وصل المستشار الألماني، أولاف شولتز، للصين يوم 4 نوفمبر، حيث التقى بنظيره الصيني، شي جين بينغ، في أول زيارة لمسؤول غربي لبكين منذ جائحة كورونا، في رحلة استغرقت 11 ساعة فقط، وهي أقصر رحلة يقوم بها زعيم ألماني إلى الصين. وتأتي تلك الزيارة في ظل تفاقم حدة التوتر في العلاقات الغربية – الصينية.
دوافع زيارة شولتز:
تتمثل أهم أهداف ودوافع زيارة شولتز إلى بكين في هذا التوقيت في التالي:
1- التراجع عن معاداة الصين: أشار شولتز في مقال صحفي نُشر في بوليتيكو قبيل زيارته بكين، إلى أنه "إذا تغيرت الصين، فإن العلاقات الألمانية مع الصين يجب أن تتغير أيضاً". وحتى في ظل الظروف المتغيرة، تظل الصين شريكاً تجارياً مهماً لألمانيا وأوروبا. لا يمكن الانفصال عنه، وهو ما يُستدل منه على التوجه الألماني نحو تعزيز العلاقات مع الصين.
كما أن مثل هذا النهج سوف يمثل تراجعاً عن السياسة التي أعلنتها برلين على لسان وزيرة خارجيتها، أنالينا بربوك، والتي أكدت أنها تسعى نحو بلورة استراتيجية جديدة تجاه الصين تغاير النهج المهادن للمستشارة الألمانية السابقة، أنجيلا ميركل. وكان من المتوقع أن تكون هذه السياسة أكثر عداءً للصين على أساس أن بربوك وصفت بكين، فور توليها منصبها، بأنها "خصم منهجي" لبرلين.
2- التأكيد على استقلالية برلين: حرص شولتز على التخلص من التبعية للموقف الأمريكي على صعيد السياسة الخارجية تجاه الصين، وذلك عبر الانفتاح على العلاقات معها على أسس برجماتية وبصورة تخدم المصالح الألمانية.
وعلى الرغم من ذلك، فإن شولتز أصر أن زيارته لبكين جاءت بالتشاور مع الشركاء الأوروبيين وأنه يزور الصين كمسؤول أوروبي وليس كمسؤول ألماني فقط.
3- تعزيز العلاقات الاقتصادية: يتمثل أحد أهم دوافع التعويل الألماني على الشراكة مع الصين في الوضع الاقتصادي المتأزم الذي تشهده ألمانيا، الأمر الذي دفعها للعمل على تنمية التعاون مع الصين في هذا التوقيت، نظراً لحاجة الاقتصاد الألماني لتلك الشراكة الاقتصادية في ظل شبح الركود الذي يواجهه الاقتصاد الألماني بفعل ارتفاع أسعار الطاقة في ضوء تداعيات الحرب الروسية – الأوكرانية.
وأكد شولتز خلال لقائه الرئيس شي أنه يسعى إلى تنمية العلاقات الاقتصادية بين البلدين، فضلاً عن تعزيز التعاون بشأن القضايا المهمة الأخرى، مثل تغير المناخ والأمن الغذائي والدول المثقلة بالديون، والطاقة الجديدة والذكاء الاصطناعي والرقمنة. وليس أدل على طغيان الاعتبارات الاقتصادية في طبيعة الوفد الذي صاحب شولتز، فقد كان الوفد يضم نحو 12 مديراً تنفيذياً لكبريات الشركات الألمانية بمجالات الدواء والطاقة والصناعة والسيارات وغيرها.
وتعتبر الصين الشريك التجاري والاستثماري الأكبر لألمانيا، حيث وصل حجم التبادل التجاري إلى أكثر من 245 مليار يورو في عام 2021. كما أن هناك استثمارات ألمانية في قطاعات مختلفة في الصين. ففي سبتمبر 2022، افتتحت المجموعة الكيميائية "بي إيه إس إف" (BASF) مصنعاً جنوب الصين، باستثمارات إجمالية تصل إلى حوالي 10 مليارات يورو بحلول عام 2030. هذا بالإضافة للاستثمارات الألمانية بمجال السيارات، خاصة مع تمركز نحو 40% من مبيعات شركة فولكس فاجن الألمانية في الصين.
