• اخر تحديث : 2024-04-26 21:42
news-details
قراءات

لماذا تسببت أزمة الطاقة في تصاعد الخلافات الغربية؟


تعصف بأوروبا أزمة طاقة غير مسبوقة منذ نحو نصف قرن جراء خفض روسيا إمداداتها من الغاز والنفط التي كانت أوروبا تعتمد عليها إلى حد كبير في وارداتها لعقود من الزمن من خلال البنية التحتية الضخمة للطاقة المشتركة بين الجانبين، مثل خط أنابيب الغاز نورد ستريم 1؛ ما دفع الولايات المتحدة إلى إعلان التأهب لتزويد القارة الأوروبية بالغاز الطبيعي المسال، باعتبارها أكبر مُصدِّر للغاز الطبيعي المسال في العالم، بيد أن قدرة واشنطن على توفير الغاز محدودة، ولا تسد كل حاجة أوروبا، فضلاً عن أنها تقوم بإمدادها بأسعار مرتفعة للغاية، وهو ما انتقده قادة أوروبا خلال اجتماعهم في العاصمة التشيكية براج، في إطار قمة الاتحاد الأوروبي غير الرسمية، التي كشفت عن اتساع هوة الخلافات بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية، وفي الوقت ذاته، تصاعُد الخلافات البينية الأوروبية في ظل ضعف التنسيق المشترك في وضع آليات رشيدة لمعالجة الأزمة الراهنة.

أبعاد الخلاف

في ظل التطور المستمر للحرب الأوكرانية وتداعياتها على الاقتصاد العالمي، تواجه الدول الغربية العديد من الخلافات البينية نتيجة عدم توحُّد صفوفها وعدم تضامنها لإدارة أزمة الطاقة التي تتعرض لها مؤخراً؛ الأمر الذي نتج عنه اتهامات متبادلة بين الأطراف المختلفة، فثارت بعض التكهنات حول وجود خلافات غربية لإدارة تلك الأزمة. ولعل من أبرز أبعاد هذه الخلافات ما يلي:

1- انتقاد ارتفاع سعر الغاز المُورَّد لأوروبا: في قمة براج الأخيرة، استنكرت العديد من الدول الأوروبية قيام الدول الصديقة، خاصةً الولايات المتحدة والنرويج، ببيع الغاز لها بـأسعار خيالية، متهمةً الدولتَين باستغلال الصراع بشكل غير مباشر لتحقيق أرباح هائلة من تصدير الغاز، على الرغم من ضرورة وجود تضامن مُتبادَل بين الجماعة الغربية لمواجهة الضغوط الروسية في حرب الطاقة التي تشنها على أوروبا، كما جاء الغضب الأوروبي الشديد أيضاً من عدم مراعاة الدول الصديقة ارتفاع تكاليف الإنتاج المُبالَغ فيه على خلفية ارتفاع أسعار الطاقة؛ إذ كانت الطاقة في أوروبا تكلف ما يقرب من 2% من الناتج المحلي الإجمالي في الأوقات العادية، لكنها ارتفعت إلى ما يُقدَّر بنحو 12% بعد الحرب في أوكرانيا؛ الأمر الذي يعني أن العديد من الصناعات في جميع أنحاء أوروبا ستعمل على تقليص عملياتها أو إغلاقها تماماً، خاصةً الصناعات المُعرَّضة بقوة لارتفاع أسعار الغاز الطبيعي، مثل صناعات الألمنيوم والأسمدة ومصاهر المعادن والزجاج، ومن ثم حدوث ركود عميق للاقتصاد الأوروبي خلال السنوات القادمة.

