اتفقت مجموعة أوبك بلس، في اجتماعها يوم 5 أكتوبر في فيينا، على خفض الإنتاج النفطي بواقع مليوني برميل يومياً، وهو ما يعادل 2% من الناتج الإجمالي العالمي، وستكون هذه المرة هي الأولى التي تخفض فيها “أوبك بلس” أهداف إنتاج النفط منذ أبريل عام 2020. وقد صرح تحالف الأوبك بلس بأن خفض الإنتاج سيدخل حيز النفاذ في نوفمبر المقبل من العام الجاري، وهو ما اعتبره التحالف خطوة ضرورية لتحقيق الاستقرار في أسعار الطاقة العالمية. وقد لاقى ذلك القرار تأييداً من شريحة واسعة من الدول المصدرة للبترول، فيما أثار امتعاض الحكومات الغربية، لكونه يأتي في توقيت تعاني فيه هذه الحكومات من أزمة طاقة متضخمة، خلفت آثارها على مختلف القطاعات بدولها.
أبعاد القرار
جاء قرار الأوبك بخفض الإنتاج النفطي، مدفوعاً بعدد من المبررات، نتناولها فيما يأتي:
1- تحقيق الاستقرار في أسعار الطاقة العالمية: علقت مجموعة أوبك بلس، في بيان لها، على أهمية تلك الخطوة في تحقيق الاستقرار في أسعار الطاقة العالمية بعد الانخفاض المستمر منذ بداية الصيف؛ فبحسب الأوبك، لا بد من أن تتوقف أسعار مضخات البنزين عن الانخفاض، وهو ما لن يتحقق إلا بخفض الإنتاج من أجل تحفيز سعر النفط على الصعود مرة أخرى، كما ذكر وزير الطاقة السعودي عبد العزيز بن سلمان، أن قرار مجموعة “أوبك+” بخفض الإنتاج بمليوني برميل يومياً، هو رسالة حذر إلى الأسواق بسبب حالة عدم اليقين. وقد جاء ذلك القرار صادماً للولايات المتحدة، رغم ضغط إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن من أجل مواصلة الإنتاج بالمستويات الحالية أو أعلى منها، ومساعيها لإقناع السعودية بذلك، في خلال زيارة بايدن إلى السعودية في يوليو الماضي من العام الجاري.
2- التخفيضات الحقيقية ستكون أقل من مليوني برميل: بحسب أمير حسين زمانينيا محافظ إيران لدى أوبك، فإن خفض مليوني برميل يومياً سيتم قياسه بالتناسب المشترك بين الأعضاء؛ إذ سيتطلب ذلك في نهاية الأمر من ثمانية بلدان فقط، الحد من الإنتاج الفعلي وتقديم تخفيض حقيقي بنحو 900 ألف برميل يومياً، وفقًا لحسابات "بلومبرغ" بناءً على أرقام إنتاج سبتمبر؛ وذلك فيما قدر وزير الطاقة السعودي عبد العزيز بن سلمان أن الخفض الحقيقي في إنتاج النفط سيتراوح بين مليون و1.1 مليون برميل يومياً، مع الأخذ في الاعتبار أن بعض الدول الأعضاء في تحالف “أوبك+” كانت تنتج أقل من حصتها المقررة.
3- القلق من التعرض للركود الاقتصادي: جاء قرار أوبك بلس في سياق محفوف بالمخاوف لدى الدول المصدرة للبترول، بشأن حدوث ركود وشيك في أسعار النفط؛ وذلك بعد انخفاضه من 120 دولاراً للبرميل خلال الصيف إلى أقل من 80 دولاراً، ومع استمرار الأسعار في الانخفاض، فإن من شأن ذلك أن يهدد اقتصادات الدول المصدرة للبترول، ويزعزع الاستقرار الاجتماعي بها.
4- زيادة الإيرادات لجميع أعضاء أوبك بلس: أراد أعضاء أوبك بلس من القرار، زيادة الإيرادات عبر تحفيز أسعار النفط مجدداً، بما في ذلك روسيا وإيران. وفي هذا الصدد أكد أعضاء الأوبك بلس، كون القرار نابعاً من أسباب فنية لا علاقة لها بالسياسة، وأنه لا يقف وراءه أي نية ضد بايدن ودولته، وإنما القرار من أجل ضبط الأسعار فحسب؛ إذ تعكس التخفيضات الجديدة، كيفية تأثر أسواق النفط العالمية بالأزمات المتلاحقة في السنوات الأخيرة.