وتجدر الإشارة إلى أن الشركة قد رفضت إغلاق مصنعها بمنطقة شينجيانج على أثر الإدانة الأممية لانتهاكات حقوق الإنسان بالإقليم. وتخطط الشركة لمشروع برمجيات كبير مشترك مع شركة التكنولوجيا الصينية "هورايزون روبوتيكس" (Horizon Robotics)، بحجم استثمار يبلغ 2 مليار يورو.
دلالات استراتيجية ورمزية:
كان من الواضح أن اللقاء الذي جمع بين الرئيس شي والمستشار شولتز حمل العديد من الدلالات، والتي يمكن تفصيلها على النحو التالي:
1- مباركة ألمانية لعهد شي: جاءت زيارة شولتز بعد فترة قصيرة من تولي الرئيس شي رئاسة الصين لفترة رئاسية ثالثة. كما أنه الزعيم الأوروبي الأول الذي يزور الصين بعد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي. ويلاحظ أن الزيارة جاءت إلى بكين على الرغم من الانتقادات الغربية للرئيس شي، والمخاوف من تبنيه سياسات متشددة، داخلياً وخارجياً، فضلاً عن سعي واشنطن للضغط على الاتحاد الأوروبي لتبني مواقف أكثر حدة تجاه الصين، خاصة فيما يتعلق بسياساتها تجاه تايوان. كما ترغب واشنطن في أن تتراجع الاستثمارات الغربية في الصين، وذلك لإضعاف الاقتصاد الصيني، ومن ثم إبطاء صعود بكين إلى مصاف القوى الكبرى.
2- رغبة بكين في تحييد التأثير الأمريكي: أكد شي أهمية الاحترام المتبادل بين البلدين مع حرصهما على المقاومة المشتركة ورفض الانتقادات والتدخلات بحق شراكتهما، مع العمل على الحفاظ على وجود قنوات اتصال مباشرة بينهما، في مؤشر على أن بكين ترغب في ألا تتأثر العلاقات الصينية – الألمانية بسياسات واشنطن تجاه بكين، خاصة مع حرص الولايات المتحدة للضغط على الدول الأوروبية لتبني مواقف مناوئة تجاه الصين.
3- تركيز برلين على جوانب حقوقية: أعلن شولتز، قبل وصوله للصين، أنه بصدد طرح بعض من المواضيع "الصعبة" على نظيره الصيني، وتشمل احترام الحريات المدنية وحقوق الأقليات العرقية في شينجيانج، إلى جانب التأكيد على حرية وعدالة التجارة الدولية.
كما أجرى شولتز محادثات مع حقوقيين معارضين للصين قبيل جولته؛ تأكيداً منه على الرفض الألماني للعديد من الممارسات والانتهاكات الصينية. ناهيك عن تأكيده أهمية تبادل وجهات النظر والتواصل مع الجانب الصيني بشأن القضايا الخلافية بينهما.
وفي المقابل، حذرت الصين من أي تدخل في شؤونها الداخلية، ورفضت أي اتهامات توجه لها وتتعلق بحقوق الإنسان والأوضاع الداخلية، وفقاً لما أفاد به المتحدث باسم وزارة الخارجية تشاو ليجيان، وهو ما يعني أن بكين ترفض أن تتفاهم حول هذه القضايا مع برلين.
4- محاولة شولتز إدانة روسيا: أكد شولتز أنه نجح في دفع بكين لاتخاذ موقف متشدد حيال روسيا، وذلك عبر تأكيده أن الدولتين اتفقتا على معارضة أي استخدام للأسلحة النووية في الحرب الروسية – الأوكرانية، وهو ما يحمل إدانة ضمنية لموسكو، على أساس أنها هي التي تمتلك السلاح النووي، وتهدد باستخدامه، غير أن الرواية الصينية كانت أقل انتقاداً لروسيا، إذ أشارت إلى أن شي أكد لشولتز أن المجتمع الدولي يجب أن يعارض استخدام السلاح النووي أو التهديد باستخدامه، وأن يلعب دوراً في منع حدوث أزمة نووية في أوراسيا.
كما دعا شولتز نظيره الصيني لاستخدام نفوذ بلاده من أجل الضغط على روسيا. ولا يتوقع أن تكون برلين قد نجحت في مسعاها هذا، خاصة أن بكين تتبنى الرواية الروسية للصراع، والتي تلقي باللوم على اندلاع الحرب على الولايات المتحدة ومساعيها لمد حلف الناتو إلى الحدود الروسية.