2- تنامي مؤشرات التخبط الأوروبي: يسعى قادة الاتحاد الأوروبي إلى خفض أسعار الغاز الطبيعي قبل حلول فصل الشتاء، لكن المناقشات السياسية حول كيفية القيام بذلك لا تزال متعثرة نتيجة تخبط الأفكار المطروحة في ذات الشأن؛ فبينما تدعو ألمانيا الاتحاد الأوروبي إلى تنسيق مشترياته من الغاز لخفض الأسعار؛ حتى لا تُزايد دول الاتحاد بعضها على بعض فترفع أسعار السوق العالمية، مؤكدةً أن قوة السوق الأوروبية هائلة ومؤثرة في سوق الطاقة العالمية، إلا أن فرنسا والعديد من الدول الأوروبية، من جانبها، تخوفت من الخطة الألمانية لتدبير 200 مليار يورو لمواجهة الارتفاع المُبالَغ في أسعار الطاقة.

إذ تخشى تلك الدول من تجدد التفاوت الاقتصادي الذي نجح الاتحاد الأوروبي في تقليصه خلال جائحة كورونا؛ حيث تعتبر فرنسا وبعض أعضاء المفوضية أن البلدان الأوروبية التي تعاني من مديونية مرتفعة لا يمكنها إبداء السخاء الذي تبديه ألمانيا (أكبر قوة اقتصادية في الاتحاد الأوروبي)، وهو ما قد يسبب عدة اضطرابات في السوق الموحدة، بيد أن المستشار الألماني أولاف شولتز قد برَّر التدابير التي تعتزم برلين اتخاذها، بما في ذلك تحديد سقف لأسعار الطاقة، بأنها من أجل مساعدة المواطنين والشركات على تحمل أعباء ارتفاع أسعار البنزين وفواتير الكهرباء.

3- التباين الأوروبي حول تسعير الغاز الروسي: شكَّل الموقف الأوروبي من الغاز الروسي أحد محفِّزات تأزُّم الموقف الأوروبي؛ فمنذ بداية الحرب الأوكرانية عبَّرت بعض الدول عن موقف مُعارِض، أو مُحايِد على أقل تقدير، تجاه التوسع في فرض العقوبات والعزلة على موسكو. ووصلت الخلافات إلى مرحلة أكثر تعقيداً في اجتماع وزراء الطاقة في الاتحاد الأوروبي في بروكسل، خلال شهر سبتمبر الماضي، حينما أخفقت الدول الأوروبية في التوصل إلى اتفاق حول مقترح تحديد سقف لأسعار الغاز الروسي، في ظل اعتراض بعض الدول، مثل المجر وسلوفاكيا والنمسا، على فرض سقف على الغاز الروسي خشيةً من رد فعل موسكو.

4- تصاعد الضغط الداخلي لخفض تصدير الغاز الأمريكي: تشهد الأسر الأمريكية ارتفاعاً كبيراً في فواتير التدفئة المنزلية، بل من المتوقع أن يرتفع متوسط ​​تلك الفواتير في الولايات المتحدة بنسبة 17.2% عن الشتاء الماضي؛ ما قد يُعرِّض ملايين الأسر ذات الدخل المنخفض لخطر التخلف عن سدادها، وفقاً لتقرير صدر مؤخراً عن جمعية مديري مساعدة الطاقة الوطنية (NEAD)؛ الأمر الذي يضع مزيداً من الضغوط على الإدارة الأمريكية، خاصة مع قرب موعد انتخابات التجديد النصفي، وربما يدفعها إلى خفض الكميات المُصدَّرة من الغاز المسال للخارج، وتحديداً الكميات المُصدَّرة إلى الاتحاد الأوروبي الذي تجاوز الكمية المستهدفة من التصدير.

فبعد أن تعهَّد الرئيس الأمريكي جو بايدن بتسليم 15 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا عقب التدخل الروسي في أوكرانيا، تم تصدير أكثر من 30 مليار متر مكعب إلى الاتحاد الأوروبي منذ مارس الماضي؛ لذلك تواجه الإدارة الأمريكية ضغوطاً داخلية من أجل خفض التصدير لزيادة المعروض المحلي من الغاز، فتنخفض أسعاره وتكاليف فواتير الكهرباء؛ الأمر الذي قد يُعقِّد من طبيعة العلاقات الأمريكية–الأوروبية في مسار إدارة ملف أزمة الطاقة.