5- استعادة مصداقية الأوبك بلس بالسيطرة على أسعار النفط: تضم مجموعة أوبك بلس، ما مجموعه 23 دولة، تنتج 40% من نفط العالم، ويتمثل هدفها بالأساس في الإبقاء على أسعار النفط مرتفعة ومستقرة، ورغم ذلك فقدت المنظمة مصداقيتها بعد شهور من تقلبات السوق وعدم اضطلاع المنظمة بدور واضح في ضبط الأسعار، ليأتي القرار في محاولة لاستعادة مصداقية أوبك بلس، واستعادة سيطرته على أسعار النفط من جديد.
6- الاستعداد لأي أزمات طارئة في المستقبل: أشارت أطراف أوبك بلس إلى أن قرار تخفيض إنتاج النفط يستهدف الاستعداد لأي أزمات طارئة في سوق النفط، فقد عبرت الرياض، بصورة متكررة خلال الفترة الماضية، عن قلقها بشأن فائض العرض على المدى القصير، وبالرغم من امتلاك إيران وروسيا طاقة فائضة، لكن العقوبات تحد من أسواقهما. وبدلاً من الحفاظ على الإنتاج الآن، ناهيك عن زيادته، تريد السعودية الاحتفاظ ببعض الإنتاج في حالة حدوث أزمة محتملة في المستقبل، مثل تأثر صادرات النفط الروسية بعد دخول الحد الأقصى لأسعار مجموعة السبع (G-7) حيز التنفيذ في ديسمبر القادم. وتعتقد السعودية أيضاً أنها ستحتاج إلى الحفاظ على بعض الإنتاج لتلبية الطلب المتزايد من الصين بالتزامن مع بدء تخفيف بكين سياسات الإغلاق المتعلقة بمواجهة كورونا. بشكل مجمل، فإن السعودية تجادل بأن الذين يطالبون بزيادة الإنتاج يركزون بإفراط على ديناميكيات الأسعار بدلاً من رؤية الحالة الأوسع لسوق النفط.
تداعيات رئيسية
للقرار الصادر عن مجموعة “أوبك بلس” تداعياته المختلفة، على اقتصاد العديد من الدول حول العالم، والاقتصاد العالمي ككل، نستعرض أبرزها فيما يأتي:
1- احتمالية تخفيف الضغوط الاقتصادية المفروضة على روسيا: من المؤكد أن تكون روسيا أول المستفيدين من ذلك القرار؛ إذ من شأن خفض الإنتاج أن يزيد سعر النفط، بما سيمكن موسكو من بيع النفط بأسعار أعلى في السوق العالمية، وهو ما سيدر المزيد من الإيرادات لتمويل مجهودها الحربي وتعبئة القوات الروسية، ومن ثم تقوية جبهتها في الحرب الأوكرانية. إضافة إلى الحد من تأثير العقوبات الأمريكية والأوروبية على الاقتصاد الروسي؛ حيث من المتوقع أن يؤدي تحرك تحالف “أوبك بلس” الأخير، إلى زيادة الضغوط التضخمية في الولايات المتحدة وأوروبا، فضلاً عن تقويض الجهود المبذولة لدعم أوكرانيا.
2- تباطؤ حاد في النمو الاقتصادي في الدول الأوروبية: وذلك في الوقت الذي تكافح فيه القارة الأوروبية التداعيات السلبية لأزمة الطاقة الممتدة منذ مطلع عام 2021، على قطاعاتها المختلفة كقطاع الاتصالات والعقارات والتصنيع، بجانب ارتفاع معدلات التضخم إلى مستويات قياسية، نتيجة ارتفاع أسعار العديد من السلع وعلى رأسها الطاقة. فإن ذلك القرار يمثل ضربة قاصمة للاقتصاد الأوروبي؛ إذ من المرجح مع ارتفاع الأسعار الشديد أن يقلل من فرص النمو الاقتصادي في القارة.
3- ارتفاع أسهم شركات الطاقة وأسعار الغاز في الولايات المتحدة: وفق مارك سوبيل المسؤول السابق بوزارة الخزانة الأمريكية، فإن قرار أوبك بلس، ينذر بوضوح باحتمال ارتفاع أسعار النفط؛ ما يعزز فرص الركود في الاقتصاد العالمي ويزيد مخاطر عدم الاستقرار المالي العالمي.
فعلى خلفية القرار، ارتفعت أسهم شركات الطاقة بشكل طفيف، ومن المرجح أن ترتفع أسعار الغاز في الولايات المتحدة بنحو 10% في معظم أنحاء الدولة؛ وذلك وفقًا لـ”كلاوديو جاليمبرتي” النائب الأول للرئيس لشؤون التحليل في شركة “إنرجي ريستاد” للاستشارات، وهو ما يرجح أن يتأثر المستهلكون الأمريكيون بفعل ارتفاع أسعار الغاز؛ ما قد يعرض مساعي إدارة بايدن إلى خفض تكاليف الغاز، إلى الخطر قبل انتخابات التجديد النصفي للكونجرس لعام 2022.
