• اخر تحديث : 2024-11-22 10:05
news-details
قراءات

إن التغير الذي يشهده النظام الدولي حالياً في تعقيداته وإعادة تشكيله، يشبه تماماً "معضلة المتاهة"، فالمتاهة عبارة عن شبكة من المسارات المختلطة والمتقاطعة والمتشابكة، ومسار واحد فقط هو الذي يؤدي إلى الخروج من هذه المتاهة، وهناك مسارات تجعل طريق الخروج قصيراً بالرغم من كونها معقدة، ومسارات أخرى تجعل طريق الخروج طويلاً للغاية لكنها واضحة، ومسارات ثالثة مغلقة؛ لا نعرف المغلق منها حتى نصل إلى نهاية هذا المسار فنعود من حيث بدأنا. ويزداد الأمر تعقيداً بتغير أنماط هذه المتاهة من حين إلى آخر، تماماً مثلما كان يحدث في الفيلم الشهير "The Maze Runner".

 ومن خصائص هذه المتاهة أيضاً أنها تتغير كليةً وبوتيرة قد تكون سريعة لكنها تظل في النهاية متاهة، وهي أثناء تغيرها تنتج أنماطاً ثابتة حتى وإن كانت غير مرئية، وظواهر جديدة حتى ولو كانت قيّد التشكل، ومفاجآت غير متوقعة مشوبة بحالة من عدم اليقين المطلق، وهي أثناء إعادة تشكلها تغير من طرقها باستمرار لكن يظل هناك طريق للخروج منها في النهاية.

فأي حائط جديد سوف يظهر في الطريق ويغلقه، وأي اتجاه سوف يغير مساره ونحن في منتصف الطريق، وأي عائق سوف ينتقل من مكانه إلى مكان آخر لكي يجعل من مهمة الخروج من هذه المتاهة أمراً معقداً للغاية؟ هنا ثمة أسئلة نظرية كثيرة تمثل إطاراً يمكن إسقاطه على شكل النظام الدولي في مرحلة إعادة التشكيل، تشابه، إن جاز التعبير، المتاهة أثناء عملية إعادة تشكيلها، ولابد من البحث عن إجابة لها، ولو نظرية، حتى يمكن فهم مسار التغيير واتجاهه وسرعته، بما يضمن الخروج الآمن من عملية التغيير.

فكيف يمكن فهم نمط هذا التغيير وسرعته واتجاهه حتى يمكن تحديد طريق الخروج الآمن منه؟ وأي ظواهر جديدة سوف يفرزها هذا التغير دون تحسب مسبق أو توقع؟ وأي ظواهر قائمة كانت بمنزلة دليل للخروج من هذه المتاهة تغيرت ملامحها وزادت من تعقيد الموقف وجعلت مهمة تفسيره وتحليله أمراً معقداً للغاية؟ قد لا توجد إجابات قطعية على هذه التساؤلات، لكنها قد تمثل إطاراً نظرياً يمكن من خلاله فهم التحديات الجديدة التي يواجهها النظام الدولي حالياً.

صدمات متتالية:

تبدو المشكلة الرئيسية أن عمليات التغيير الكبرى في التاريخ كانت قهرية، ولو افترضنا أن التاريخ يدور في دوائر، فليس هناك شك أن الدائرة الجديدة قد بدأت، وبدأت معها المتاهة في إعادة التشكل، مدفوعة في ذلك بصدمات قوية، بدأت مع انتشار فيروس كوفيد-19، الذي أفرز واقعاً جديداً أصبح هو المُعتاد حالياً، فاتجهت الدول إلى غلق الحدود ووقف حركة الأفراد وتوجيه عناصر الإنتاج للاستخدام الداخلي. ونظراً لأن الاقتصاد الدولي قائم على مبدأ "الاعتماد المتبادل"، فقد نتجت عن ذلك حالة من ركود الأسواق، وزيادة في التضخم. وبالتزامن مع وجود ملامح لأزمة اقتصادية كبرى قد تؤثر على شكل النظام الدولي، ظهرت أزمة عسكرية أخرى قد تعصف بما تبقى من هذا النظام من استقرار شكلي، وهي الحرب الروسية - الأوكرانية، أو الحرب الروسية - الغربية، وبدأ الحديث عن كساد تضخمي كبير.

