بعد مضي ثلاثة أعوام على تعيين الولايات المتحدة لخوان غوايدو رئيسًا مؤقتًا لفنزويلا، خرجت الإدارة الأميركيّة بإجراءات جديدة تشي بتخلّيها عن حليفها الفنزويلي، الذي لن يكون الأخير في قائمة الحلفاء التي ستتخلّى عنهم واشنطن كما شهدت التجارب السابقة مع حلفائها في مختلف أنحاء العالم. إقصاء غوايدو عن المشهد السياسي في فنزويلا جاء بالنّظر إلى مجموعة من الأسباب الداخليّة والخارجيّة، التي تثبت فشل التجربة الأميركيّة في تعيين رئيسٍ ثانٍ للبلاد. القرار الأميركي صدر وبات الآن في عهدة المعارضة الفنزويليّة التي تخلّت عن دعمها لغوايدو، مترقّبةً السقف الزمني الذي حدّدته الإدارة الأميركيّة لرفع الشرعيّة عنه نهائيًا في كانون الثاني/ يناير 2022، ثم الخضوع للأمر الواقع ومحاورة الرئيس الفعلي للبلاد نيكولاس مادورو.
إقصاء غوايدو
تداولت الصحف الفنزويليّة، معلومات عن ثلاثة أحزاب معارضة في فنزويلا (العمل الديمقراطي، والعدالة أولاً، وعصر جديد) قرّرت سحب دعمها للتجربة التي أقرّتها الولايات المتّحدة بقيادة النائب السابق خوان غوايدو. المعارضة عبّرت عن موقفها من خلال وفد لها التقى مع مسؤولين أميركيين في واشنطن.
فيما نقلت "صحيفة فاينانشيال تايمز" البريطانية عن شخصية معارضة "بارزة" تحدثت عن خطط "لإعادة تصميم كل شيء بدون غوايدو كرئيس مؤقت". وبحسب ما ورد، عارض فصيل الإرادة الشعبية بزعامة غوايدو هذه الخطوة. وبدوره، قلّل غوايدو من آراء شخصيات معارضة رفيعة المستوى، مدّعيًا أنه يحتفظ بدعم البيت الأبيض وتعهّد بالبقاء حتى الانتخابات الرئاسيّة المقبلة.
أما عن علاقة واشنطن بقرار المعارضة، فبالإضافة إلى أن الخبر نشرته أولًا صحف أميركية، ثم تلقّفته الصحف الفنزويلية، كشفت وكالة "سي إن إن" أن واشنطن مستعدّة لإلغاء اعترافها بغوايدو كزعيم شرعي لفنزويلا، في كانون الثاني/ يناير المقبل، عندما تبدأ جلسة تشريعيّة جديدة، نقلًا عن "مصدر دبلوماسي" مقرّب من المعارضة الفنزويليّة. وقال مسؤول أميركي لشبكة "CNN": نواصل الاعتراف بالحكومة المؤقتة والفنزويليين الذين يريدون عودة سلمية إلى الديمقراطية. الأمر متروك للحكومة المؤقتة لتقرر ما إذا كانت تريد الاستمرار في دولة يمكن التعرف عليها".
خلفيات وصول غوايدو للسلطة
كان غوايدو هو الوجه العام للمعارضة في فنزويلا منذ أن رفضت الولايات المتّحدة والعديد من الحكومات الأخرى إعادة انتخاب الرئيس نيكولاس مادورو عام 2018. جاء ذلك بعدما شجبت حكومة فنزويلا في 27 أبريل 2017 ميثاق منظمة الدول الأمريكية وأعلنت انسحابها من عضوية المنظمة. وفي آب 2017، تم انتخاب الجمعية الوطنية التأسيسية في فنزويلا لصياغة دستور جديد".
شهد عام 2019 تغيرًا في واقع النظام الديمقراطي في فنزويلا، مع إعلان غوايدو نفسه رئيسًا للجمهورية، مدعومًا فقط بالسلطة والقوة التي تم التعبير عنها في شكل تهديدات وابتزاز ومحاولات ترهيب من قبل الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي. هكذا بدأت حملات إعلامية قوية، تعمل جنبًا إلى جنب مع ضغط دبلوماسي واقتصادي وعسكري وسياسي، للإعلان عن "الإطاحة الوشيكة بمادورو".