تداعيات محتملة

ثمة تداعيات محتملة للخلافات الغربية حول إدارة أزمة الطاقة العالمية، وهي التداعيات التي من المتوقع أن تزداد حدتها بصورة أكبر في ظل تعقُّد مسار الحرب الأوكرانية، لا سيما التلاعب الروسي بالطاقة من أجل الضغط على الدول الأوروبية المتعطشة للطاقة لتخفف من دعمها للجانب الأوكراني. ويمكن تناول أبرز تلك التداعيات على النحو التالي:

1- الارتفاع الكبير المحتمل في أسعار الغاز: من المتوقع استمرار الارتفاع المُبالَغ فيه في أسعار الغاز داخل السوق الأوروبية، على خلفية اقتراب أسعار الكهرباء والغاز الطبيعي في أوروبا الآن من 10 أضعاف متوسطها في العقد الذي يسبق عام 2020، نتيجة تداعيات الحرب الروسية–الأوكرانية. ويُرجَّح أن يستمر التزايد في الأسعار مع استمرار الحرب وتعقُّد مسارها، لا سيما أن الحرب أدت إلى الانخفاض الهائل في كميات الغاز الروسي المُورَّدة لأوروبا بمقدار نحو 50% على أساس سنوي منذ بداية عام 2022.

2- الانكماش الملحوظ في الاقتصاد الأوروبي: من المتوقع أن تلقي أزمة الطاقة العالمية بظلالها على القطاع الصناعي (أكبر القطاعات الاقتصادية في أوروبا) نتيجة الارتفاع المستمر في أسعار النفط والغاز ومعدلات التضخم وأسعار الفائدة؛ ما ينذر بركود اقتصادي عنيف للقارة خلال العام الجاري؛ حيث تشير توقعات البنك الدولي الصادرة في يونيو الماضي إلى انكماش اقتصاد أوروبا وآسيا الوسطى بمعدل 2.9% في عام 2022. ويأتي ذلك على خلفية تدهور النشاط الاقتصادي في منطقة اليورو بشكل ملحوظ خلال النصف الثاني من العام ذاته؛ بسبب ضعف سلاسل التوريد، وزيادة الضغوط المالية، وانخفاض ثقة المستهلكين؛ ما سينعكس بدوره سلباً على الاقتصادات الناشئة والنامية في أوروبا وآسيا الوسطى، باعتبارها ذات ارتباط وثيق باقتصاد منطقة اليورو.

لذا تسعى الدول الأوروبية بإصرار إلى تخزين ما يكفيها من الغاز مع اقتراب فصل الشتاء، وسط تزايد المخاوف بشأن كميات مخزون الغاز التي ستلبي احتياجات المنازل والشركات والمصانع الأوروبية، في إطار خطتها للتخفيف من وطأة انكماش اقتصاداتها خلال العام الجاري.

3- بحث المنتجين عن أسواق بديلة للتصدير: قد ينتج عن التحرك الأوروبي لوضع سقف لأسعار الغاز المُورَّد لأوروبا، بحث منتجي الغاز الطبيعي والمسال عن أسواق بديلة لتصدير الغاز إليها، بدلاً من التصدير للأسواق الأوروبية بسعر أقل من السعر العالمي، خاصةً في ظل استغلال هؤلاء المنتجين الأسعار العالمية من أجل تعظيم إيراداتهم الخارجية، بيد أنه رغم هذا التخوف فإن هناك 15 دولة أوروبية منها فرنسا وبلجيكا وإيطاليا وإسبانيا وبولندا استمرت في المطالبة بوضع سقف عام لأسعار الغاز، وهو ما يخشاه البعض أيضاً خوفاً من أن يؤدي ذلك إلى انقطاع التيار الكهربائي وإغلاق المصانع وحدوث ركود عميق خلال فصل الشتاء في الاقتصادات التي أضعفها بالفعل فيروس كورونا، حال توجه المنتجين لأسواق تصدير بديلة.