ويتزامن مع الصدمات الاقتصادية والعسكرية والسياسية التي تضرب مفاصل النظام الدولي، من وباء وحرب وأزمة اقتصادية، وجود ثورة تكنولوجية جديدة، يقودها نظم الذكاء الاصطناعي الذي وصفه بعض القادة بأن من سيسيطر عليه، سيقود العالم. وهذه "الثورة الذكية" تأتي ومعها تعريفاتها الجديدة للمفاهيم التقليدية الراسخة مثل القوة والردع والحرب والصراع والهيمنة، وهذه الثورة أيضاً قد تشكل مرجعية للنظام الدولي وتؤثر في إعادة تشكيله. فكما كانت السهام والحراب في وقت من الأوقات هي عناصر القوة، وكما كان البارود ومن بعده الطائرات والدبابات ثم القنبلة الذرية هي عناصر القوة، فالأمر أيضاً بات يتغير، حتى الأسلحة التقليدية أصبحت تعتمد على التقنيات الذكية، وهو ما دفع الدول الغربية لمنع تصدير المنتجات ذات التكنولوجيا العالية إلى من تعتبرهم في ثقافتها أعداءً لها.

ملامح إعادة التشكيل:

إن الملامح التي تسيطر على شكل النظام الدولي الحالي تكاد تشابه مثيلتها قبل تشكيله، فبعد مائة عام تقريباً من أزمة الكساد الكبير في عام 1929، يقترب العالم من أزمة اقتصادية أخرى مماثلة. وبعد عقود من الازدهار والتقدم، تعود أوروبا للظلمة من جديد بفعل الحروب، ومثلما فشلت عصبة الأمم قبل مائة عام في تحقيق الأمن والسلم الدوليين، تفشل حالياً الأمم المتحدة ومجلس الأمن في منع قيام حروب كبيرة، وأيضاً الوضع يبدو مماثلاً فيما يتعلق بانهيار القوى التقليدية في ذلك الوقت - فرنسا وبريطانيا- بسبب الإنهاك العسكري والاقتصادي، وحل محلها الاتحاد السوفييتي السابق والولايات المتحدة الأمريكية. ومع وجود ثورة صناعية رابعة تتعاظم في سرعتها وقوتها، بدأت متاهة النظام الدولي في التشكل مرة أخرى، وهي أثناء تشكلها سوف تفرز ظواهر ومفاهيم وأنماطاً وأُطراً لم تكن موجودة أو متوقعاً ظهورها من قبل.

وتتطلب مرحلة إعادة التشكيل هذه، النظر في المفاهيم التقليدية مرة أخرى، حتى يمكن تسمية الأشياء بمسماها الصحيح، فندرك ما نقصد، ونفهم ما نتفق ونختلف عليه، ونضع الآليات المناسبة للتعامل مع الظواهر المتغيرة والجديدة، ثم تأتي عملية صياغة مفاهيم تفسيرية جديدة تشرح الظواهر التي أفرزتها عملية إعادة التشكيل، وصياغة كذلك إطار نظري يمكن من خلاله فهم الواقع الجديد وتفسيره بما يخدم عملية صُنع القرار، بدايةً من التعريف التقليدي لمفهوم الدولة، والحرب، والنظام، والدولي، والإقليمية، والفرعي، والأصدقاء، والأعداء، والقيم.

فالدولة لم تعد ذات سيادة، على الأقل، على مواطنيها، بفعل تقنيات الاتصالات المتطورة مثل الشبكات الاجتماعية وما يتبعها من الميتافيرس، والنظام أصبح فوضوياً تشوبه حالة اللايقين المطلقة، ويصعب ليس فقط التنبؤ بمساراته، بل حتى رؤية المسارات الواضحة منها، والنظام الدولي لم تعد تسيطر عليه القوى الغربية مثلما اعتادت منذ تشكيله، كما أن القيم الغربية التي تم فرضها على النظام والقانون الدوليين لكي تصبح ثقافة عالمية واحدة أصبحت محل هجوم وموضع نقد لدى كثير من المجتمعات غير الغربية، خاصةً فيما يتعلق بازدواجية المعايير، مثل فرض العقوبات على الدول التي تختلف في نظامها القيمي عن الغرب وتشكل تهديداً لمصالحه، والتدخل في النظم السياسية بداعي الحفاظ على الديمقراطية وحقوق الإنسان، فضلاً عن انتشار دعوات المثلية الجنسية وحرية تحويل الجنس.

حتى العولمة التي قام عليها النظام الدولي الحالي، خاصةً بعد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، وتم اعتبارها الإطار القيمي الثقافي للنظام الدولي؛ أصبحت هي الأخرى موضع إعادة تعريف. فنجد أن الدول الغربية التي دفعت نحو تبني هذا النمط القيمي العالمي، بدأت تتراجع عن سياستها، فأغلقت الحدود وقيّدت حركة الأفراد وعناصر الإنتاج، مدفوعة في ذلك بانتشار وباء كوفيد-19، أو رغبة منها في تقييد حركة المهاجرين إليها مثلما فعل الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، أو حتى تغير منظورها إلى العالم، فبدأت تنظر إليه على أنه عبء عليها ويجب أن تحافظ على نفسها من المخاطر التي تحيط بها مثلما شبّه مفوض الأمن والخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، في 13 أكتوبر 2022، أوروبا "المتميزة" بـ "حديقة"، والعالم من حولها بـ "أدغال" يمكن أن تغزو الحديقة.