فشل التجربة الأميركيّة
الواقع أن خوان غوايدو لم يكن أبدًا "الرئيس المؤقت" لفنزويلا. لم يكن لديه مطلقًا القوة أو السلطة لتغيير أي شيء داخل فنزويلا، وبالتأكيد لم يكن مسيطرًا على حكومة في فنزويلا يمكنها التفاوض مع أي حكومة في العالم. كانت "الرئاسة المؤقتة" لغوايدو خيالًا منذ بدايتها، تم اختلاقها إلى حد كبير من قبل فريق حملة إعادة انتخاب الرئيس ترامب الذي تركزت أعينه بشدة على أصوات الجالية الكوبية الفنزويلية المنفية في فلوريدا". فمنذ عام 2019 كان غوايدو هو المحور الذي تدور حوله جميع أنواع الإجراءات التي تهدف إلى الاستيلاء على السلطة بالقوة. شملت جهود غوايدو المبذولة لإسقاط نظام مادورو والتي فشل فيها: تفكيك القوات المسلحة الوطنية البوليفارية (FANB)، ومحاولة اغتيال الرئيس مادورو، والغزوات البحرية والبرية بالتواطؤ مع حكومة إيفان دوكي الكولومبية ودول أخرى مثل تشيلي والأرجنتين وباراغواي. وبالمثل، كانت هناك تحالفات مع الاتجار بالمخدرات والجريمة المنظمة من أجل إطلاق خطط لزعزعة الاستقرار والتخريب الإرهابي ضد مرافق البنية التحتية الحيوية في البلاد.
وفي شأن فشل وصول غوايدو إلى الحكم، تقول جوليا بوكستون، الأستاذة العالمية بالأكاديمية البريطانية بجامعة مانشستر: "احتجت إدارة ترامب الاتحاد الأوروبي. ودول منظمة الدول الأمريكية للاعتراف بغوايدو كرئيس مؤقت. إلى جانب العقوبات المعوقة كان القصد من ذلك أن يكون بمثابة ضغط ساحق غير عسكري على مادورو. كان على الاستراتيجية أن تحقق هدفها بسرعة - في غضون أسابيع، إن لم يكن أيام، وإلا فقد ينتهي بها الأمر بالضبط حيث تجد الولايات المتحدة وغوايدو نفسيهما اليوم - في طريق مسدود. لم يؤد الاعتراف القانوني بغوايدو إلى إنشاء رئاسة بحكم الأمر الواقع. لم يحصل غوايدو على أي سلطة مؤسسية أو سياسية في فنزويلا، مما أدى إلى تعقيد الشؤون الثنائية للدول التي توقفت عن الاعتراف بمادورو".
فيما يرى ستيف إيلنر، الأستاذ المتقاعد في جامعة أورينت في فنزويلا والمحرر الإداري المساعد الحالي لمجلة وجهات نظر أمريكا اللاتينية: "فقدان خوان غوايدو المستمر للدعم داخل المعارضة الفنزويلية هو نتيجة الفشل المتكرر الذي أظهر نقصًا في الفطنة السياسية: محاولة الانقلاب في 30 أبريل / نيسان 2019، غزو عملية جدعون التي انطلقت من كولومبيا، وسوء إدارة الشركات الفنزويلية في كولومبيا (مونوميروس) والولايات المتحدة (Citgo) التي تم تسليمها إلى حكومة غوايدو الموازية".
التفاوض مع حكومة مادورو
في الوقت نفسه، بدا التمسّك بغوايدو موضع شك على نحو متزايد بالنسبة للسياسيين الأمريكيين. فمنذ الحرب في أوكرانيا والعقوبات الاقتصادية والتجارية الغربية التي تلت ذلك ضد روسيا، نما حافز الولايات المتحدة للقيام بأعمال تجارية مع فنزويلا، الدولة التي تمتلك أكبر احتياطيات نفطية في العالم، بشكل كبير".