4- تزايد الشكوك الأوروبية بشأن المراهنة على الغاز الأمريكي: قامت الولايات المتحدة بتعزيز مكانتها في سوق الطاقة، خاصةً أنها تعد أكبر مُصدِّر للغاز الطبيعي المسال في العالم خلال النصف الأول من العام الجاري، بحسب إدارة معلومات الطاقة الأمريكية؛ حيث حصلت المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي على قرابة 71% من صادرات الولايات المتحدة من الغاز الطبيعي المسال ليصبحا بذلك أكبر مستوردَين للغاز الأمريكي، ليتخطَّيا بذلك أكبر الأسواق الآسيوية المستورِدة من الولايات المتحدة، بيد أنه في ضوء اعتماد أوروبا على الغاز الروسي لسنوات طويلة، تعاني معظم بلدان القارة من عدم وجود بنية تحتية كافية لمعالجة وإسالة الغاز الأمريكي.

فيما يتوقع أن تنخفض صادرات الولايات المتحدة من الغاز الطبيعي المسال بشكل كبير على المدى القصير عقب انفجار مصنع فريبورت لتصدير الغاز المسال في تكساس في يونيو الماضي، لا سيما ضعف القدرة الأمريكية عن تزويد أوروبا بالغاز حتى من قبل هذا الانفجار؛ إذ كان الغاز الطبيعي الأمريكي المسال قد وصل إلى الحد الأقصى من سعته عند 12 مليار قدم مكعبة في اليوم، فضلاً عن عدم وجود أي مشروعات جديدة يمكن أن تزيد من صادرات الولايات المتحدة من الغاز الطبيعي المسال بشكل كبير خلال الفترة الحالية، كما أن المستهلكين والمصانع الأمريكية تواجه تحدياً في مقاومة ارتفاع الأسعار الناجم عن زيادة صادرات الغاز الطبيعي المسال في البلاد.

5- احتمالية استخدام موسكو ورقة الغاز لتفكيك التحالف الغربي: ربما تلجأ موسكو إلى استخدام ورقة الغاز الطبيعي والخلافات الأوروبية–الأمريكية حول أسعار الغاز، من أجل تفكيك التحالف بين الدول الأوروبية والولايات المتحدة، ودلل على هذا التوجه تصريحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال مشاركته في أعمال منتدى "أسبوع الطاقة الروسي"، يوم 12 أكتوبر الجاري، التي هاجم خلالها أسعار الغاز الأمريكي؛ حيث قال إن "سعر الغاز الأمريكي المُقدَّم إلى أوروبا أعلى بكثير، كما أنه غير موثوق به لجهة استقرار الإمدادات". ولم يكتفِ بوتين؛ إذ أبدى استعداده لتزويد الدول الأوروبية بالغاز، وذكر أن "(السيل الشمالي) مشروع اقتصادي تشارك فيه الشركات الروسية والأوروبية على قدم المساواة….. وروسيا مستعدة لمواصلة ضخ الغاز إلى أوروبا عبر (السيل الشمالي-2). كل ما يتعين فعله هو فتح الصنبور".

خلاصة القول: مما لا شك فيه أن ارتفاع أسعار الطاقة العالمية، سوف يؤدي إلى مزيد من الانقسامات في الصفوف الغربية، سواء المنتِجة أو المستهلِكة للغاز والنفط، نتيجة تخبط السياسات المتبعة من مختلف الدول الأوروبية بهدف مواجهة التداعيات الاقتصادية لهذه الأزمة غير المسبوقة منذ نحو نصف قرن، إضافة إلى خشية العديد من الدول الغربية، وخاصةً الولايات المتحدة، من أن الاستخدام الروسي لورقة الطاقة قد يكسر العزم الأوروبي على دعم أوكرانيا، خاصةً في ظل الضغوط الداخلية الأمريكية لتقييد صادرات الغاز للحفاظ على القدرة على تحمل تكاليف الطاقة في الولايات المتحدة، ومن ثم حدوث انخفاضات متتالية في حجم إمدادات الغاز للقارة الأوروبية خلال فصل الشتاء القادم، ومزيد من التعقد في الخلافات الغربية.