ولكن من ناحية أخرى، عززت تقنيات الاتصالات من ربط الأفراد بعضهم ببعض، وبدأ يظهر وطن افتراضي عالمي عبر شبكة الإنترنت، وقريباً عبر الميتافيرس، وبالتالي تتشكل لدينا عوالم جديدة، لكل منها مواطنوها ودستورها وقوانينها التي تحكمها بعيداً عن الواقع، ويغالي كل عالم منهم في التميز والتفرد لكي يقدم نفسه على أنه النموذج الأنجح والأفضل، فيشت الجميع عن السنن الكونية وبدهيات الحياة الواقعية، وتظهر أنماط مختلفة من التفاعلات الإنسانية واللاإنسانية، بين البشر وغير البشر، بل بين الأحياء والموتى، وتظهر قيم وثقافات عابرة للهويات، وقوميات عابرة للحدود.

تساؤلات مفتوحة:

امتداداً لما سبق، ثمة تساؤلات عديدة، ومنها هل ما زلات الولايات المتحدة قوة مهيمنة على النظام الدولي تستطيع التأثير فيه سياسياً وعسكرياً واقتصادياً؟ حتى وإن كانت، هل لا زالت تمتلك الدافع والرغبة في تحقيق ذلك، أم أنها تحاول فقط التصرف وكأنها قوة مهيمنة "Act as"؟ أي تحاول الحفاظ على مكانتها وشكلها كقوة دولية من دون امتلاك آليات حقيقية للتأثير.

أيضاً، أي مفهوم نقصد بالعولمة؟ وما هو تعريف الهيمنة؟ وأي مفهوم نقصد بالدولة؟ وماذا نقصد بالسيادة؟ وما هو تعريف المواطن؟ وكيف يمكن تحديد المصلحة القومية؟ وما هو شكل النظام الدولي الذي تمر من خلاله هذه التفاعلات؟ ومن هم المؤثرون فيه؟ وما هي عناصره؟ وما هي مرجعية القيم التي سوف تسيطر عليه؟ وكيف سيكتسب شرعيته؟ فإذا كان النظام الحالي اكتسب شرعيته بعد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق من انتصار الأيديولوجية الرأسمالية الغربية على المعسكر الاشتراكي، وكانت مرجعيته مادية غربية، كيف سيستقي النظام العالمي الجديد، إن جاز التعبير، مبادئه وقيمه، ومن أي اتجاه؟

ولا تدور التساؤلات فقط حول شكل وماهية وعناصر النظام الدولي، بل باتت التساؤلات أيضاً كثيرة حول مستقبل التنظيمات الإقليمية والفرعية، والتحالفات التقليدية والراسخة التي بدأ بعضها في التفكك والتآكل، وعلاقات الأصدقاء القدامى التي تشهد خلافات أحياناً، وأصبح الأعداء القدامى أقرب للأصدقاء، فهل اختلاف المصالح حتى بين المتفقين في القيم والثقافة هو وقتي وسوف ينتهي أم مستمر، وما هو شكل هذه العلاقة؛ صديق أم عدو أم الصديق العدو؟

هذا على مستوى المفاهيم الراسخة التقليدية التي بدأت تتغير، لكن ماذا أيضاً عن المفاهيم الجديدة التي سوف تفرزها مرحلة المخاض، أي المفاهيم التفسيرية التي يمكن أن تشرح الظواهر المستجدة بفعل الثورة الصناعية الرابعة؟ وهل هذا النظام الدولي سوف يعطي الدول وضعها باعتبارها الفاعل الرئيسي فيه، أم سيعظم من دور فواعل آخرين مثل شركات التكنولوجيا العملاقة التي أصبحت لديها قدرات تأثير أكبر من الدول؟ وما هي الصيغة التي يمكن أن تنشأ من تفاعل الدول مع هذه الشركات؟ وما هي المؤسسات الدولية التي يمكن أن تظهر لكي تحكم هذه العلاقة وتديرها؟

وفي النهاية ما هو الإطار النظري الذي يمكن من خلاله فهم الواقع وتفسيره وتحليله والتنبؤ بمساراته وتحديد اتجاهاته، حتى تستطيع الدول أن تعرف، وفق قدراتها وإمكانياتها، أين ستكون، وعلى أي شكل، حينما يتشكل هذا النظام الجديد؟