انقسامات داخلية وغربية:
أثارت تلك الزيارة العديد من ردود الأفعال، وحملت في طياتها العديد من الدلالات والتداعيات لعل أبرزها:
1- تباينات الائتلاف الحكومي الألماني: يتبنى شولتز نهجاً مفاده تعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية مع الصين على نحو برجماتي، بينما تتصاعد المخاوف، من أعضاء الائتلاف الحكومي، بشأن تزايد اعتماد الصناعات الألمانية على الصين إلى الحد الذي يهدد استقلالية الاقتصاد الألماني، في تكرار لسياسة المستشارة الألمانية السابقة، أنجلا ميركل، والتي رفضت تقليص تبعية الاقتصاد الألماني على موارد الطاقة الروسية.
وعبرت وزيرة الخارجية الألمانية عن هذا الموقف، إذ أشارت إلى أن الأخطاء المُرتكبة في الماضي في العلاقة مع روسيا يجب تجنب تكرارها في التعامل مع الصين. هذا فضلاً عن رفض أحزاب المعارضة لهذا النهج في العلاقات مع الصين، مثل حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي.
وتجدر الإشارة إلى تفاقم الخلافات داخل الحكومة الألمانية مؤخراً على أثر السماح لشركة الشحن البحري الصينية "كوسكو" بشراء حصة في محطة الحاويات بميناء هامبورج خوفاً من الاستحواذ الصيني على البنى التحتية الاستراتيجية لألمانيا، إلا أن المستشار الألماني مضى قدماً ورفض الانصياع لدعوات رفض تلك الصفقة من قبل 6 وزراء، وسمح للشركة بالاستحواذ على حصة أقلية.
ومن ناحية أخرى، تزايدت التحذيرات الاقتصادية والاستخباراتية داخل ألمانيا من مخاطر تزايد التعويل الاقتصادي على الصين للتصدير وللحصول على المواد الخام والمواد الأرضية النادرة، التي تهيمن الصين على صادرتها، إلا أن تحذيرات وزارة الشؤون الاقتصادية (بقيادة حزب الخضر) وكذلك وزارة الخارجية لم تثن الحكومة بقيادة شولتز ومعه مجمع الصناعة الألمانية عن المضي قدماً في تعزيز العلاقات مع الصين.
2- انقسامات أوروبية – أمريكية محتملة: تشير بعض التقديرات إلى أن التقارب الألماني – الصيني قد يضر بعلاقة ألمانيا بالولايات المتحدة في وقت تتأجج فيه حدة الخلافات بين القطبين الأمريكي والصيني في إطار تنامي الحرب التكنولوجية بينهما والصراع حول تايوان، نظراً لأن التحركات الألمانية تأتي على نحو مخالف للتوجهات الأمريكية، بما قد يُعرض ألمانيا للضغوط الأمريكية لتقييد علاقاتها بالصين.
وقد تدفع تلك الزيارة قادة أوروبيين آخرين لاتخاذ خطوات مماثلة وتعزيز التقارب مع الصين، مثل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فوفقاً لرويتز، فقد اقترح ماكرون مصاحبة شولتز في تلك الزيارة لإعطاء انطباع بشأن وحدة الاتحاد الأوروبي، لكن شولتز رفض الاقتراح.
وفي الختام، تعكس زيارة شولتز لبكين رغبة برلين في عدم التماهي مع السياسة الأمريكية الرامية إلى معاداة الصين، وذلك بالنظر إلى عدم قدرة الاقتصاد الألماني على تحمل مثل هذه القطيعة مع بكين، خاصة بعد أن دفعت برلين تكلفة اقتصادية عالية بسبب اتجاهها لتقليص الاعتماد على موارد الطاقة الروسية في أعقاب الحرب الأوكرانية. وحرص شولتز على الحديث عن موقف صيني رافض لاستخدام روسيا للأسلحة النووية في محاولة لإيجاد القبول لزيارته غربياً على أساس أنه نجح في التأثير على الموقف الصيني من موسكو، وإن بشكل محدود، ومن ثم استيعاب الانتقادات الداخلية والغربية لزيارته بكين.