4- زيادة الطلب من جراء نقص المعروض: مثل خفض أوبك بلس الإنتاج الجماعي بقدر أكبر من التخفيض المنفذ من قبل منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) وحلفائها منذ عام 2020، ومن المقرر أن يؤدي ذلك إلى خفض المعروض بنحو نصف حجم الرقم الرئيسي. بيد أن العديد من الدول الأعضاء تضخ بالفعل أقل بكثير من حصصها؛ ما يعني أنها ستكون بالفعل ملتزمة بحدودها الجديدة دون الحاجة إلى خفض الإنتاج، فيما ستقوم نحو ثمانية بلدان فقط بالحد من الإنتاج الفعلي وتقديم تخفيض حقيقي يتراوح بين مليون و1.1 مليون برميل يومياً بحسب تقديرات وزير الطاقة السعودي.
5- ارتفاع أسعار الطاقة وتصاعد معدلات التضخم عالمياً: من المرجح أن يؤدي نقص المعروض من النفط، مقابل زيادة الطلب، إلى ارتفاع في أسعار الطاقة، في وقت يكافح فيه العالم التضخم المدفوع بتكاليف الطاقة المرتفعة، وهو ما اعتبره الرئيس الأمريكي جو بايدن، في بيان له عقب القرار، إضراراً بالاقتصاد العالمي.
6- المزيد من تشديد السياسة النقدية للبنوك المركزية: من المحتمل أن تهرع الكثير من دول العالم إلى مزيد من تشديد السياسة النقدية، ورفع أسعار الفائدة، لكبح جماح التضخم المتوقع من جراء قرار الأوبك بلس، ولرفع تكاليف الإقراض بغرض خفض السيولة في الأسواق. وهو بالطبع ما سيزيد أعباء الرهون العقارية، وقد يدفع المشترين حول العالم إما إلى الاستمرار في مقاطعة دفع الرهون العقارية لشركات التطوير العقاري كما الحال في الصين، أو عزوف المشترين المحتملين عن ضخ أموالهم في ذلك القطاع حتى استقرار السوق. كما قد يؤدي تشديد البنوك المركزية سياستها النقدية حول العالم، إلى ارتفاع سعر الدولار مقابل انخفاض قيمة العملات الوطنية في العديد من الدول.
7- مخاطر تآكل الحصة السوقية للأوبك: لا يخلو قرار الأوبك بلس من المخاطرة؛ إذ قد يؤدي خفض إنتاج النفط، الذي من المفترض أن يستمر حتى نهاية عام 2023، إلى تآكل الحصة السوقية لأوبك بلس. ويدلل على ذلك أن حصة أوبك بلس لم تنتعش منذ التخفيضات الضخمة التي أجرتها في عام 2020، لدعم الأسعار وسط الانهيار الجامح في الطلب؛ ما يرجح حدوث المزيد من تآكل الحصة السوقية للأوبك.
8- تقليل قابلية المستهلك للشراء: في نهاية المطاف، قد يؤدي الارتفاع الجامح في أسعار النفط إلى خفض قابلية المستهلك للشراء، بما يكون له ارتداداته العكسية على سوق النفط، وإلحاق المزيد من الأضرار به، وتعريضه لتقلبات عديدة؛ حيث من المرجح أن تتسبب حالة عدم اليقين التي سيولدها ذلك القرار إلى تثبيط عزيمة المستثمرين والمقرضين، وكذلك تقليل السيولة في أسواق النفط، وربما إشعال التوترات الدبلوماسية داخل المنظمة.
إجمالاً، جاء قرار أوبك بلس محاولة لوقف الانخفاض في أسعار الطاقة المستمر منذ الصيف، لحماية السوق من مخاطر الركود الناجمة عن انخفاض الطلب، ومن ثم فإن القرار قرار فني مثلما صرح أوبك، بيد أنه أثار رفضاً واستياءً عارماً من قبل الإدارة الأمريكية والحكومات الأوروبية، في توقيت تواجه فيه تلك الدول تحديات جمة بفعل نقص الطاقة المتزايد، من جراء الضغط الروسي المستمر بورقة الغاز.
إذ من شأن ذلك القرار أن يعمق الأزمة في الداخل الأمريكي والأوروبي، وربما يؤجج الاحتجاجات على حكومات تلك الدول؛ لذا أضحت تلك الدولة بحاجة إلى إعادة التفكير في تعزيز مصادرها المحلية بما في ذلك النفط والغاز والطاقة النووية ومصادر الطاقة المتجددة بما في ذلك طاقة الرياح والطاقة الشمسية، للحفاظ على أمن الطاقة بها.