اللافت أن الولايات المتحدة هي نفسها الآن تتفاوض مباشرة مع حكومة الأمر الواقع والقانون في فنزويلا بشأن النفط بعدما أدركت أن غوايدو ليس مسؤولاً عن أي شيء وأن مغالطة "رئاسته المؤقتة" مكشوفة تمامًا، كما هو الحال مع الضرر الذي حدث إلى منظمة الدول الأمريكية. فقد كشفت مصادر أن "واشنطن ألمحت إلى أنها قد تخفف العقوبات على فنزويلا إذا عاد مادورو إلى المحادثات مع المعارضة في المكسيك واتخذت خطوات نحو إجراء انتخابات حرة".
في الآونة الأخيرة، وضعت محكمة محليّة في ولاية ديلاوير الأميركيّة جدولًا زمنيًا وإرشادات لـ "عملية تقديم عطاءات تنافسية وقوية" لأسهمPDV Holding . و PDV Holdingهي الشركة الأم لشركة Citgo في الولايات المتحدة المملوكة لشركة النفط الفنزويلية المملوكة للدولة. تمتلك Citgo ثلاث مصافي وشبكة تضم أكثر من 4000 محطة خدمة في جميع أنحاء الولايات المتحدة. في عام 2019، سلمت الحكومة الأمريكية Citgo إلى المعارضة الفنزويلية بقيادة غوايدو. إن اعتراف الولايات المتحدة بـ "الرئيس المؤقت" الذي نصّب نفسه الزعيم الشرعي للبلاد، مكّن بالتالي زعيم البرلمان آنذاك من السيطرة على أصول الدولة الفنزويلية في الولايات المتحدة.
ساهمت حقيقة أن "الحكومة المؤقتة" في فنزويلا تعرض أصول الدولة الرئيسة في الخارج للخطر في فقدان سمعتها. خاصة يعدما اتُهم غوايدو وموظفوه بالإهمال في إجراءات المحكمة، وافتقاره إلى الشفافيّة في التعامل مع الدائنين وتضارب المصالح. وفي مقابل ذلك، تحاول الولايات المتحدة جذب حكومة نيكولاس مادورو على إعادة الدخول في محادثات مع القطاعات اليمينية كشرط مسبق لأي تغييرات في سياسة العقوبات واسعة النطاق. فمنذ عام 2017، فرضت وزارة الخزانة الأمريكية سلسلة من الإجراءات ضد الاقتصاد الفنزويلي، بما في ذلك حظر نفطي، في محاولة لإحداث تغيير في النظام.
عمليات استخراج الخام وتصديره تعرضّت لصعوبات جمّة نتيجة الحصار الأميركي المفروض على البلاد، والذي تضمّن حظراً على شراء النفط، ومنعًا لتصدير قطع الغيار اللازمة في عمليات تشغيل مصافي التكرير. وفي ما لو قرّرت المضيّ قُدُمًا بقرارها، سيتعيّن على الولايات المتحدة تاليًا رفع تلك العقوبات كي يتسنى لها استئناف تجارة النفط مع فنزويلا. لكن الأخيرة لا تبدو في عجلة من أمرها، خصوصاً أنها تتوقّع الحصول على المزيد من التنازلات من الغرب. وتجدر الإشارة إلى أن واشنطن كانت صادرت أصولاً فنزويلية واحتجزت الديبلوماسي الفنزويلي أليكس صعب، فيما امتنعت لندن عن إعادة الذهب الذي كان مودعاً لديها إلى كاراكاس.
بالنتيجة، كان تخلّي الولايات المتحدة عن حليفها غوايدو مرجّحًا في ظل إخفاقاته الداخلية وفشله بإثبات أهليته لإدارة البلاد، وخطوة متوقّعة من الولايات المتّحدة لتحصيل المزيد من النفط مع أزمة الطاقة المستجدّة بسبب الحرب بين روسيا وأوكرانيا. فقد وجدت واشنطن اليوم من مصلحتها رفع العقوبات عن فنزويلا التي تقيّد استخراج وتصدير النفط، ولذلك لم تمانع التضحية بحليفها غوايدو الذي أوهمته بإسقاط نظام مادورو عاجلًا أم آجلًا.