتركة مثل شركة تصنيع السيارات “بينيروتو”، ومصنع للأسمنت، ناهيك عن تنسيق المواقف السياسية بينهما في ظل ما يمكن أن نطلق عليه “تحالف الخصوم”، وعادةً ما يصف مسؤولو الدولتين العلاقات بينهما بالعلاقات الاستراتيجية.
4- تنويع مصادر الطاقة الغربية: يشكل ملف النفط، وتنويع مصادر الطاقة، واحداً من أهم دوافع الانفتاح الأمريكي الراهن على فنزويلا؛ فقد كشفت الأزمة الأوكرانية عن ضرورة تقليل اعتماد الدول الغربية على النفط والغاز الروسيين، ومن ثم البحث عن مصادر بديلة. وربما تكون فنزويلا واحدة من المصادر المهمة في هذا السياق، خاصة أنها تمتلك أكبر احتياطي نفطي في العالم بإجمالي نحو 304 مليارات برميل؛ لذا طالبت بعض الأصوات داخل الولايات المتحدة باللجوء إلى فنزويلا مصدراً بديلاً للنفط الروسي. ومن ناحيته أبدى الرئيس الفنزويلي أيضاً تفهمه لأهمية النفط في العلاقات بين فنزويلا والدول الغربية، موضحاً أن النفط الفنزويلي متاح لمن يريد شراءه، سواء كان مستثمراً من آسيا أو أوروبا أو الولايات المتحدة، خاصة في ظل تداعيات الحرب الأوكرانية.
5- صعوبة إبعاد “مادورو” عن السلطة: فقد راهنت واشنطن خلال السنوات الماضية على آلية محاولة إبعاد مادورو عن السلطة، ولكن يبدو أن هذا الرهان لم يكن واقعياً؛ فقد بدا الرئيس الفنزويلي قادراً على التكريس لسلطته داخلياً من خلال عدد من الأدوات، قد يكون أهمها الحفاظ على شبكة من الولاءات داخل الجيش، الذي يعتبر الداعم الرئيسي له، من خلال تعيين ضباط حاليين أو سابقين في الجيش لرئاسة بعض الوزارات، والتعامل مع مهام توزيع الإمدادات الغذائية والتموين على المواطنين، فضلاً عن مساهمة الأوضاع الاقتصادية المتردية في إعطاء نظام مادورو مزيداً من النفوذ على الطبقات الفقيرة، من خلال التوسع في برامج الحماية الاجتماعية، مثل المساعدات الغذائية الشهرية، لتصبح هذه الطبقات أكثر اعتماداً على أي مساعدات يمكنهم الحصول عليها من الوكالات الحكومية؛ ولذلك ليس أمام الإدارة الأمريكية سوى التفاوض مع النظام الفنزويلي الحالي، خاصة بعد فشل المحاولات السابقة للانقلاب عليه.
عوائق رئيسية
لا يزال التقارب الأمريكي–الفنزويلي مرتهناً بتجاوز الجانبين خلافتهما السابقة؛ حيث إن هناك تحديات متعددة تقف حائلاً أمام تحسن وتطور علاقاتهما الثنائية، ومن أبرزها:
1- المشروطية الأمريكية لرفع العقوبات عن كاراكاس: لقد حددت الإدارة الأمريكية عدداً من الاشتراطات الضرورية لرفع العقوبات عن فنزويلا، وإقامة علاقات إيجابية معها، ومنها تأكيد حق التطلعات الديمقراطية للشعب الفنزويلي، لا سيما الاستمرار في عملية إطلاق سراح السجناء السياسيين، وخاصة الأمريكيين، فضلاً عن ضرورة إحراز السلطة الحاكمة تقدماً ذا مغزى في المفاوضات مع المعارضة لمناقشة الشروط اللازمة لإجراء انتخابات رئاسية حرة ونزيهة في عام 2024، وهو ما صرح به المتحدث باسم مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض أدريان واتسون، بعد إتمام صفقة تبادل الأسرى الأخيرة بين الجانبين، مؤكداً أن الولايات المتحدة ليس لديها خطط لتغيير سياسة العقوبات المفروضة على فنزويلا دون اتخاذ خطوات بناءة من الرئيس الفنزويلي لاستعادة الديمقراطية.
بيد أن واشنطن قد توصلت أيضاً مع حكومة كاراكاس وبعض شخصيات المعارضة الفنزويلية إلى اتفاق من شأنه أن يحرر مئات الملايين من الدولارات من أموال الدولة الفنزويلية المجمدة في البنوك الأمريكية لدفع فاتورة واردات الأغذية والأدوية ومعدات شبكة الكهرباء المنهارة في البلاد، ولكن المسؤولين الأمريكيين حذروا من أن الاتفاق قد يفشل؛ لأنه مرهون باستئناف كبار مساعدي مادورو المحادثات مع المعارضة.
2- تصاعد الانتقادات الداخلية للإدارة الأمريكية: أفضى الانفتاح الأمريكي على النظام الفنزويلي إلى تصاعد حدة الانتقادات الداخلية لإدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، وهي الانتقادات التي تجاوزت الانتماءات الحزبية؛ إذ صدرت انتقادات من شخصيات سياسية محسوبة على الحزبين الجمهوري والديمقراطي ضد المحادثات الأمريكية الفنزويلية؛ حيث يرون أن المجتمع الدولي قد اجتمع لرفض الهجوم العسكري على أوكرانيا من قبل روسيا، ولكن جهود إدارة بايدن لتوحيد العالم بأسره ضد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لا ينبغي تقويضها من خلال دعم دكتاتور آخر متهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في كاراكاس؛ فالتطلعات الديمقراطية للشعب الفنزويلي، شأنها في ذلك شأن تصميم وشجاعة الشعب الأوكراني، وتساوي قيمتها أكثر من بضعة آلاف من براميل النفط.
3- صعوبة تخلي فنزويلا عن روسيا: ثمة علاقات تاريخية تجمع بين مادورو وبوتين، وهي العلاقات التي ترتبط بأبعاد اقتصادية وسياسية وكذلك بأبعاد عسكرية من خلال مبيعات الأسلحة الروسية لفنزويلا. وهكذا، قد تفرض هذه العلاقات ضغوطاً على مسار المحادثات بين واشنطن وكاراكاس، وخصوصاً أن الأولى تطلب من النظام الفنزويلي تحجيم العلاقات مع موسكو، وإدانة الحرب في أوكرانيا علناً، وهو ما قد يصعب تحقيقه في ظل العلاقات الاستراتيجية بين روسيا وفنزويلا.
4- ضعف إمكانيات الإنتاج النفطي الفنزويلي: تشكك المعارضة الفنزويلية في إمكانية تقديم فنزويلا بديلاً للنفط الروسي بالنسبة إلى الولايات المتحدة والدول الغربية؛ فمن وجهة نظر أطراف عديدة في المعارضة فإن كاراكاس قادرة على إنتاج نحو 800 ألف برميل فقط يومياً – وهو جزء ضئيل مقارنة بإنتاج روسيا – وقد خصصت بالفعل الكثير منه للصين وكوبا؛ لذا من المفترض أن يعمل الجانبان على سرعة حل الخلافات القائمة بينهما، من أجل تسريع وتيرة عودة الشركات النفطية الأمريكية والأوروبية للعمل مرة أخرى في فنزويلا؛ لتعزيز قدراتها الإنتاجية من النفط، وتصديره إلى الأسواق الأوروبية المتعطشة إليه، في ظل ضعف الإمدادات الروسية.
خلاصة القول: يظل مستقبل المحادثات الأمريكية–الفنزويلية مفتوحاً على سيناريوهات عديدة، ومع ذلك فإن مدى نجاح هذه المحادثات مرتهن بعدد من العوامل الرئيسية، في مقدمتها قدرة الإدارة الأمريكية على التسويق للعلاقات الجديدة مع النظام الفنزويلي، وخصوصاً أن هناك انتقادات داخل الولايات المتحدة لهذه المحادثات، وثانيها بدء نظام مادورو جولة مفاوضات جادة مع المعارضة، بهدف التوافق على إجراء انتخابات حرة ونزيهة عام 2024، كشرط أساسي لتخفيف العقوبات الأمريكية المفروضة على كاراكاس، لتتبعها عودة الاستثمارات الأمريكية والأوروبية إلى فنزويلا، خاصة في مجال النفط؛ من أجل إنعاش الاقتصاد الفنزويلي، وثالثها نجاح الدول الغربية في فك التقارب الفنزويلي مع كل من روسيا وإيران.